ولكن مع ذلك كلهِ لا نقدر أن ندرك موت المسيح ما لم نغضَّ النظر تمامًا عن البشر وننظر إلى يد الله. قد علمنا ما عمل الناس إذ أهانوهُ إهانة غير اعتيادية حتى الخدام في دار رئيس الكهنة لطموهُ وأولئك العساكر الوثنيون المتعودون على ممارسة كل نوع من القساوة ضربوهُ وبصقوا على وجههِ العزيز ولم يتركوا واسطة من الوسائط الآئلة إلى زيادة الذلّ إلاَّ استعملوها ذلك مع أن الوالي كان يشهد جهارًا لبراءتهِ ثم بعد ما سمروهُ على الخشبة شرع الجمهور ينتهزون فرصتهم ليُجازوا عن الخير بالشر إذ كانوا قد فقدوا كل حياء وشفقة ونسوا سريعًا تلك الأعمال الحنونة التي كانوا ينتفعون بها من يديهِ قبلاً أو بالأحرى ذكروها لكي يُعيّروهُ بسببها وكان المجتازون يُجدّفون عليهِ وهم يهزُّون رؤسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيهِ في ثلاثة أيام خلص نفسك، إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلَّص آخرين وأما نفسهُ فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن بهِ، قد اتكل على الله فلينقذهُ الآن إن أرادهُ. لأنهُ قال: أنا ابن الله. وبذلك أيضًا كان اللصان اللذان صُلبا معهُ يعيرانهِ (مَتَّى 39:27-44). صار كل ذلك من الناس في الوقت المعطى لهم من الله ليُظهروا علانية أي مقدار كانوا يعتبرون المسيح ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة (لوقا 53:22) فتسابقوا في من منهم يزيد على الآخرين بإهانة ابن الله وحينئذٍ تبرهن أن إبليس سلطان هذا العالم لأنهُ كان قادرًا أن يستعمل الجميع آلات لظلمهِ. كان قد استخدم واحدًا من التلاميذ ليسلم سيدهُ وآخر لينكرهُ والوالي المأمور من الإمبراطور المُقتدر ليحكم عليهِ ولكن الآن قد أتت الفرصة لله الذي تداخل هو نفسهُ تعالى في ظروف تلك الحوادث العجيبة وإذ ذاك خاف البشر مرتعدين من مشاهدة تغيُّرات الطبيعة التي أكدت لهم أن الخالق آخذٌ بالعمل في وسطهم وتركوا فريسة غضبهم راجعين إلى المدينة لاطمين التلاميذ والحرَّاس الذين اضطرُّوا أن يكملوا مأموريتهم. حتى الظلام غير الاعتيادي الذي غطى وجه الشمس مرخيًا أجنحة الليل الدامس على كل الأرض في نصف النهار صرَّح بحضور الله حال كونهِ مجريًا عملاً خارق العادة. ولكن أعجب العجائب أنهُ لم يكن متداخلاً ليُنجي حبيبهُ وينتقم من مُعذبيهِ بل ليعمل ما لم يسبق لهُ نظير فإنهُ كان معتادًا قبلاً أن يسرع إلى معونة الأبرار المُستغيثين بهِ لينقذهم من يد الظالمين ولكنهُ في تلك الساعة لم يُصغ إلى صوت ابن مسرَّتهِ بل ستر عنهُ لمعان وجههِ ساكبًا عليهِ كل لجج غضبهِ ذلك الغضب الذي كان يجب أن ينصبَّ صرفًا علينا. حتى المسيح نفسهُ اضطرَّ أن يعترف علنًا أنهُ متروك من الله مصادقًا على افتراء أعدائهِ. فماذا يليق بنا أن نفعل عندما نلتفت إلى هذا المنظر الغريب؟ ألا نغطي وجوهنا بالتراب ساجدين على الأرض أمام جلال الله مقدمين لهُ الشكر والتسبيح؟ قائلين: بأنهُ قد فعل (مزمور 31:22). نعم الله نفسهُ فعل مُظهرًا برَّهُ لأجل الإنسان الأثيم العديم البر. فهنا نرى الشرَّ العظيم المتعلق بعمل الفداء بحيث ذاك الذي لم يعرف خطية جُعل خطية لأجلنا إذ اتخذ خطايانا على نفسهِ البارة وتحمَّلها لدى الغضب العادل حتى أن العدل الإلهي اكتفى وقال: قد كفى. وبعد ما كان قد أكمل الكفارة بحسب كل مطاليب طبيعة الله القدوسة رجع أيضًا إلى لمعان وجه الله البهي واستودع روحهُ ليد أبيهِ قائلاً: قد أُكمل ونكس رأسهُ وأسلم الروح.
وأما الآن المسيح ليس على الصليب ولا في القبر بل عن يمين الله أقامهُ من الأموات اعتبارًا لمبادئ العدل وبادر إلى إجراء الأعمال التي تكافيهِ عن كل ما كان قد عملهُ تمجيدًا لله وإذ لم يكن موضع في الأرض يليق بشأنهِ أصعدهُ إلى السماء وأجلسهُ في المجد الأسنى قاصدًا أن يعدَّ لهُ رُفقاء في المجد ويخضع أمامهُ جميع الأشياء. وأننا لا نقدر أن نفتكر في استحقاقات آلامهِ بقطع النظر عن شخصهِ الحي المبارك وعن الموضع الذي هو فيهِ. وصار بذاتهِ الكفارة أو غطاء تابوت العهد حيث يمكن لله أن يجتمع بالإنسان. أيضًا عندما يُقدمهُ الله للخطاة مجانًا في البشارة لا يزال متذكرًا كل ما عمل مرةً حين قام مقامنا لدى العظمة الإلهية محتملاً كل ما كانت تلك العظمة تطلب وبناء على ذلك يخاطبهم قائلاً: هوذا واحدٌ أني أستطيع أن أقبلكم فيهِ. تعالوا، فكل مَنْ يسمع ويأتي يجد خطاياهُ مرفوعة إلى الأبد ولا يأتي إلى دينونة لأن الدينونة وقعت مرة واحدة على الذي ناب عنهُ وهو مقبول أيضًا أمام الله على حساب قيمة دم المسيح ومجد شخصهِ ويسرُّ الله فيهِ ويعتبرهُ ويعاملهُ كأنهُ لم يخطئ قط. نعم ولهُ برٌّ كاملٌ مؤبدٌ لأن المسيح نفسهُ الجالس عن يمين الله هو برُّهُ (كورنثوس الأولى 30:1؛ كورنثوس الثانية 21:15).
لا شك أن المسيح حمل الله الذي تعيَّن قبل تأسيس العالم ومهما كان الله قد عمل من الرحمة لنحو البشر قديمًا إنما عملهُ بالنظر إلى ما كان مزمعًا أن يُكملهُ فيما بعد على أنهُ لم يُظهر ذلك قبل الوقت المعين (غلاطية 4:3). وأما من جهة البشر فكان قد مضى عليهم أربعة آلاف سنة في الحالة المتقدم إيضاحها في هذه الرسالة. وبدون سفك دم لن يحصل مغفرة. حتى الرموز والفرائض الموجودة في العهد القديم صرَّحت بإثم الإنسان وضرورية سفك الدم للكفارة. كانت نار العدل متوقدة وآثام البشر مثل الحطب قدامها ولكن أين الحمل لأجل المحرق؟ كما قال إسحاق لأبيهِ: هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى لهُ الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معًا (تكوين 8:22).
لإظهار برّهِ من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله لإظهار برّهِ في الزمان الحاضر ليكون بارًّا ويبرّر مَنْ هو من الإيمان بيسوع (عدد 25، 26). فنرى شيئين مذكورين هنا عن قصد الله بإظهار برّهِ
أولاً- كان الله قد عفا عن الخطايا السالفة أي خطايا المؤمنين الذين عاشوا قبل زمان موت المسيح كأخنوخ وإبراهيم وداود وغيرهم ولم يعاملهم بمقتضى العدل والسبب لذلك لم يظهر قبل تقديم المسيح كفارة على الصليب. ليس لأن مغفرة الخطايا لم تكن موجودة في تلك الأجيال فإنها كانت موجودة ومعروفة أيضًا، انظر قول داود النبي: إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيد فمَنْ يقف لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك (مزمور 3:130، 4) وشهادات أخرى كثيرة واردة بهذا المعنى عينهِ فأولئك المؤمنون صدَّقوا ما قيل لهم من جهة غفران خطاياهم وأصبحوا آمنين مع أنهم يكونوا عارفين السبب الذي جعلهُ ممكنًا لله تعالى أن يعفو عنهم. حتى داود نفسهُ أولهم في المعرفة الروحية لم يدرك سرّ الفداء إلاَّ إدراكًا جزئيًا فقط كان يعرف أن المغفرة لا تصير بلا سفك الدم وأن الذبائح المقدَّمة حسب الشريعة لا تكفي انظر قولهُ: لأنك لا تسرُّ بذبيحة وإلاَّ فكنت أقدّمها، بمحرقة لا ترتضي (مزمور 16:51) وإذ ذاك التجأ رأسًا إلى رحمة الله حسب قولهِ المتضمن في أول هذا المزمور: ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ (عدد 1) قال بولس عن هذا الموضوع: لأن الناموس إذ لهُ ظلُّ الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء لا يقدر أبدًا بنفس الذبائح كل سنة التي يُقدمونها على الدوام أن يكمل الذين يتقدمون وإلاَّ، أَ فما زالت تُقدَّم؟ من أجل الخادمين وهم مطهَّرون مرَّةً لا يكون لهم أيضًا ضمير خطايا. لكن فيها كل سنة ذكر خطايا لأنهُ لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا (عبرانيين 1:10-9) فلم تكن تلك الذبائح سوى ظلٍّ أو رمز إلى ذبيحة أفضل معروفة جيدًا عند الله الذي علمهُ محيط بكل شيء ماضيًا كان أو مستقبلاً غير محتسب لمرور الزمان لكن مستترة عن الناس في تلك الرموز التي كانت تُنبههم على ضرورة سفك الدم بدون أن تكشف لهم ما هو الدم الكريم المرموز إليهِ. لذلك كل ما انتبه نظير داود لم يكتفِ بممارسة الطقوس الرمزية بل استأنف دعواهُ لرحمة الله واثقًا بالله نفسهِ الذي هو ينبوع النعمة سواء كان قد أعلنها إعلانًا كاملاً أو جزئيًا فقط. انظر أيضًا (بطرس الأولى 10:1-12). وإن كان ذلك كذلك لا نصيب إذا قلنا أن المؤمنين خلصوا بموجب استحقاقات موت المسيح نظيرنا ولكن الفرق بين معرفتهم بذلك ومعرفتنا عظيم جدًّا بحيث أنهم لم يعرفوهُ مطلقًا كما تقدم وأما نحن فجوهر إيماننا أن المسيح قد مات وقام.
إن الله يُعامل البشر حسب المُعتقد الذي يضعهُ لهم في وقتٍ ما وكل مَنْ يؤمن بهِ بموجبهِ تكون لهُ الحياة الأبدية، فإنهُ من الأمور الواضحة أن الإيمان متعلق على كلمة الله إذ لا نقدر أن نؤمن إلاَّ على حسب ما يكون الله قد أعلن، فاستحسن الله في ذلك الوقت أن يعلن وحجتهُ ويُعامل الناس على مبدأها وكل مَنْ آمن بهِ بالنظر إلى كونهِ الإله الواحد خلص. آمن إبراهيم بالله فحُسب لهُ برًّا. فنرى إذ ذاك أن الشيطان كان يبذل كل الجهد ليحمل الناس إلى نكران وحدة الله بإقامة عبادة الأوثان لكي يعدمهم الحياة الأبدية وأما بعد موت المسيح فيجتهد أن يعمي أذهانهم لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله (كورنثوس الثانية 4:4) فلا يهمهُ إن كان الناس يقرُّون بوحدة الله حال كونهم منكرين المسيح أو يعترفون شفاهًا بالمسيح بينما يهملون حقيقة الإيمان بدمهِ، لأنهُ على الحالتين قد أحرمهم الحياة الأبدية.
ثانيًا- الله أظهر برَّهُ في الزمان الحاضر ليكون بارًا ويبرر مَنْ هو من الإيمان بيسوع. فإنهُ يبرر الفاجر المؤمن بيسوع ولا يزال بارًّا أي عادلاً بسبب أن دم يسوع قد سدّ مطاليب العدل. لو كان قد غفر خطايانا بدون الكفارة لم يكن عادلاً وإذ ذاك كان ممكنًا لهُ أن يتكلَّم عن رحمتهِ، ولكن أين كان عدلهُ؟ ولكنهُ لم يفعل ذلك بل أوجد طريقًا بهِ يمحو خطايانا بعدل تام ونعمة لا توصف ويدخلنا تحت العهد الجديد قائلاً: لأني أكون صفوحًا عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد (عبرانيين 12:8.
27 فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَّلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ. (عدد 27). فيستعمل لفظة ناموس بمعنى مبدأ مصرحًا أن التبرير مجانًا بواسطة الإيمان فقط ينفي الافتخار نفيًا مطلقًا لأن الإنسان لم يقدّم شيئًا لخلاص نفسهِ سوى خطاياهُ فقط.
28 إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ. (عدد 28. سبق قولهُ: لأنهُ بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامهُ (عدد 20) حيث ينفي التبرير بواسطة الأعمال وأما هنا فيذكر النتيجة الإيجابية المبنية على كلامهِ عن إظهار برّ الله وهي أن التبرير بالإيمان بدون الأعمال. ومما يجب لن نلتفت إليهِ كل الالتفات أن أعمال الناموس المذكورة هنا هي الأعمال الصالحة المطلوبة منا بالناموس فإنها لو كانت موجودة لا تنفعنا من جهة التبرير. نعم أنها تفيدنا في عيشتنا في هذا العالم ولكنها لا تؤهلنا للوقوف أمام عرش القضاء وعدا ذلك لا يجوز امتزاج الإيمان والأعمال.
29 أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا (عدد 29). فالإنسان يميل دائمًا إلى أن ينحصر في دائرة أفكارهِ الخاصة الضيقة خصوصًا إن كان قد حصل على بعض امتيازات من الله وكلما فقد حقيقة معرفة امتيازاتهِ متغاضيًا عن السلوك اللائق بها ازداد افتخارًا بذاتهِ وازدراء بالآخرين وعوضًا عن أن يستعمل النور الموجود عندهُ كهبة صالحة من الله ليظهر لهُ نقائصهُ وعيوبهِ يعظّم نفسهُ لكونهِ فائزًا بما ليس للآخرين كأنهُ أفضل منهم لا بل يحكم عليهم كأنهُ هو القاضي ظانًا في بُطل ذهنهِ أن الله نفسهُ مضطرٌّ أن لا يتصرف إلاَّ على حسب حكمهِ الفاسد. معلوم أن اليهود كانوا في حالة كهذه. حتى الذين اقتنعوا تمامًا أن يسوع الناصري الذي مات وقام هو المخلص الوحيد لم يكونوا مفتكرين في الأول أن الخبر عن فوائد موتهِ يُنادى بهِ بين الأُمم لخلاصهم ولما شرع الرب يخلص أُناسًا أُمميين بالإيمان ظهر أن ذلك أمر صعب في عيون اليهود المؤمنين كما نرى في سفر الأعمال ولكن مع ذلم لم يمتنع الله عن العمل بين الأُمم لأنهُ لم يكن قد أعطى ابنهُ الوحيد إلاَّ حبًّا بالعالم أجمع وإذ ذاك لا يمكن حصر الخلاص بين اليهود فقط.
لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. (عدد 30). ففي اللغة الأصلية يوجد اختلاف بين حرفي الجر المترجمين بالباء في هذا العدد فقولهُ: سيبرر الختان بالإيمان، هو حقيقة من الإيمان. أي على مبدأ الإيمان خلاف المبدأ الناموسي إشارة إلى كونهم تحت الناموس طالبين أن يتبرَّروا بهِ وأما في قولهِ: عن الأُمم والغرلة بالإيمان فالباء في محلها والمعنى أنهُ يبرر الأُممي بالإيمان إذا كان الإيمان موجودًا فيهِ.
31 أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ. (عدد 31). فهنا مسألة مهمة من جهة النسبة بين النعمة والناموس فإنهُ إن كان الناموس قد صرَّح باللعنة على الفاجر وظهرت النعمة وخلصتهُ فكأنها قد خطفتهُ من يد الناموس خطفًا أفلا تكون حطّت بشأن سلطان الناموس؟ كلاَّ، لأن الله لما أظهر نعمتهُ قدّم الاعتبار الواجب لناموسهِ الصالح المقدس الحاكم علينا إذ المسيح احتمل اللعنة لأجلنا وبهذه الواسطة حافظ الله على شرف الناموس وأكرمهُ أكثر مما لو وقع علينا حكمهُ إلى الأبد. قولهُ: نثبت الناموس، لا يشير مطلقًا إلى وضعهِ علينا كقانون لحياتنا لأنهُ يُعلّمنا في هذه الرسالة عينها أننا لسنا تحت الناموس بل قد متنا لهُ غير أنهُ موجود بعد جزءًا من إعلانات الوحي حاكمًا على المذنبين ولكنهُ ليس موضوعًا على المؤمنين فإنهم لو كانوا تحتهُ لكانوا تحت اللعنة أيضًا لا محالة لأنهُ يلعن مَنْ لا يحفظهُ بالتمام وإن كنت تضعهم تحتهُ ولا تدعهُ يلعنهم بطلت سلطانهُ وأهنتهُ بحيث أنهم بحسب مبدئك هذا تحت الناموس ويُخالفونهُ بدون شك ولكنهم غير ملعونين.
من أعظم البراهين الدالة على فجور الإنسان وعمى قلبهِ أنهُ لا يُريد أن يقبل نعمة الله مجانًا وإذا عُرضت عليهِ يرفضها بغضب ويتجاسر أن يُجاوب الله: يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنهِ وأرسل عبيدهُ ليدعوا المدعوين إلى العرس فلم يُريدوا أن يأتوا (مَتَّى 1:22-3) فقال لهُ إنسان صنع عشاء عظيمًا ودعا كثيرين وأرسل عبدهُ في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أُعدَّ فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون (لوقا 12:14). يا أورشليم يا أورشليم! كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا؟ (مَتَّى 27:23).