-4-
الاستعداد للهرب من الأهواء
وإن كان الهرب من الشهوات لا يتطلب مجهوداً شاقاً، غير أن الضعف الروحي يحول دون القيام به. ولكي نتجنب هذا الضعف، يجب القيام بأمرين هامين: الأول هو المواظبة على التغذي بأقوال الله. والثاني هو المواظبة على الصلاة – وللفائدة نتكلم على قدر ما يسمح به المجال، عن كل من هذين الموضوعين:
أولاً: التغذي بأقوال الله
ينظر بعض المسيحيين إلى دراسة أقوال الله بالاستقلال عن العلاقة معه، ولذلك يفرضون على أنفسهم وعلى غيرهم قراءة جزء منها في الصباح وآخر في المساء، كمجرد واجب من الواجبات. لكن الله لم يعطنا أقواله لكي نفرأها أو نحفظها عن ظهر قلب، حتى يكون لنا ثواب ما، كما هي الحال عند الكثيرين. بل أعطانا إياها لكي نعرف مشيئته نحونا، وأيضاً لكي نطهر بها نفوسنا من الأدران التي قد توجد فيها، حتى نستطيع الاقتراب منه والوجود في علاقة روحية حقيقية معه. ومن ثم يجب أن نواصل التأمل في أقواله حتى تؤثر في نفوسنا وتقودنا إلى هذه الغاية الكريمة.
ولكي يأتي التأمل في أقوال الله بالثمار المطلوبة، يجب أن يكون تحت التأثر بجلالته وقداسته، كما يجب الدخول بهذه الأقوال إلى أعماق النفس والمحافظة عليها هناك في كامل قوتها. وذلك بالاجترار عليها من وقت لآخر، وتدريب النفس على التشكل بمقتضاها. ولأنها "حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح، والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته" (عبرانيين 4: 13)، تستطيع أن تسمو بحياتنا الروحية كثيراً.
ولذلك يحرضنا الرسول بالقول "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب" (كولوسي 3: 16). وقد أعلن الله لنا منذ القديم وجوب حفظ قلوبنا تحت تأثير كلمته، فقال لكل منا: "ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم، على قلبك. وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام، وحين تقوم. واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك. واكتبها على قوائم أبواب بيتك، وعلى أبوابك" (تثنية 6: 6- 9). وقد اختبر داود النبي فائدة الاحتفاظ بأقوال الله في القلب والخضوع التام لها باستمرار، فقال لله "خبأت كلامك في قلبي، لكي لا أخطئ إليك" (مزمور 119: 21).
وفيما يلي بعض أقوال الله التي يحسن بنا التغذي بها من وقت لآخر، حتى تقضي على ما فينا من أهواء كما ذكرنا، وتترك عوضاً عنها رواسب غزيرة من الطهر والقداسة.
1- آيات عن القداسة:
"أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (1 بطرس 2: 19).
"وهذه هي إرادة الله قداستكم. أن تمتنعوا عن الزنا. أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه (أو بالأحرى جسده) بكرامة. لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله" (1 تسالونيكي 4: 3).
"مكملين القداسة في خوف الله" (1 كورنثوس 7: 2).
"كأولاد الطاعة، لا تشاكلوا2 شهواتكم السابقة في جهالتكم بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب" كونوا قديسين لأني أنا قدوس. وإن كنتم تدعون أباً الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد فسيروا زمان غربتكم بخوف" أو بالحري بحذر شديد (1 بطرس 1: 14- 18).
"واتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14).
"أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله3، لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1 كورنثوس 3: 17).
2- آيات عن المحافظة على القلب والعين:
"يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي" (أمثال 23: 26).
"لتنظر عيناك إلى قدامك" (أمثال 4: 25).
"سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلماً. فإن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون" (متى 6: 32- 33).
"إن كانت عينك اليمنى تعثرك، فاقلعها وألقها عنك4. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (متى 5: 29).
"احفظ نفسك طاهراً" (1 تيموثاوس 4: 22).
"وفوق كل تحفظ، احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 4: 13).
3- آيات عن موقفنا إزاء الأهواء:
"اهربوا من الزنا. كل خطيئة يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد. لكن الذي يزني يخطئ إلى جسده" (1 كورنثوس 6: 15- 19).
"أميتوا أعضائكم5 التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديئة، الطمع الذي هو عبادة الأوثان6" (1 كورنثوس 3: 5).
"لأن الذين هم للمسيح، قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غلاطية 5: 24).
"مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، أيمان ابن الله7 الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية 2: 20).
"حاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم" (غلاطية 6: 14).
"نحن الذين متنا8 عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها! عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه (أي مع المسيح) ليبطل جسد الخطية، كي لا نعود نستعبد للخطية، كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن إحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذن لا تملكن الخطية في جسدكم المائت9 لكي تطيعونها في شهواته. ولا تقدموا أعضائكم آلات أثم للخطية، بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات بر لله" (رومية 2: 6- 13).
"فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي 3: 1- 2).
"كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير" (رومية 12: 6).
"اطرحوا كل ثقة الخطيئة المحيطة بكم بسهولة" (عبرانيين 12: 1).
"عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يدعى اليوم، لكي لا يقسي أحد منكم بغرور الخطيئة" (عبرانيين 3: 13).
إن الآيات السابقة موجهة إلى الجنسين معاً، غير أن الوحي عند حديثه عن النساء والفتيات، يقول عنهن بصفة خاصة أنه يجب أن يكن متعقلات عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات... (تيطس 2: 5)، وأن يلاحظن سيرتهن الطاهرة بخوف، وأن لا تكون زينتهن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب، بل إنسان القلب الخفي10 في العديمة الفساد، زينة الروح الوديع الهادئ11 الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1 بطرس 3: 2-4).
فلنعش إذن أيها الأعزاء، واضعين في نفوسنا في كل حين أن علاقتنا مع الأهواء قد انتهت (غلاطية 5: 24)، وأننا الآن مرتبطون بالمسيح في المجد كل الارتباط (أفسس 5: 30)، فنصبح من منأى من السقوط في الخطيئة بكل صورها وأنواعها.
ثانياً: الصلاة من أجل حياة القداسة
ولا نقصد بالصلاة، تلك التي تؤدي على سبيل العادة في أوقات محددة فقط، لأن صلاة مثل هذه تكون غالباً صادرة من الطبيعة البشرية، وهذه الطبيعة كما نعلم ملوثة بالكثير من النقائض. ولذلك تكون الصلاة الصادرة منها ملطخة بعيوب عدة، مثلها في ذلك مثل المياه التي لا تستطيع أن ترتفع في الأنابيب إلى مستوى أعلى من الذي هبطت منه في أول الأمر. ومن ثم فمن المحتمل أن يسقط المرء بعد هذه الصلاة في الخطيئة التي يريد تجنبها.
لكن الصلاة التي ترقى بنا إلى الله وتجلب لنا بركاته وعطاياه، حافظة إيانا في حالة القداسة، تتميز بالمميزات الآتية..
1- أن تكون باسم المسيح له المجد:
إن الله في قداسته المطلقة ينسب إلى الملائكة (الأطهار في أعيينا) حماقة. كما أن السماء (التي لا نرى فيها عيباً ما) ليست بطاهرة قدامه (أيوب 4: 18، 15: 15). ومن ثم فإن الإنسان لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يدنو من الله (لأنه مهما بلغ أسمى درجات التقوى حسب الظاهر، فباطنه يجيش بميول لا تتفق مع قداسته تعالى)، وبالتالي لا يستطيع أن يحصل على شيء من بركاته وعطاياه. ولكن بفضل كفارة المسيح التي وفت مطالب العدل الإلهي إلى الأبد من نحونا، صار للمؤمنين الحقيقيين منا اليقين بالقبول التام أمام الله. فقد قال الرسول "المسيح يسوع ربنا الذي به لنا جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة" (أفسس 3: 13). وقال أيضاً: "فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه" (عبرانيين 4: 16). وأيضاً "فإذ لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع" (عبرانيين 10: 19). ولذلك قال لنا له المجد: "الحق الحق أقول لكم أن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم" (يوحنا 16: 23).
وقد اختبر القديسون منذ القديم هذا الامتياز الثمين ولذلك قالوا: "أدع يسوع المسيح ابن الله من القلب بدون انقطاع، مع كلمة من أنفاسك، معترفاً له بخطاياك وواثقاً من غفرانها. لأن النفس التي تداوم على الدعاء بذلك الإثم العظيم، سرعان ما تصل إلى صاحب الإثم ذاته". وقالوا أيضاً: "لا تقل إني خاطئ، وليس لي الشجاعة أن أقف للصلاة... إن كل من يعتبر نفسه مرذولاً، يستمع الله إليه كما استمع للعشار". وأيضاً: "إذا سألت شيئاً من الآب السماوي في إيمان باسم يسوع المسيح، فإنه من أجل محبته لابن مسرته يستمع لك، دون أن ينظر إلى استحقاقك أو إلى خطاياك. بشرط أن يكون لك معه ثبوت وحب" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 231، 342، 405، 101، 107).
غير أنه من الواجب أن لا يغيب عنا أن "طلب استجابة الصلاة من أجل المسيح ليس مجرد أكلشية" تختم به الصلاة لكي تحظى بالاستجابة، لأن الاعتماد على اسم المسيح في طلب استجابة الصلاة، يتطلب أولاً الخضوع له والاقتران به والتوافق في مشيئته.
2- أن تكون الصلاة بإيمان:
وهذه الصلاة لا تصدر إلا من المؤمنين الحقيقيين الذين أصبحت لهم علاقة حقيقية مع الله، بفضل كفارة المسيح. ومن ثم أصبحت لهم الثقة الكاملة في استجابته لصلاتهم كما ذكرنا. وقد سبق المسيح له المجد وحرضنا على الإيمان باستجابة الله لصلواتنا، حتى ننال ما نطلبه منه فيها، فقال: "وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه" (متى 21- 22). كما قال : "كلما تطلبونه حين تصلون، فآمنوا أن تنالوه، فيكون لكم" (مرقس 11: 24). وقال يوحنا الرسول: "وهذه هي الثقة التي لنا عنده، أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته، يسمع لنا" (1 يوحنا 5: 14). وقال يعقوب: "وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له.. ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر، تخبطه الرياح وتدفعه. فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب" (يعقوب 1: 5- 7).
وقد وجه الرسول نظرنا إلى وجوب توافر الإيمان قبل الصلاة فقال: "ولكن بدون إيمان لا يمكن أرضاؤه، لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن (فعلاً) بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه" (عبرانيين 11: 6). كما قال: "لا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة" (عبرانيين 10: 35).
والإيمان كما نعلم، ليس مجرد اعتراف بالفم عن وجود الله، بل إنه عمل روحاني في القلب به تتقابل النفس معه وتستريح لمحبته وحنانه. الأمر الذي يجعلها تطمئن كل الاطمئنان أمامه، وتصبح مهيأة لقبول عطاياه الثمينة.