الأصحاح الحادى والعشرون
داود الطريد
صورة مؤلمة لداود إذ صار طريدا ، ترك كل شىء فجأة وخرج وحده ولم يكن معه سيف ولا خبز ، ولا وضع خطة أمامه ، ولم يستشر الرب فى شىء فصار يتخبط ، دخل نوب مدينة الكهنة وبسببه قتل الكهنة وهلكت المدينة ، انطلق إلى جت فحسبوه جاسوسا طائشا واضطر إلى التظاهر بالجنون لينقذ حياته . إنها لحظات ضعف عاشها رجل الأيمان الجبار داود .
( 1 ) داود فى نوب
عجبا إن الذى أرتعب أمامه الوثنيون ، وغنت لـه النساء " ضرب شاول ألوفه وداود ربواته " 18 : 7 ، والذى حاز حب واعجاب الملك وابنه وابنته والقواد وجميع الشعب ... يهرب أمام الملك المرفوض . لقد جاءت ساعة التجربة المرة التى لابد لكل مؤمن أن يجتازها ، حين يشعر أنه وحيد ليس من يسنده ولا من يشاركه مشاعره .
جاء داود النبى إلى نوب ، شمال أورشليم ، هناك التقى بأخيمالك الكاهن ، ربما هو أخيا بن اخيطوب ( 1 صم 14 : 3 ) أو أخوه وخلفه فى الكهنوت ، كان رجلا صالحا وهو ابن حفيد عالى الكاهن الذى صدر الحكم الإلهى بخراب بيته ( 1 صم 3 : 13 – 14 ) .
إذ رأى أخيمالك داود وحده ، لأن أتباعه وقفوا خارجا فى البداية ثم تقدموا ، وربما حسب أخيمالك داود وحده لأنه كان يتوقع موكبا من الأشراف يرافقونه بحكم مركزه فى البلاط الملكى ، وحسب من معه أنهم لا يحسبون . هذا المنظر أربك أخيمالك ربما لأنه سمع أن شاول يريد قتل داود ، وأن داود جاء هاربا من وجه الملك فيحل على أخيمالك غضب الملك إن استضافه .
لقد خارت قوى داود فاستخدم الخداع والمواربة ونوعا من الكذب ليبرر موقفه أمام أخيمالك ، كان داود رجلا حسب قلب الله ، لكنه فى ضعفه كان يخطىء ؛ وقد أدى ضعفه هذا وكذبه إلى عواقب وخيمة ( 1 صم 22 : 18 ، 19 ) .
طلب داود من أخيمالك خبز الوجوه ، الخبز المقدس ( لا 24 : 5 – 9 ) ، الذى كان الكهنة يضعونه جديدا كل سبت ويأكلون القديم ، ولا يحل تقديمه لغير الكهنة ، ومع ذلك فقد قبل أخيمالك أن يقدمه لداود ورجاله إن كانوا طاهرين حتى من العلاقات الزوجية ، ذلك لأنهم جاعوا ولم يكن يوجد خبز آخر ، استخدم السيد المسيح هذه الحادثة ليوضح لليهود كيف أنه يحل للتلاميذ أن يقطفوا السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلوا منها يوم السبت ( مر 2 : 25 ؛ مت 12 : 3 ؛ لو 6 : 3 – 5 ) .
لم يفعل داودالنبى ذلك عن تهاون بالوصية أو تراخ ، لكن لم يكن أمامه طريق آخر ، لذا لم يحسب أكله هو ومن معه من هذا الخبز كسرا للوصية ، وقد حمل تصرفه هذا رمزا إذ تمتعت الأمم لا بخبز التقدمة وإنما بجسد السيد المسيح ، الخبز النازل من السماء ، كمصدر شبع حقيقى للنفس .
سأل داود عن وجود أى سلاح لدى الكاهن فى الخيمة ، فأعطاه سيف جليات الذى قتله داود فى وادى البطم ، قال داود للكاهن :
" لا يوجد مثله أعطنى " 1 صم 21 : 9 .
كان فى نوب أحد عبيد شاول يدعى دواغ الأدومى ، أبلغ شاول بما حدث وأثاره لقتل لا أخيمالك وحده بل وجميع الكهنة مع نسائهم وأولادهم مع ماشيتهم .
( 2 ) داود فى جت
هرب داود إلى جت مدينة جليات الجبار الذى قتله ، وها هو قادم يحمل سيف بطلهم ، فثاروا ليقتلوه ، لقد وجد أرامل وأيتاما ترملن وتيتموا بسبب داود ولم يكن ممكنا أن يستضيفوا داود كطريد شاول ، إنما حسبوه جاسوسا خبيثا ومتهورا ، قدم لأخيش ( أحد ألقاب الملوك الفلسطينيين ) فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون ، فقد تمتع المجانين ببعض الأمتيازات ، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم ، كما حسب البعض أن بهم روحا يخافونه ويرهبونه .
يا لـه من منظر يمثل منتهى البؤس ! إذ نرى داود الجبار ، رجل الله التقى ، المتكل على الله ، يخور فى إيمانه ليتظاهر بالجنون ، فيخربش أى يكتب كتابة غير واضحة على الباب ، وبحسب الترجمة السبعينية كان يطبل على الباب ، وكان ريقه يسيل على لحيته ( 1 صم 21 : 13 ) ، وهذه كانت تعتبر بعض علامات الجنون فى الشرق ، لا سيما ما للحية من إكرام ، لقد استخدم رجل الأيمان وسيلة بشرية لخلاصه !!
حسب داود نفسه فى جت كحمامة بكماء بين الغرباء ، ضاقت نفسه جدا ، لم يجد ما يتكلم به لينقذه ، ولا قوة للخلاص ، غير أن قلبه ارتفع نحو الله كما أعلن فى مزموره السادس والخمسين . جاء فى مقدمة المزمور [ ارحمنى يا الله لأن الأنسان يطأنى ...... ] .
إذ انقذ الله داود من أبيمالك – بعدما تظاهر بالجنون – انطلق مسبحا ذاك الذى أنقذه قائلا :
" أبارك الرب فى كل حين ....
بالرب تفتخر نفسى ، يسمع الودعاء فيفرحون ...
طلبت إلى الرب فاستجاب لى ومن كل مخاوفى انقذنى ... " مز 34
+ + +
الأصحاح الثانى والعشرون
فى مغارة عدلام
إذ ترك النبى جت ذهب إلى مغارة عدلام ، وجد كل رجل متضايق أو من كان عليه دين وكل رجل مر النفس بسبب انحدار حكم شاول وفساده فى داود ملجأ ، إذ جاءوا إليه ليكون رئيسا عليهم ؛ هؤلاء الذين كانوا فى نظر شاول خطيرين وشاردين التصقوا بداود ليصيروا فيما بعد أناسا جبابرة يعملون لحساب المملكة الجديدة .
التصاق هؤلاء الرجال بداود أثار حقد شاول لكى يقتل جميع كهنة مدينة نوب – ما عدا أبياثار الذى أفلت من يده – ذلك لأن أخيمالك قدم لداود خبزا وسيفا دون علمه بما كان بين شاول وداود .
( 1 ) داود فى مغارة عدلام
كان من الصعب على داود الذى خلص شعبه من الأعداء أن يبقى خارج وطنه كمن هو خارج عن القانون ، خاصة أن الله سمح أن يثور أهل جت عليه ليقتلوه ، لذا بدأ يتجه نحو يهوذا لكن فى شىء من التخوف ، لقد جاء إلى مغارة بالقرب من مدينة عدلام الكنعانية القديمة ، واختبأ فيها حتى أتاه والداه وإخوته كما اجتمع إليه كثير من المتضايقين ليجدوا فيه رجاء .
" عدلام " كلمة عبرية تعنى " ملجأ " ، سكنها الكنعانيون فى أيام يعقوب ( تك 38 : 1 – 2 ) ، وهى إحدى المدن التى كانت من نصيب سبط يهوذا ، يشار إليها بين بلدتى يرموت وسوكوه ( يش 15 : 35 ) ، يرى البعض أنها عين الماء الحديثة ، كانت تدعى " عيد الماء " ، تقع على بعد حوالى 12 ميلا جنوب غربى بيت لحم ، فى وادى إيلة ، لا تزال هناك نحو 15 مغارة هائلة تسمى مغائر عيد الماء ، من بينها مغارة وادى قريطون بجوار بيت لحم ، وهى المغارة التى سكنها داود ورجاله ، إذ يبلغ طولها حوالى 160 مترا .
يرى البعض أن موقف داود فى المغارة وبعد ذلك فى وعر حارث ( 1 صم 22 : 5 ) يرمز لموقف رب المجد حين جاء إلى مغارة هذا العالم متجسدا .
إذ هرب داود من شاول إلى مغارة عدلام وضع مذهبة ( مز 57 ) ، جاء فيها :
" ارحمنى يا الله ارحمنى لأنه بك احتمت نفسى ،
وبظل جناحيك أحتمى إلى أن تعبر المصائب ،
اصرخ إلى الله العلى ، الله المحامى عنى ...
يرسل من السماء ويخلصنى ...
عير الذى يتهمننى ( يطأ على ) ... سلاه ... "
ليتنا نحن أيضا إذ تمررت نفوسنا خلال حكم شاول ، أى سقوطنا تحت سلطان عدو الخير إبليس ، نلجأ إلى ابن داود المختبىء فى المغارة ، نلجأ إليه فقد جاء إلى عالمنا لينيره بمجد لاهوته الخفى ، واهبا إيانا الأستنارة الداخلية عوض الظلمة ، مقدما لنا الحياة الجديدة عوض الموت الذى ملك علينا .
لنلجأ إلى مسيحنا فقد دخل مغارة طبيعتنا كى لا نرتعب منه ، بل نجده قريبا منا ، حالا فى وسطنا بل فى داخلنا ليجدد طبيعتنا فيه ويقدسها ويمجدها ببهاء مجده .
+ كان عدد الرجال الذين تجمعوا حول داود ليكون رئيسا عليهم نحو أربعمائة رجلا .
( 2 ) ذهابه إلى أرض يهوذا
" فقال جاد النبى لداود لا تقم فى الحصن ؛ اذهب وادخل أرض يهوذا ، فذهب داود وجاء إلى وعر حارث " 1 صم 22 : 5 .
لم نسمع عن جاد النبى إلا فى هذا الموضع وحتى آخر حياة داود حين أحصى الشعب ( 2 صم 24 : 11 – 15 ) . ساعد فى ترتيب الخدمة الموسيقية فى بيت الرب ( 2 أى 29 : 25 ) ، وكان أحد المؤرخين الذين كتبوا حوادث ملك داود ( 1 أى 29 : 29 ) .
يبدو أن جاد هذا كان أحد تلاميذ صموئيل النبى فى مدرسة الأنبياء ، وأن صموئيل نصح داود أن يكون جاد النبى أو الرائى مرافقا له ؛ وها هو ينصح داود ألا يقيم فى الحصن الذى فى موآب بل يذهب إلى أرض يهوذا حيث يواجه المتاعب من أجل شعب الله ، وقد كان ذلك لخيره ولبنيان الشعب ؛ حيث خلص أهل قعيلة من الفلسطينيين ( 1 صم 23 : 1 ، 2 ) كما دافع عن مدن يهوذا ( 1 صم 27 : 8 – 11 ) فاشتهر ونال ثقة يهوذا ؛ وعندما قتل شاول كان حاضرا ليخلفه .
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم :
" الألم هو معلمنا ...
إننا لا نجلب الألم على أنفسنا ، إنما نحتمله بشجاعة متى تعرضنا له ، لأنه دائما مصدر خيرات كثيرة ... " .
" لا تشته حياة خالية من كل ضيقة ، فإن هذا ليس فيه خيرك ... " .
( 3 ) شاول يقتل الكهنة
إذ رجع داود ورجاله إلى اليهودية بدأت الأخبار تنتشر وأحبهم الكثيرون الأمر الذى أثار غيرة شاول من جديد ، حتى ضاقت نفسه جدا فى داخله ، شعر كأن لا عمل لداود إلا تحطيم مملكته ولا هم لمن حولـه إلا خيانته من أجل المكافأة حتى ابنه وارث عرشه يقف ضده .
إذ كان شاول مقيما تحت شجرة فى مدينة جبعة فى الرامة ، وقف أمامه عبيده وقد امسك بالرمح كصولجان فى يده ، وصار يوبخهم قائلا :
" اسمعوا يا بنيامينيون . هل يعطيكم جميعكم أبن يسى حقولا وكروما ؟! وهل يجعلكم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ؟! 1 صم 22 : 7 .
هذه صورة مؤلمة تكشف عن قيادة مملوؤة أنانية تهتم بما لنفسها وليس بما للجميع ، ما أبعد الفارق بين شاول وموسى النبى ، فإن الأخير اختار يشوع بن نون تلميذا له يتسلم القيادة من بعده وليس أحدا من أولاده .
تسلطت الظنون على شاول فحسب كل عبيده يقاومونه ، إذ يتهمهم قائلا :
" حتى فتنتم كلكم على وليس من يخبرنى بعهد ابنى مع أبن يسى ؟!وليس من يحزن على أو يخبرنى بأن ابنى قد أقام عبدى على كمينا كهذا اليوم ؟! 1 صم 22 : 8 .
حين يفقد الأنسان علاقته مع الله مصدر السلام يرى الجميع حولـه أعداء ، يهرب إلى سبعة طرق وليس عدو خلفه ... أما من ينعم بسلام مع الله فيحمل سلاما فى قلبه وسلاما مع الناس ولا يخاف حتى مقاوميه .
أراد دواغ الأدومى أن يبرر نفسه وزملاءه ، فألقى بالمسئولية على رئيس الكهنة قائلا :
" قد رأيت ابن يسى آتيا إلى نوب إلى أخيمالك بن أخيطوب ، فسأل له من الرب وأعطاه زادا وسيف جليات الفلسطينى أعطاه إياه " 1 صم 22 : 9 ، 10
كان دواغ صادقا فيما قاله لكنه بتر الحقيقة وشوهها ، إذ لم يعرض الحوار الذى دار بين أخيمالك وداود ليبرر نية أخيمالك ؛ على العكس صور أخيمالك كخائن لشاول يتعمد مساندة عدوه داود .
فند أخيمالك الأتهام هكذا :
( أ ) لم ينكر أنه أعطاه خبزا وسيفا وسأل له من الله ، لكنه فعل هذا من أجل أمانة داود له ، وقرابته كصهر الملك ، ومركزه وكرامته فى البلاط ، إذ قال : " من من جميع عبيدك مثل داود أمين وصهر الملك وصاحب سرك ومكرم فى بيتك ؟! " سؤال فيه دفاع عن نفسه ويتضمن أيضا تةبيخا لشاول الذى اتسم بعدم الأستقرار يصاحب ويخاصم بلا تعقل .
( ب ) إنه لم يكن على علم بما حدث بينه وبين داود لا فى الأمور الصغيرة ولا الكبيرة .
كعادة شاول أسرع باصدار الحكم بموت أخيمالك ، رفض السعاة أن ينفذوا فلم يقبلوا أن يمدوا أيديهم إلى كهنة الرب ، ليكونوا شهودا على الظلم والعنف وإهانة خدام الرب . أما دواغ الأدومى الذى قدم الأتهام فقام بتنفيذ الأمر وقتل فى ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهنا ، ثم ذهب إلى مدينتهم – نوب – ليقتل الرجال والنساء والأطفال والرضعان حتى الحيوانات بحد السيف ، صورة بشعة لوثت تاريخ شاول واقشعرت لها كل الأسباط .
لم يخرب شاول مدينة للأعداء بل إحدى مدن شعبه ... هذا ما تفعله الخطية فى حياة الأنسان ، إذ تحطم حياته الداخلية وتفسد طاقاته ومواهبه ، يصير عدوا ومقاوما حتى لنفسه .
على أى الأحوال تحققت كلمات الرب بخصوص بيت عالى الكاهن ( 2 : 31 ) إذ قتل أخيمالك والكهنة الذين من نسل عالى .
( 4 ) نجاة ابيأثار الكاهن
يبدو أن أبيأثار بن أخيمالك لم يذهب مع أبيه وأقربائه إلى شاول إذ بقى لحراسة الخيمة ، وإذ سمع بما حل بأهله هرب إلى داود قبل مجىء دواغ الأدومى ( 1 صم 22 : 20 ) ، أخبر أبيأثار داود بما حدث ، وكانت إجابة داود النبى : " أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك ؛ أقم معى ؛ لا تخف ؛ لأن الذى يطلب نفسى يطلب نفسك ولكنك عندى محظوظ " 1 صم 22 : 23 .
أحد سمات داود التقوية اعترافه بخطئه وإلقاء اللوم على نفسه لا على الآخرين ؛ فكان يمكنه القول بأنه لم يكن يعرف أن دواغ الأدومى هناك عندما ذهب إلى أخيمالك ، ... ما أعذب أن يعترف الأنسان فى أعماق قلبه كما بلسانه : " أخطأت " ...
دان داود نفسه ، وحاول علاج الخطأ باحتضان أبيأثار وحمايته ، فصار معه واحد من الأنبياء ( جاد ) ، ومعه أحد الكهنة ( أبيأثار ) .
+ + +