دعوة العروس
تكوين24
الإصحاح الرابع والعشرون من سفر التكوين له تأثير عميق على المسيحي إذ تتضح فيه الصورة الإلهية لمشغولية أقانيم اللاهوت في أيامنا الحاضرة هذه.
إن المشغولية بالخدمة والسهر الدائم ضد العدو والصراع لأجل الحق، مما تستلزمه حاجة العالم وازدياد فساد المسيحية وفشل شعب الله، كثيراً ما يستحوذ على أفكارنا، وفي مرات عديدة ننسى ما يمكن أن يعمله الله بالرغم من قوة العدو والتشويش والفشل. ولا شك أنها رحمة ليست قليلة أن يهبها هذه الصورة الجميلة لنرى أغراض الأقانيم الإلهية وعمل كل منهم. ولذلك فعندما نغض الطرف عن الإنسان وفشله فإن نفوسنا تُسّر بالله وبغرضه، ونهدأ ونستريح إذ نتيقن بأن مقاصد الله لابد وأن يتممها بالرغم من الفشل والمقاومة.
ولكي ما نعي التعليم الرمزي لهذا الإصحاح فلابد أن نفهم الارتباط بين هذا النص وما يسبقه وما يليه من إصحاحات. إن إصحاح24 يمثل جزءاً من ختام فصول حياة إبراهيم الذي يبدأ من إصحاح22 وينتهي بإصحاح25 وعدد10. فالأجزاء الأولى ترينا حياة الإيمان لإبراهيم كفرد ولكن في الفصول الأخيرة نرى طرق الله التدبيرية. في ص22 يُقدّم إسحق ويقبله إبراهيم خارجاُ من الموت رمزياً- وهو مثال لموت وقيامة المسيح. وبعد تقديم اسحق نرى في ص23 موت سارة وإبراهيم « كغريب ونـزيل » (ع24) في أرض مصر وكل هذا رمز لاستبعاد إسرائيل كأمة بعد موت المسيح مع أن لها الموعد. وفي دعوة رفقة ص24 نجد رمزياً دعوة الكنيسة كعروس المسيح أثناء استبعاد إسرائيل. وفي 25 تُستكمل الصورة بزواج إبراهيم واستحضار أبناء الزوجة الثانية وهذا رمز لرجوع إسرائيل والبركة الألفية للأمم.
ولنحضر أفكارنا الآن في ص24، إذ نرى صورة للسر العظيم للمسيح وكنيسته. نجد قصد الله والطريق الذي يتخذه لتتميم هذا القصد. وعلى كل حال فلنضع في أفكارنا أن قصد الله يرتبط بالكنيسة منظوراً لها كعروس المسيح. وكما رأينا أن هذا الوجه من الكنيسة يستحضر قصد الله الذي فيه يقيم غرضاً كاملاً ومتناسباً لمحبة المسيح. وفي هذه الصورة نرى دعوة العروس، وزينة العروس التي تحلّت بها، واستحضار العروس للعريس وهي في تمام المناسبة لنفسه. إن هذا التوافق الأدبي مع قلب المسيح والتجاوب مع محبة المسيح هي الأفكار البارزة التي تميز الكنيسة كعروس.
كنا قد رأينا حواء في الخليقة وهي تتكلم عن عروس المسيح. أما اسحق ورفقة فبعد ثمانية عشر قرناً تتحدث مرة أخرى عن قصة المسيح وعروسه. إن هناك اختلافاً بينهما فليس في الكتاب مجرد تكرار، ففي حواء نرى عروساً كنتيجة كاملة لعمل إلهي الذي كوّنها وأحضرها إلى آدم. أما في رفقة فنرى تدريب العواطف لدى العروس والمحبة في نشاطها كما يستحثها العبد. فإن كانت حواء تخبرنا عن عمل إلهي لإحضار العروس فإن رفقة تتحدث عن عمل إلهي في العروس.
يُفتتح الإصحاح بالوصايا التي يعطيها إبراهيم لعبده (ع1- 9) والفكرة الرئيسية في الإصحاح تدور حول العبد وإرساليته (ع 10- 61) وفي النهاية يختم باسحق ومحبته لرفقة (ع62- 76). وبهذه الصورة الرمزية نجد في الجزء الأول الآب وقصده، وفي الجزء الثاني الروح القدس وعمله، وفي الجزء الأخير المسيح وعواطفه. ولذلك نرى بالرمز مشغولية كل أقنوم من أقانيم اللاهوت لضمان العروس.
نتعلم أولاً أن فكرة العروس لإسحق نبعت أساساً من إبراهيم، فهو الذي يبدأ القصة في تكوين 24. إنه يعلن فكره عن عروس لإسحق ويوصي عبده ويرسله في طريقه. ولذلك نتعلّم أن فكرة عروس للمسيح نبعت من مقاصد قلب الآب. إنه أيضاً هو الآب الذي أرسل الروح لاستحضار العروس للمسيح (يوحنا14: 26).
والعدد الثاني يستحضر أمامنا ذاك الذي بدوره النشيط يُكوّن الجزء البارز في القصة « عبده كبير (أو شيخ) بيته ». وفي تمام المناسبة أن لا يُذكر اسمه أفليس في ذلك رمزاً للروح القدس الذي أتى، إنه لا يتكلم من نفسه بل يأخذ مما للمسيح ويخبرنا؟.
إن أعمال ونشاط الروح القدس في هذا العالم كثيرة ومتنوعة، ولكن في هذا الإصحاح فإن الروح القدس يُستحضر كمن يأتي بالعروس إلى النور، ميقظاً عواطف العروس بإعلان أمجاد المسيح، ثم مُشبعاً تلك العواطف بقيادتها للمسيح.
إن التوجيهات التي قيلت للعبد لها أهمية بالغة وغنية بالتعليم لنفوسنا:
1-إن عروس اسحق يجب أن تتناسب مع اسحق ولذلك لا يجب أن تؤخذ من بنات الكنعانيين (ع3) فمثل أولئك هم تحت الدينونة ولذلك فالأمر لا يتناسب مع اسحق كلية. وهذا يرينا أن التعامل مع رفقة ليس هو بالضبط صورة لنعمة الله التي تستحضر الخلاص للخطاة بل بالحري محبة المسيح المتجهة للقديسين. ليست المسألة هنا نعمة الله التي تدرك أشر الخطاة وإلا كانت بنات الكنعانيين هن اللواتي كان يجب أن يُرسل إليهن العبد لتبليغ قصة الإنجيل،وهذا يتضح فيما بعد عندما اتخذ الله المرأة الكنعانية من صرفة صيدا لإظهار نعمته.
2-وبالتالي فإذا كان يجب أن تصبح العروس مناسبة لإسحق فيلزم أن تكون من عشيرة إسحق، وهكذا كان التوجيه للعبد « بل إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق » (ع4). لقد لاحظنا من قبل أن التي كانت مناسبة كعروس لآدم لا بد أن تكون نظيره، ولكن ما تكون هذا النظير كان لا بد أن يجتاز آدم نوماً عميقاً، وهكذا كان اسحق بالرمز يجتاز الموت- إذ يُقدّم على جبل المريا- قبلما يضمن عروس من أرام النهرين. كذلك المسيح الشخص العظيم المرموز إليه، حبة الحنطة الثمينة. كان يجب أن يقع في الأرض ويموت وإلا صار وحيداً إلى الأبد، عندما صارت نفسه ذبيحة إثم فنقرأ « يرى نسله ». الموت الذي يقطع الإنسان من كل رجاء في النسل، هو بعينه صار الطريق الذي يضمن به المسيح نسله. ونسله يصبح نظيره وعشيرته، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. ولذلك نرى عروس المسيح تتألف من أولئك الذين صاروا مناسبين له بواسطة العمل الإلهي لإحضارهم هكذا في علاقة بالمسيح كعشيرته من خلال العمل الإلهي فيهم. وأمكن للرب وهو على الأرض أن يقول « أمي وإخوتي الذين يسمعون كلام الله ويعملونه » (لوقا8: 21).
3-ويحذر إبراهيم العبد مرتين بألا يرجع بإسحق مرة أخرى إلى أرام النهرين (ع6و 8). وإسحق في هذا الإصحاح يرسم أمامنا المسيح السماوي. وبعد تقديم إسحق في ص 22 لا يُذكر اسمه حتى نهاية ص 24. وكما أن إسحق لا يعود يرتبط بأرام النهرين، هكذا ليس هناك ارتباط بين المسيح والعالم إذ أن المسيح في الأعالي والروح القدس هنا يدعو العروس للمسيح السماوي. ولكن وآسفاه فقد فقدت المسيحية تماماً اليوم كل فكر حقيقي عن المبادئ المسيحية، وصار عملها الأساسي أن تربط المسيح بالعالم الذي قتل المسيح. وإذ جهلوا الحقيقة بأن المسيح هو الحجر الذي رفضه البناؤون من هذا العالم، فإنهم يسعون أن يجعلوا المسيح هو حجر الزاوية لأنظمتهم الدينية الأرضية العظيمة، وقد ربطوا اسمه بأبنيتهم الدينية الفاخرة ووسائل الإصلاح وأعمال الخير للإنسانية وأنظمة الحكم. وبالاختصار فإنهم يعملون مجهودات جبارة لإرجاع المسيح إلى العالم وربط اسمه بالمخلصين وغير المتجددين من هذا العالم بأمل إصلاح الناس وجعل العالم الذي يعيشون فيه مكاناً أفضل وأكثر إشراقاً. وليس من صعوبة مثل محاولة تغطية صفات الشر التي يتصف بها العالم باحترام خارجي وربط هذه المحاولات باسم ذاك الذي رُفض وسُمّر على الصليب.
وعلى كل حال فإن المؤمن المتعلم في كلمة الله يعرف من تعليم العهد الجديد ومن رموز العهد القديم أن الروح القدس هنا لا لكي يُحضر المسيح إلى العالم بل ليأخذ عروساً من هذا العالم للمسيح، فنقرأ: « كيف افتقد الله أولاً الأمم ليأخذ منهم شعباً على اسمه » (أع15: 14).
4-وفي النهاية قال إبراهيم « الرب إله السماء.. يرسل ملاكه أمامك » (ع7). فالملاك كان عليه أن يوضح الطريق أمام العبد، أما العبد فكان عليه أن يتعامل مع العروس « تأخذ زوجة لابني ». وكل من العبد والملاك كان مشغولاً في ضمان العروس لإسحق. وفي يوم آتٍ نعلم أن جماعة عظيمة من الملائكة ستُجري القضاء في العالم، ولكنهم اليوم مرسلون للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص. ومن جهة رمزية تتضح لنا تلك الحقيقة الاختلاف بين عمل الملائكة تدبيرياً والعمل الشخصي للروح القدس. قاد ملاك الرب فيلبس في طريقه إلى صحراء غزة أما الروح فقاد فيلبس لكي يتعامل شخصياً مع الخصى (أع8: 26و 29).
ومن الواضح أن التوجيهات المعطاة من إبراهيم إلى عبده نتعلم منها الإرسالية العظمى للروح القدس في هذا العالم. إنه ليس هنا لكي يجعل المسيحي مزدهراً في شغله أو يجعلنا أثرياء في هذا العالم أو لجعل العالم مكان راحة لنا. إنه ليس هنا لإزالة اللعنة أو لتسكين أنين الخليقة. إنه ليس هنا لكي تفرح البرية وتزهر كالنرجس، لم يأتِ لإزالة الألم والموت والحزن والدموع فكل هذا سيفعله المسيح في يوم قادم، وليس هو هنا لكي يجدد العالم كما يظن البعض. ولكنه هو هنا لكي يستحضر إلى النور أولئك الذين هم مناسبين للمسيح لفرح وشبع قلبه.
وبحسب التعليمات المعطاة للعبد لم نجده يتدخل في الأحوال السائدة في أرام النهرين. لم يحاول أن يبدل ديانتها أو يُحسن أحوالها الاجتماعية أو يتدخل في حكومتها. كان عمله الوحيد أن يضمن عروساً لإسحق وكم سيجعل شعب الله يودع القنوط والفشل إذا تحققوا من غرض الله العظيم في الوقت الحاضر والإرسالية الخاصة للروح القدس في هذا العالم.
وغالباً ما يُحبط المؤمنون إذ يرغبون أن يعملوا عملاً عظيماً للرب فيجدوا أنفسهم متروكين لعمل هادئ في ركن خفي فيصيبهم الإحباط. وقد يشعروا بهذا الإحباط أيضاً عندما يجدوا أنفسهم سائرين في رفقة قليلة من القديسين. إنهم يأملون من الله في تجديد عدد كبير وأن تصبح مجموعتهم الصغيرة لها شهرة كمركز للبركة مع مصادقة الرب العلنية ولكنهم بدلاً من ذلك يجدون الضعف والفشل حتى مع هذه المجموعة الصغيرة. وهكذا أيضاً نفشل مع شعب الله عموماً. وربما تكون لنا رؤى لتجميع هذه الكِسَر الممزقة من شعب الله للسير في الوحدة والمحبة ولكننا نجد بدلاً من ذلك النـزاعات والتفسخ فتزداد إحباطاً.
وربما يضع شعب الله آمالاً عظيمة على العمل التبشيري. فبعد قيام آلاف الإرساليات التي عملت في كل بقاع العالم فإنهم توقعوا هدم حصون الوثنية وغيرها أمام نور المسيحية ولكنهم وجدوا أن هذه الأنظمة الخاطئة يصعب أن تمسها وهكذا يشعر المؤمنون بالإحباط.
ومرة أخرى ظن آخرون أنه بعد تسعة عشر قرناً من نور المسيحية فإن العالم سيرتقي أدبياً، ولكنه بدلاً من ذلك يرون مجتمعاً فاسداً يسود فيه الشر وغير مستقر عموماً ولذلك يفشلون.