في فضيلة الصدق وهي
الرسالة الحادية والعشرون التي يوجّهها صاحب الغبطة والنيافة، البطريرك الكردينال
مار نصرالله بطرس صفير
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
إلى
أبنائه الموارنة اكليروسا وعلمانيين
في مناسبة الصوم الكبير
2006
الكردينال مار نصرااله بطرس صفير
بنعمة الله
بطريرك انطاكية وسائر المشرق
إلى جميع اخواننا المطارنة، وجميع أبناء كنيستنا، اكليروسا وعلمانيين
أيها الأخوة والأبناء الأعزاء
السلام والبركة الرسولية
يسرّنا ان نتوجّه اليكم بهذه الرسالة، التي نصدرها في مناسبة الصوم الكبير، لنسأل الله معكم، خلال أيام هذا الصوم المبارك، أن يمدّنا بالقوّة لنرفع اليه آيات الشكر، ولنوطّد إيماننا به، وبعنايته الإلهية التي تُعنى بأكبر خلائقه وأرفعها قدرا، عنايتها بأصغر خلائقه وأدناها مقاما، على حدّ ما أعرب عنه الرب يسوع في انجيله المقدس: "انظروا إلى طيور السماء، فهي لا تزرع، ولا تحصد، ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها" متى 6: 26. والصوم هو الزمن المقبول، على ما يقول الرب يسوع بلسان بولس الرسول: "في وقت الرضى استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك. فها هو الآن وقت الرضى، وها هو الآن يوم الخلاص" 2كور 6: 2. وفي زمن الصوم، تتنقى النفوس، وتطهر الأجساد، وتصفو النيات، وينقطع المؤمنون الى عبادة ربهم بصدق واستقامة ضمير. وكان الصوم، منذ القدم، احدى أنجع الوسائل للتقرّب من الله والناس، بقلوب بعيدة عن الضغينة، والحقد، نظيفةٍ ممّا ينأى بها عن مشاعر السلام والمحبة. وهناك شياطين، على ما يقول الرب يسوع، "لا يخرجون من الانسان إلاّ بالصلاة والصوم" متى 17: 21.
ونريد أن نحدّثكم هذه السنة، خلال هذا الصوم، عن فضيلة الصدق، وهي من الفضائل المأثورة لدى الله والناس. أن يكون الانسان صادقا مع الله، و نفسه، والناس، هذا ما يرفع قدره في عين الله ونفسه والناس. وهذا ليس بالشيء اليسير، لأن الكذب أصبح طاغيا، ومتى طغى الكذب وقعت البلبلة. وهذا ما عاقب الله عليه الناس، على ما ورد في مستهل سفر التكوين. "وكانت الأرض كلها لغة واحدة... وقال بعضهم: تعالوا نبنِ مدينة وبرجا رأسه الى السماء، ونقم لنا اسما كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلها. واغتاظ الرب ممّا فعلوا فبلبل لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. "فبدّدهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، وكفّوا عن بناء المدينة. ولذلك سمّيت بابل، لأن الرب بلبل لغة الأرض كلها. وهناك شتّتهم الرب على كل وجهها" تك 11: 1- 9
أولا- الصدق مع الله
ان الله يحب الصدق، لأنه هو صادق. والصدق من أولى صفاته تعالى. إن بولس الرسول يقول: فماذا ان كان بعضهم لم يؤمنوا؟ هل يُبطل عدم ايمانهم أمانة الله؟ حاشا! بل صَدق الله وكَِذب كلّ انسان كما هو مكتوب: "لكي تُبَرر في كلامك، وتغلب في قضائك" روم 3: 3-4. ان الله يحب الأمانة، والحقيقة، والصدق، على ما جاء في سفر المزامير: "الرب أمين في كل أقواله، وبارّ في جميع أعماله" مز 144: 13. والصدق هي الصفة التي ركّز عليها السيد المسيح عندما تكلّم عن ألله، أبيه السماوي، فقال: "من أرسلني هو حق، وأنتم لا تعرفونه". يو 7 :28 وكرّرها مرّة ثانية، مخافة ألاّ يكونوا قد أسأوا فهم ما قال: "لي كلام كثير أقوله فيكم وأدينكم. لكن الذي أرسلني صادق. وما سمعته منه، فهذا أقوله للعالم". وكذلك بولس الرسول شدّد على هذه الصفة النبيلة من صفات الله، فقال: "أمين هو الله! فان كلامنا اليكم لم يكن نعم ولا"، واذا كان أمينا، فهو صادق، لا يرضى بالمواربة، والخداع، والكذب وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول في رسالته الى العبرانيين بقوله: "لما أراد الله أن يظهر لورثة الوعد ثبات ارادته، تعهّد لهم بقسم، ليكون لنا، نحن الملتجئين الى التمسّك بالرجاء المعدّ لنا، عزاءٌ قوي بالوعد والقسم، وهما امران ثابتان، يستحيل أن يكذب الله فيهما".
والحقيقة والعدالة مرتبطتان ارتباطا وثيقا، على ما أوضح البابا بيوس الثاني عشر الذي قال: "ان العالم في حاجة الى الحقيقة التي هي العدالة، والى هذه العدالة التي هي الحقيقة". وعلٌق البابا يوحنا بولس الثاني على هذه العبارة بقوله: "ان عدالة الله وشريعة الله هما شعاع من الحياة الالهية. لكن العدالة البشرية عليها هي أيضا أن تبذل جهدها لكي تعكس الحقيقة بمشاطرتها تألّقها. يقول القديس توما الأكويني: "ان العدالة تُدعى أحيانا الحقيقة"، أي تألّق الشريعة.. ويجب أن تُمارس العدالة وفق الحقيقة، أي وفق العقل السليم، أي وفق الحقيقة... ويتابع قائلا: "ان محبة الحقيقة لا يمكن الاّ ان تُترجم بمحبة العدالة، وبالتالي بجهد لاحقاق الحقيقة في العلاقات في داخل المجتمع البشري". و"الله هو الطريق، والحق، والحياة" على ما يؤكّد الانجيلي يوحنا. ان بولس الرسول يقول: "لا بدّ للضمير من أن يستنير بالروح القدس". وأن لا يسلك بخداع، ولا يغشّ بكلمة الله، بل أن "يظهر الحق"... ولكنّنا ننبذ الأساليب الخفيّة المخجلة، ولا نسلك طريق المكر، ولا نزّور كلمة الله، بل اننا باظهار الحق نُظهر أنفسنا تجاه ضمير كل انسان، أمام الله".
وكما أن الله هو الحق والحقيقة، فالمسيح ابن الله هو أيضا الحق والحقيقة على ما أكّد بقوله: "والكلمة صار جسدا وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آتٍ من الآب، ملآن نعمة وحقا". وعندما مثل أمام بيلاطس، وسأله هذا الأخير بنبرة تهكّم ساحق: "أملك أنت اذن؟ أجاب يسوع: أنت تقول اني ملك. اني لهذا وُلدت، ولهذا أتيت الى العالم، لكي أشهد للحق. فكل من هو من الحق، يسمع صوتي". وهذا ما سبق للعهد القديم أن أكّده، على ما ورد في كتاب آشعيا الذي قال: "فالذي يتبارك بهذا الاسم على الأرض، يتبارك باله الحق، والذي يُقسم به على الأرض، يقسم باله الحق، لأن المضايق الأولى قد نُسيت وسُترت عن عيني".
وما دام الله هو الصدق بالذات، يجب أن نتصرّف معه بأمانة وصدق. وهذا طالما تذمّر منه الله بقوله بلسان آشعيا النبي: "ان هذا الشعب يتقرّب اليّ بفيه، ويكرمني بشفتيه، وقلبه بعيد مني، وانما مخافته لي وصيّة بشر تعلّموها". وما جلد المسيح نقيصة كالرياء والكذب، وهذا ما عاب به الكتبة والفريسيين بكلام من نار، فقال لهم: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراوْون! لأنكم تؤدّون عشور النعنع والشومار والكمّون، وقد أهملتم أهمّ ما في التوراة، أي العدل والرحمة والأمانة. وكان عليكم أن تعملوا بهذه ولا تهملوا تلك... وعاب عليهم تصفيتهم الماء من البعوضة، وابتلاعهم الجمل، وتطهيرهم خارج الكأس والاناء، وداخلهما مملؤ بما كسبوا بالنهب والطمع، وشبّههم بالقبور التي ظاهرها جميل، مزّين، وباطنها نتن، قبيح. وهذا يعني أن باطنهم غير ظاهرهم، فهم يتظاهرون بالبراءة، وهم في الواقع ذئاب مفترسة. وهل من كلام أشدّ وقعا من هذا الكلام على المسامع، بما فيه من توبيخ، وتقريع، وتقبيح؟
إذا كان الكلام لا يترجم ما في الضمائر من نيات، ويعبّر عما يختلج في قلب الانسان من مشاعر وأفكار، فهو تضليل وخداع. وهذا ما رذله السيد المسيح. فهو لا يتوقّف عند المظاهر، خاصة اذا كانت كاذبة، لكنه يريد الحقيقة والواقع، كما هما دون تزييف وتشويه. لذلك قال في كتابه العزيز: "يا بني أعطني قلبك، ولترعَ عيناك طرقي". يقول موجز تعليم الكنيسة اكاثوليكية: "ان كلا من الناس مدعو الى الشفافية والصدق في مسلكه وكلماته. وعلى كل منهم واجب البحث عن الحقيقة، واعتناقها، وتنظيم حياته وفقا لمقتضيات الحقيقة. في يسوع المسيح، ظهرت حقيقة الله بكاملها. فهو الحقيقة. ومن اتبعه عاش بروح الحق، وهرب من الازدواجية، والرياء، والخبث". وهذا ما تأمر به الوصية الثامنة التي تقول: "لا تشهد شهادة زور". وهي وصية تنهى عن تزييف الحقيقة في العلاقات مع الناس. وهذه "وصية أدبية تنبع من دعوة شعب الله ليكون شاهدا لربه الكائن، والذي يريد الحقيقة. وامتهان الحقيقة يعرب، بالكلام والأفعال، عن رفض لالتزام الاستقامة الأدبية: فهذه تُعتبر خيانة أساسية لله، وتخلخل نوعا ما، قواعد العهد"، المقطوع مع الله.