الإصحاح الرابع عشر
1 وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، 2 وَلكِنَّهُمْ قَالُوا:«لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ». 3 وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4 وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا:«لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5 لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6 أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ:«اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!. 7 لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8 عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا». (عدد 1-9).
ثم لنرجع إلى تاريخ حياة الرب وإلى الأيام الأخيرة من تلك الحياة المُباركة. فكان الفصح بعد يومين وطلب رؤساء اليهود أن يقتلوهُ ولكنهم كانوا يخشون أن يُثيروا شغبًا بين الشعب لأنهم رأوا أن تعليمهُ ومُعجزاتهِ قد أنشأت تأثيرًا عظيمًا في قلوبهم فقالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. تلك هي أفكارهم ولكنها لم تكن أفكار الله فإن يسوع كان لا بدَّ أن يموت كخروف الفصح الحقيقي المذبوح لأجلنا. وفضلاً عن ذلك كان ينبغي أن يموت في يوم الفصح نفسهِ ليفوق ذبيحة الفصح المُمثلة النجاة من مصر المرموز بها إلى نجاة أثمن بما لا يُقدَّر من المُشار إليها أي النجاة من الإثم لدى الله ومن سلطة الخطية.
فدنا زمان موت المُخلِّص وظهرت عواطف المحبة من الجهة الواحدة وشر الإثم من الجهة الأخرى بكل صورها وألوانها. فانَّا نرى مريم التي أَلَّفت الجلوس عند قدمي يسوع لتسمع كلامهُ وتفهم معناهُ وقلبها ينهل من تلك التعاليم الصافية. وكان يسوع ينبوع كل بركة الموضوع الذي وجهَّت إليهِ قلبها واستولى على عواطفها كل الاستيلاء. فإن نعمة يسوع ومحبتهُ أنشأتا فيها المحبة لهُ وأنشأت كلمتهُ في قلبها فهمًا وإدراكًا روحيًّا.وحملتها تلك المحبة على الشعور ببُغض اليهود المُتزايد لمُخلّصها. على أن التلاميذ عرفوا أن اليهود يطلبون أن يقتلوهُ أما مريم فشعرت بذلك. ليس أنها كانت نبيه غير أن قلبها شعر بذلك ودلها على ما يصبو إليهِ البُغض الإنساني فعملت كل ما عندها للشهادة على عواطفها المُباينة لتلك. فجعل السيد عمل المحبة المُشار إليهِ يتكلم حيثما يُكرز بالإنجيل في كل العالم.
فما أحلى الدخول إلى ذلك البيت الذي قطنت فيهِ تلك العائلة أما هذه الحادثة فجرت في بيت سمعان الأبرص فكانت هذه العائلة المحبوبة من المُخلِّص ملجًأ لقلبهِ حين كان يُرفض من الشعب. فإنه لم يستطع بعد الاعتراف بتلك المدينة التي أحبها مذ زمن مديد وكان مُعتادًا أن يسكن مع هذه العائلة المحبوبة. وكانت مرثا أكبر الأختين مُشتغلةً بالخدمة. فلقد كانت أمينة ومحبوبة من السيد ولكنها لم تكن ذات عواطف روحية كثيرًا ولم تفهم الأفكار التي أفعمت قلبهُ إلاَّ بعض الفهم. أما مريم فجلست عند قدميهِ تسمع تعليمهُ وكان الرب أقام من الأموات أخاها لعازر ومن ثمَّ تعلق قلبها بالمُخلِّص وأصبحت تُمثل تلك البقية القليلة التي اتَّحدت بيسوع نفسهِ وتابعت السير في الطرق الإلهية حتى النهاية ولم تقف عند آمال اليهود وأفكارهم على أن الإدراك الروحي المُعطى من الروح القدس وإن كان لم يزل ناقصًا فقد تبعت الرب عن قُرب ومن ثمَّ كانت مُتأهبةً لقبول الإعلان المُزمع أن يتمَّ.
فقد قبل أن مريم هذه لم تكن عند قبر يسوع تطلب المُخلِّص الحي بين الأموات. غير أن القلوب المُتحدة مع يسوع بالمحبة والراغبة في الالتصاق بهِ تقبل منهُ إعلان محبتهِ ومجدهِ في الزمان المُعيَّن لذلك فهكذا هي الحالة دائمًا مع هؤلاء القوم المُخلص الوداد ليسوع. ومما هو جدير بالتأمل أيضًا أن يسوع وإن كان الله حقيقةً كان أيضًا إنسانًا حقيقيًا كاملاً وقدُّوسًا في كل شيء وفي كل الأفكار والعواطف بل كان ينبوع كل الأفكار الصالحة. فلم يكن عديم الشعور بهذه الأميال الودية. فقد أحبَّ ذلك التلميذ حُبًّا خاصًّا أُعني يوحنا وأحبَّ أيضًا مرثا ومريم ولعازر وكان يُرفض من العالم الكنود والشعب المُتمرد ذلك لا ريب من أثمار نعمتهِ غير أن محبة قلبهِ لم تنقص بهذا السبب بل كان مثل هؤلاء أعزاء عليهِ وموضوع ودادهِ واهتمامهِ.
لكن وا أسفاه! إن ما هو رائحة حياة لحياة هو أيضًا رائحة موت لموت. فإن الذي أنفقتهُ مريم بالمحبة للسيد حرَّك روح البُخل والطمع في يهوذا وحسب ذلك خسارة. وقد سقط غيرهُ بهذا الداء العضال نفسهِ وأصبحوا تحت سطوة هذه الأفكار الشريرة. أما السيد فبرَّر المرأة وقال أنها فعلت كل ما عندها وما ذلك القول إلاَّ من نعمتهِ الفائقة وصرح بوجوب الاعتراف بما فعلتهُ في كل الأجيال تذكارًا لها. فإنها أبدت عواطف قلبها المُكرس بالنعمة في زمان كان بهِ المُخلِّص عازمًا على تسليم نفسهِ بالمحبة لفداء الأثمة فأصبح اسمها غير منفك عن عمل المسيح في تأدية الشهادة القاطعة لمحبتهِ الأبدية. فالذي فعلتهُ وإن كان قليلاً إنما السيد لا ينسى القليل المُقدَّم لهُ بالقلب الأمين المخلِص.
10 ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. 11 وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ. (عدد 10-11).
أما الآن فقد أمست كل الأمور تسير نحو النهاية فأسرع يهوذا مسوقًا ربما بقوة الرشوة وبالحري بقوة إبليس إلى تسليم الرب. فقد تمَّ بذلك الخير والشر معًا وقد كملا على الصليب. وأما رؤساء اليهود فلم يكن فيهم شيءٌ من الضمير الصالح يمنعهم عن إجراء أعمالهم الشريرة ومُقاومتهم لرب المجد ولم يدَّهم خوف الله عن ذلك فأنفقوا مع يهوذا على إعطائهِ دراهم لتسليم يسوع. فكان يطلب فرصة لتسليمهِ إلى أيدي الكهنة بسكونٍ وهدوءٍ. فيا للعمل القبيح الفظيع!
12 وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 13 فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. 14 وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ 15 فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». 16 فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. (عدد 12-16).
ولكن كان لا بدَّ للمُخلِّص من أن يوضح لتابعيهِ الطريقة التي أسلم بها نفسهُ لأجلهم فسنَّ ذلك التذكار الثمين لموتهِ ليُحملنا على ذكر ذلك على الدوام لا لنؤمن فقط بكفاءة ذبيحتهِ المُكملة مرة وإلى الأبد على الصليب بل لتتحد قلوبنا بالمُخلِّص الذي أحبنا وأسلَّم نفسهُ لأجلنا ونَذكُرهُ ونُخبر بموتهِ الكريم إلى أن يجيءَ. فانَّا نحن المسيحيين قائمون بين الصليب وإتيان المسيح ومؤسسون كل التأسيس على عمل الصليب الكامل ومُنتظرون تلك الساعة التي يعود بها إلينا بالأشواق الحارَّة.
فالرب وإن كان قد وصل إلى زمان إتضاعهِ الكلي ما فنيّ مُحافظًا كل المُحافظة على مجدهِ الذاتي وعلى حقوقهِ وسيادتهِ على كل الأشياء. فأمر اثنين من تلاميذهِ أن يدخلا المدينة حيث يريان إنسانًا حاملاً جرَّة ماءٍ فيجدا قلبًا مُستعدًّا بالنعمة لِقُبولهِ فيقولان لهُ: يقول المُعَلِّم: أين المكان الذي آكُل فيهِ الفصح مع تلاميذي؟ فإنهُ لهُ المجد يَعلَّم كل الأحوال وكل القلوب. فوجد التلميذان الرجل كما أخبرهم وأعدا الفصح.
17 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 18 وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ، قَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» 19 فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِدًا فَوَاحِدًا:«هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ:«هَلْ أَنَا؟» 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21 إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». (عدد 17-21).
فلما كان المساءُ أتى يسوع مع الاثنى عشر وكان ذلك العيد تذكارًا لنجاة بني إسرائيل من عبودية المصريين غير أن يسوع كان مُزمعًا أن يُتمم فداءً أفضل فسنَّ تذكارًا أسمى من ذلك بما لا يُقدَّر ولكن كان لا بدَّ لهُ أن يموت للقيام بذلك. فكانوا معًا على المائدة فتطلع السيد وهو مُفعم بالمحبة بالتلاميذ وشَعرَّ كل الشعور بأن واحدًا يُسلمهُ ممن كانوا مُتمتعين بعِشرتهِ وحضرتهِ المُقدَّسة. فقد عَلَمَ من هو الخائن، ولكنهُ عَبَّرَ عن الألم الحال في قلبهِ فقال: إن واحدًا منكم يُسلَّمني فإنهُ أراد أن يمتحن قلوبهم أيضًا وأن يُعلِنْ ما هو كامن داخلهُ. فصدقوا كلمات الرب فقال: كلٌّ منهم واثقًا كل الوثوق بالرب لا بنفسهِ هل أنا هو يا سيد؟ تلك شهادة جميلة على قلوب مُمتحنة تهتم بفظاعة ذلك الإثم وإمكانية حُدوثهِ وتثق بيسوع أكثر مما بنفسها.
ولكن لا بدَّ للسيد من احتمال تلك الأحزان كلها فلم يكتمها بكبرياء عن خاصتهِ. ولكن رغب كإنسان في إبدائها للقلوب الإنسانية لأن المحبة تستند على المحبة. على أنهُ توجد أحزان يتعذر إبلاغها إلى قلوب البشر غير أن مشيئة الله اقتضت فليكن اسمهُ مُباركًا إلى الأبد أن نعرف آلام ابنهِ فهي وإن كانت تفوق إدراكنا لكنها عُرِضَتْ على قلوبنا للتأمل والتَبصُّر. وبُناءً على ذلك نسمع المُخلِّص صارخًا، إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فإذا لم نستطع البلوغ إلى أعماق آلامهِ نستطيع أن نفهم شيئًا منها ونعرف أنها كانت غير محدودة. ثم أعلن لهم الرب على المائدة قُرب انصرافهِ من العالم وفقًا للنبوات وأنبأهم عن دينونة يهوذا الهائلة. ولا يُخفى أن إتمام مشورات الله لا ينزع الإثم عن القائمين بإتمامها، وإلاَّ كيف يستطيع الله أن يدين العالم؟ لأن كل الأشياء تعمل معًا لإتمام مشوراتهِ. لا جرم أن إرادة الإنسان الشريرة لا تنفكُّ من عمل الشر على الدوام. أما غاية الرب البادية في هذا الإنجيل بإخبارهم عن الإنسان المُرتكب هذه الخيانة فليست الإشارة إلى شخصهِ بل ليُعرفهم أن الذي يفعل ذلك إنما هو واحد من الاثنى عشر.