الأصحاح الرابع
1 فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟ 2 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ، وَلكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ. 3 لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا». (عدد 1-3). فيجب أن تُقرأ: إبراهيم أبانا حسب الجسد، الإنسان يحب ديانة موروثة من أجدادهِ أو مُسلَّمة لهُ بواسطة التقليد والسلطان الكنائسي، لأنها لا تقتضي وجود إيمان حيّ ولا تمرين الضمير في الذي يقبلها. وإذ ذاك يمكنهُ أن يفتخر بها بحيث لا توجد نسبة حية بينهُ وبين الله. وبما أنهُ مقترن اقترانًا وهميًّا مع أُناس قدماء مشهورين بصيت حسن بتعظيم ناسيًا لنفسهِ جانبًا من فضائلهم مع أن الفرق بينهُ وبينهم كالفرق بين الظلمة والنور. معلوم أن الديانة اليهودية كانت هكذا في أيام بولس وكذلك الديانة المسيحية الدارجة في أيامنا. الله لم يقصد أن يضع نظامًا دينيًّا يمكننا أن نتسلمهُ من أيدي الآخرين صالحين كانوا أم خلاف ذلك ونعيش فيهِ آمنين بدون أن نعرفهُ تعالى معرفة أكيدة شخصية حال كوننا سالكين سلوكًا جديرًا بنعمتهِ. فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم (مَتَّى 8:3، 9). الإنسان لا يريد أن يعيش بلا دين لأنهُ قد انفتحت عيناهُ لوجود الشر وحكم الله عليهِ من وقت السقوط، لكنهُ يريد دينًا خاليًا من الحق، وإن كانت بعض الحقائق الإلهية موجودة عندهُ يمزجها مع البطل لئلاَّ تكون لها قوة في ضميرهِ مدَّعيًا أن الله قد صادق على أباطيلهِ وإذ ذاك تراهُ منشغلاً في الظلمة بعيدًا عن الله ظانًا أنهُ قادر أن يغطي عورتهُ. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر (تكوين 7:3) فالمآزر الدينية المصنوعة من تعب يديهِ تناسب الإنسان إذ تسترهُ في الخارج وتلهيهِ عن الالتفات إلى حقيقة حالتهِ أمام الله. وإن بلغهُ صوت الله يخاف مثل آدم ويختبئ ولا يخرج من مخباءهِ وإلاَّ جبرًا. هذا هو وصف الإنسان إن كان يهوديًّا أو وثنيًّا أو نصرانيًّا لأنهُ لا فرق. لأنهُ يحبُّ شهواتهِ والنور الإلهي لا يناسب ذلك فلا يريد أن يأتي إلى النور لئلاَّ تُوبخ أعمالهُ.
فماذا نقول أن إبراهيم أبانا حسب الجسد قد وجد. هل نقول أنهُ وجد التبرير بأعمالهِ. أن وجد ذلك فلهُ سبب للافتخار. ولكننا لا نقدر أن نقول هكذا عنهُ لأن الكتاب يشهد أنهُ تبرر بالإيمان؛ آمن إبراهيم فحسب لهُ برًّا.
4 أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. 5 وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا. (عدد 4، 5). ربما يقول معترض أن التبرير لا يصير بالإيمان وحدهُ بل بالإيمان والأعمال معًا فيدحض الرسول اعتراضًا كهذا إذ يصرّح أن ذلك مستحيل بحيث أن الإيمان على مبدأ يُضاد مبد
أ الأعمال على خط مستقيم، لأن الذي يطلب أن يتبرر بأعمالهِ مُضطرٌّ أن يعمل حسب المبدأ الشرعي فكلما عمل شيئًا يحسب لهُ أجرة، ولا يمكن تطبيق ذلك على مبدأ النعمة المُعلنة للفجار فقط. وأما الذي اقتنع بأنهُ ليس سوى فاجر ويلتجئ إلى رحمة الله في المسيح فإيمانهُ يُحسب لهُ برًّا. أي أنهُ يعتبر بارًّا بسبب كونهِ مؤمنًا. ليس المعنى أن الإيمان نفسهُ لهُ قيمة تُحسب برًّا.
6 كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: 7 «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. 8 طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً». (عدد 6-8. فداود شاهد يعتمد عليهِ من جهة التبرير مجانًا ويوجد وجهان لهذا التطويب أولاً، غفران الخطايا وثانيًا، عدم حسبان الزلات بعد الإيمان 9 أَفَهذَا التَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى الْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى الْغُرْلَةِ أَيْضًا؟ لأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا. 10 فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَهُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ؟ لَيْسَ فِي الْخِتَانِ، بَلْ فِي الْغُرْلَةِ! (عدد 9، 10). فما أخدع القلب البشري وما أبعدهُ عن أدراك نعمة الله. فالتزم الرسول أن يوضح هذا الموضوع داحضًا الاعتراضات الواردة من كل الجهات خصوصًا من أفواه اليهود المُتعصبين المُعتدّين ببرّ أنفسهم وامتيازاتهم القديمة مُتكبرين بقدر ما هم أشقياء ظانين أن قطع لحمهم أعطاهم حقوقًا خصوصية لنعمة الله دون الذين لم يختتنوا. لو تثبَّت أن إبراهيم تبرر بعد إختتانهِ لكان وجه لليهودي أن يقول أن الختان ساعد على ذلك وإذ ذاك أُخرج الأمم عن دائرة إبراهيم تبرَّر وهو بعد غير مُختتن.
11 وَأَخَذَ عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْمًا لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ، لِيَكُونَ أَبًا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ، كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضًا الْبِرُّ. 12 وَأَبًا لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ. (عدد 11، 12). فليس للختان مدخل مُطلقًا في مسألة التبرير؛ لأن إبراهيم مع كونهِ أول واحد أُختتن لم يكن ختانهُ سوى علامة قبولهِ عند الله بالإيمان. وبما أنهُ كان أول واحد أشتهر اسمهُ بالنظر إلى كونهِ مُؤمنًا تاركًا وطنهُ وعشيرتهُ بمُوجب دعوة الله صحَّ أن يعتبر أبًا أي مثالاً للأمم المؤمنين في الوقت الحاضر ومثالاً لليهود أيضًا، ولكن ليس لجميعهم بمجرد إيمانهِ فقط. قولهُ خطوات إيمان إبراهيم يشير إلى سلوكهِ الذي نتج من إيمانهِ إذ انفصل عن العالم وانفرز لله. «بالإيمان إبراهيم لما دُعيَّ أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذهُ ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي. بالإيمان تغرَّب في أرض الموعد كأنها غريبة، ساكنًا في خيام مع إسحاق ويعقوب الوارثين معهُ لهذا المُوعد عينهِ. لأنهُ كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عبرانيين 8:11-10).
13 فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. 14 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ: 15 لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ. (عدد 13-15). فالوعد عبارة عن نعمة الله أو البركة العامة للبشر بواسطة المسيح الذي هو من نسل إبراهيم حسب الجسد ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض (تكوين 18:22) فيقول أن هذا الوعد لم يعطَ بواسطة الناموس بل ببر الإيمان، لأن الوعد والإيمان والبركة مقترنة معًا وكذلك الناموس والتعدي واللعنة (العدد 14) جملة مُعترضة ويظهر سلبيًّا ما ينتج من الضرر إذا تعلقت الوراثة أو البركة بالناموس وانحصرت في اليهود بحيث ذلك ينقض الوعد والإيمان من أصلهما، فقولهُ: لأن الناموس ينشئ غضبًا إذ حيث ليس ناموس ليس تعدٍّ أيضًا (عدد 15) مقترن مع (العدد 13). يجب أن نلاحظ جيدًا أنهُ لا يقول حيث ليس ناموس ليس خطية أيضًا بل حيث ليس ناموس ليس تعدٍّ أيضًا، والفرق بين هذين القولين عظيم جدًّا لأن الخطية كانت موجودة في الناس سواء كان عندهم ناموس أم لا وأما التعدي فلا يصير إلاَّ بالنظر إلى وجود شريعة صريحة فمعنى هذا العدد هو أن الوعد لإبراهيم بالبركة لم يكن بالناموس لأن الناموس لا يستطيع أن ينشئ للإنسان الأثيم سوى غضب كما يتضح من تاريخ بني إسرائيل، فأنهم كانوا خطاة من الأول وخطاياهم استوجب قصاصًا، ولكن بعد سماعهم الناموس جعلوا يخالفونهُ حتى قبل دخول اللوحين إلى محلتهم كانوا قد صنعوا العجل الذهبي وسجدوا لهُ فماذا إذًا يكون النفع من ناموس طاهر عادل لهم أو لغيرهم إلاَّ مزيد الدينونة. فالواضح أنهُ من المُستحيل للإنسان الخاطئ أن يفوز ببركة ما بواسطة الناموس.
16 لِهذَا هُوَ مِنَ الإِيمَانِ، كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ النِّعْمَةِ، لِيَكُونَ الْوَعْدُ وَطِيدًا لِجَمِيعِ النَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ النَّامُوسِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا. 17 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ». أَمَامَ اللهِ الَّذِي آمَنَ بِهِ، الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. (عدد 16، 17). فجميع النسل عبارة عن المؤمنين في أي وقتٍ كان بعد زمان إبراهيم ومن أي جنس كانوا وأما ما أمتاز بهِ إيمان إبراهيم فهو تركهُ وطنهُ وتغرُّبهُ في أرض الموعد كأنها غريبة كما تقدَّم بدون أن يمتلك شيئًا منها حاسبًا الله أمينًا وصادقًا وصار بذلك مثالاً لنا حال كوننا مؤمنين بالله عائشين في العالم كغرباء ونزلاء ليس لنا نصيب فيهِ في الوقت الحاضر ولا نفوذ بل بعكس ذلك لنا الفقر والإهانة لأجل اسم المسيح على أننا نرجو أن نملك معهُ فيما بعد. 18 فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ:«هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». 19 وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ ­ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ ­ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. 20 وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. 21 وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا. 22 لِذلِكَ أَيْضاً: حُسِبَ لَهُ بِرًّا». (عدد 18-22). فنرى هنا أمرًا آخر وهو على غاية الأهمية لنا إذا أردنا أن ندرك طرق الله ومعاملاتهِ مع المؤمنين في كل حين بحيث أ،هُ يعطيهم عطية الإيمان ثمَّ يمتحنهُ بامتحانات شديدة من شأنها أن تلاشي جميع آمالهم المبنية على قوتهم وحكمتهم بحسب الطبيعة، فأنهُ لا بدَّ من أن الموت للجسد وللرجاء المُتعلق عليهِ يدخل بين وعد الله وإتمامهِ وذلك مرٌّ جدًّ لنا إذ نودُّ أن نتمتع بالبركات المُناسبة لنا كوننا عائشين في العالم غير مُختبرين مرارة الموت، ولكننا لا نقدر أن نتمتع بأعزَّ بركات الله الآمن بعد إجراء حكم الموت فينا حسب الجسد وظهر ذلك في إبراهيم وسارة مثالاً لنا بحيث إتمام وعد الله توقف على وجود نسل لهما فشاء الله أن يتأنى لتجربة إيمانها إلى أن الطبيعة صارت في حالة الموت حسب الظاهر وإذ ذاك تقوَّى إبراهيم بالإيمان بقطع النظر عن أحوال الطبيعة مُتيقنًا أن الله قادر أن يعطيهُ النسل الموعود بهِ ولو مات مستودع سارة التي كانت الإناء المُختار الذي ينبغي أن يتمَّ الوعد فيهِ. فقولهُ: مُعطيًا مجدًا لله. أنهُ أعطى لله مقامهُ اللائق كالخالق الأمين الذي لا يمكنهُ أن ينسى كلمتهُ أو يعجز عن إتمامها. فلما وُلد إسحاق كان كواحد وُلد بقوة الله حين كان أمر كهذا غير مُستطاع عند البشر. فإيمان إبراهيم واصطبارهُ إلى الله مثال لنا على أنهُ يوجد هذا الفرق بينهُ وبيننا بحيث أنهُ آمن أن الله قادر أن يُقيم الأموات إن شاء ونحن نؤمن أنهُ قد أقام الموتى لأنهُ قد أقام يسوع ربنا.
23 وَلكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ، 24 بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا، الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. 25 الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا. (عدد 23-25). فكل ما كُتب عن كيفية تبرير إبراهيم لم يكتب لإفادتهِ وحدهُ، بل لأجلنا نحن أيضًا حال كوننا مؤمنين بالله بالنظر إلى أنهُ أقام يسوع ربنا من الأموات وهنا نرى ما هو جوهر معتقدنا المسيحي (انظر أيضًا أصحاح 9:10) والمعنى أنهُ أُسلم للموت لكونهِ حاملاً خطايانا على سبيل النيابة ولما كان موتهُ الكفارة التامة التي اقتضاها العدل الإلهي أقامهُ الله لكي يصير تبريرنا فيهِ حال كونهِ حيًّا بعد الموت. ليلاحظ القارئ جيدًا أن الرسول يتكلم عن لسان المؤمنين مُستعملاً ضمير المُتكلم. فيوجد فرق من هذا القبيل بين كلامهِ السابق المُتضمن في الأصحاح الثالث وكلامهِ هنا، لأنهُ تكلَّم هناك عن فوائد موت المسيح العامة المُطلقة موضحًا إظهار برّ الله إذ قدَّم المسيح كفارة بكيفية أمكنتهُ أن يبرّر كل فاجر يؤمن بهِ ولم يذكر قيامتهُ هناك، وأما هنا فمقصدهُ أن يتكلَّم عن موت المسيح حال كونهِ نائبًا عن المؤمنين الذين هم بالحقيقة المُختارون في المسيح قبل تأسيس العالم، وإذ ذاك فكان ذكر قيامتهِ ضروريًّا لأن الله عندما يخصّص لنا فوائد موتهِ لا يتركنا خارجًا عنهُ، بل يبررنا فيهِ. أنهُ كان وجهان عظيمان لعمل الفداء أو لهما الكفارة المُطلقة على طريق العموم وثانيهما نيابة المسيح عن المؤمنين على طريق خصوصي. فعلى الوجه الأول قد وردت شهادات كثيرة منها. «لأنهُ هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنهُ الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن بهِ، بل تكون لهُ الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3). «والخبر الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذلهُ من أجل حياة العالم» (يوحنا 51:6). وعلى الثاني أيضًا شهادات كثيرة مثلاً. «وأنا أضع نفسي عن الخراف» (يوحنا 15:10). «إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسهُ لأجلي» (غلاطية 20:2). وجمع الوجهان في المثلين المُتضمنين في (مَتَّى 44:13-46). فنرى في المثل الأول أن الرب أشترى الحقل أي شراء عامًا رغبة في امتلاك الكنز المخفي فيهِ وفي الثاني أشترى اللؤلؤة الكثيرة الثمن لا غير. ويوجد أيضًا جانب من الذبائح الرمزية يظهر منها الفرق بين هذين الوجهين اللذين نحن في صددهما أخصُّها التيسان اللذان قدِّما يوم الكفارة العظيم. ويأخذ التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع ويلقي هارون على التيسين قرعتين قرعة للرب وقرعة لعزازيل ويُقرّب هارون التيس الذي خرجت عليهِ القرعة للرب ويعملهُ ذبيحة خطية وأما التيس الذي خرجت عليهِ القرعة لعزازيل فيوقف حيًّا أمام الرب ليُكفر عنهُ ليرسلهُ إلى عزازيل إلى البرية (لاويين 7:16-11). فالتيس الأول الذي وقعت عليهِ قرعة الرب اختصَّ بالرب لكي يُكفر بهِ عن الشعب على وجه العموم بالنظر إلى أنهم خطاة عمومًا وكانت خطاياهم قد نجستهم وكل ما يختصُّ بهم أيضًا وإذ ذاك اقتضى أن يكون كفارة عامة لكي يمكن لله تعالى أن يسكن في وسطهم برضىّ. فدخل هارون بدم هذه الذبيحة إلىة قدس الأقداس ورشهُ على غطاء تابوت العهد وعلى جميع آنية المسكن التي تنجَّست نوعًا بسبب كونها بين شعب نجس فهذا الدم طهرها وكفر عن سيآت الشعب على وجه الإطلاق وكان الله إكرامًا لذلك يعاملهم برحمة وطول أناة وذلك كلهُ رمز لائق إلى سفك دم المسيح لدى عدل الله وعزتهِ كما تقدم في الأصحاح الثالث لأنهُ مهما كانت الأرض مُتنجسة وسكانها أثمة فالله قادر إكرامًا لذاك الدم الزكي أن يُنادي جميع الخطاة قائلاً: تعالوا. ويمكنهُ أن يقبلهم جميعهم إن أرادوا أن يأتوا ولا يعتري عدلهُ أدنى خلل ولكن ليس أحد من ذاتهِ يُريد أن يأتي كما لا يخفى وإذ ذاك كان ينبغي أن يكون عمل آخر أو وجه آخر لعمل الفداء على سبيل النيابة وهو الوجه الثاني المذكور آنفًا الذي بموجبهِ المسيح اتخذ على نفسهِ خطايا البعض مُقرًّا بها وحاملاً إياها كأنها خاصتهُ وبناء على ذلك شرع بعد قيامتهِ يطلب الذين كان قد بذل حياتهُ عنهم بنوع أخصّ، وكان التيس الثاني من المار ذكرهما رمزًا إليهِ من هذا القبيل انظر ما قيل عنهُ. ومَتَى فرغ من التكفير عن القدس وعن خيمة الاجتماع وعن الذبائح يُقدّم التيس الحيّ ويضع هارون يديهِ على رأس التيس الحيّ ويقرّ عليهِ بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيآتهم مع كل خطاياهم ويجعلها على رأس التيس ويرسلهُ مَنْ يُلاقيهِ إلى البرية ليحمل التيس عليهِ كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة فيطلق التيس في البرية (لاويين 20:16-22). فلفظة عزازيل معناها إطلاق فقط. ونرى شيئين:
أولاً- هارون أقرَّ بخطايا الشغب بالتفصيل على رأس هذا التيس.
ثانيًا- أنهُ أطلقهُ إلى البرية حاملاً ما وُضع عليهِ. فكان اختلاف بين ما عُمل مع التيسين بحيث الأول ذُبح والثاني بقي حيًّا. فالوجهان مجموعان في المسيح لأن الذي مات قام أيضًا وكلاهما صحيحان والواحد لا يغنينا عن الآخر. كل مَنْ يتوجه لنحو العالم مُناديًا ببشارة الإنجيل يبني كلامهُ على الأول، قائلاً: المسيح قد مات ودمهُ مرشوش على عرش الله وبناء على ذلك الله ذاتهُ يدعوكم قائلاً: تعالوا. وأما الثاني فلتعزية المؤمنين فإننا عندما نرى بعين الإيمان المسيح حيًّا جالسًا عن يمين الله نتحقق قبولنا فيهِ وأن خطايانا مغفورة لأنهُ اتخذها عليهِ وحملها إلى أرض النسيان فصارت مغفورة وإن جاز السؤال عنها في الدينونة فها هي منسيَّة إلى الأبد.
*****************************************