تُحفظ الأناجيل، التي هي جوهر العهد الجديد وجزء مهم منه، بشكل دائم على المائدة المقدسة في كل كنيسة أرثوذكسية. من عن هذه المائدة يأخذ الكاهن النصّ، المعروف ليتورجيًا بـ"الإنجيل المقدس"، ليقرأه في اجتماع المؤمنين الليتورجي ثم يعيده إلى مكانه بعد القراءة. هذا يشير إلى المكانة المهمّة التي لكلمة الله وكذلك إلى عمق العلاقة القائمة بين الكتابات المقدسة والكنيسة الأرثوذكسية. فالكنيسة لا تحافظ على هذه الكتب ثم تقرؤها للمؤمنين فقط، لكنها أيضاً تفسرها بطريقة مسؤولة وذلك عبر العصور.
سنبدأ الآن بعرض تحليلي:
أ. للميّزات الأساسية للتفسير الأرثوذكسي للكتابات بالعودة، بشكل خاص، إلى العهد الجديد.
ب. للعلاقة بين الكتب المقدسة والكنيسة بطريقة موجزة.
ت. سنخلص إلى العلاقة الجدلية القائمة بين الإخلاص للتقليد والحاجة الملحّة اليوم لتقديم الكلمة الإنجيلية بفعالية اكبر.
أ- الميّزات الأساسية للتفسير الأرثوذكسي للكتابات
لنفهم بشكل أفضل عمل الكنيسة التفسيري، يجب أن نضع نصب أعيننا الفرضيات الأساسية الثلاث التالية:
1. يفرِّق اللاهوت الأرثوذكسي بين الحق، الذي هو الله نفسه كما أُعلن بيسوع المسيح وقد "حلَّ بيننا" (يو14:1)، وبين تدوين الحقيقة الخلاصيّة في أسفار الكتاب المقدس. هذا التمييز بين التدوين والحق يؤدي، بحسب ثيودور ستيليانوبولوس، إلى النتائج المهمة التالية: أولاً، إنه يقي من تماهي سر الله مع حرفية الكتابات. ثانياً، إنه يسمح بأن تُرى في الإنجيل خبرة أشخاص عديدين في علاقتهم مع الله مكتوبة بلغتهم الخاصة، في عصرهم وظروفهم، في رموزهم وصورهم وفي أفكارهم الخاصة عن العالم. بتعبير آخر، إنه يسمح بعلاقة ديناميكية بين كلمة الله، الموجودة في الكتب والتي تؤلّف حقيقة الإنجيل، وبين كلمات البشر، التي هي أشكال بشرية بها تُنقل كلمة الله. ثالثاً، إنه يفترض أن الكنيسة الأرثوذكسية تَجُلّ أيضاً بشكل عالٍ كتابات أخرى عن الخبرة مع الله ككتابات الآباء القديسين، والأشكال الليتورجية ونصوصها ومقررات المجامع المسكونية. هذا ينقذ الكنيسة من حصر تركيزها في الكتاب المقدس. أخيراً، الاعتراف بعلاقة متحرّكة بين الحرف والروح يقضي على التطرف الكتابي العقائدي كموقف لاهوتي (وهو القول أن الله أملى الكلمات التي نقلها حرفياً فيما بعد كتّاب مكرسون)، وتاليًا يحمي حياة المؤمن الأرثوذكسي من خطأ التبجيل الصنمي لنص الكتاب المقدس (bibliolatry أو المغالاة في إجلال الكتاب المقدس). مع كل ذلك، هذا التمييز بين التدوين والحق ليس هدفه التقليل من أهمية الإنجيل. فإذا كانت الكنيسة الأرثوذكسية تقدّر كتابات أخرى عن الخبرة مع الله، فالإنجيل يبقى التدوين الأول في التقليد اللاهوتي وفي عبادة الكنيسة.
2. ما نسميه "التقليد" في الكنيسة الأرثوذكسية ليس سوى خبرة الكنيسة الحيّة مع الكتاب المقدس على مدى تاريخها، وهذا ما لا يفهمه اللاهوتيون غير الأرثوذكسيون. وبما أن التقليد هو حياة، أي أنه فعل تلقي كنز الإيمان وتسليمه، فإنه ليس بأي معنى أمر جامد وهزيل، بل هو يملك المقومات الأساسية لأي كائن حي: الحركة، التقدم، استيعاب المحيط وتغيراته، وأخيراً، إلغاء أو نبذ العناصر الخاصة التي فقدت ارتباطها العضوي بجسد المسيح الحي.
3. كان تفسير الكتاب المقدس مهمة جسد المسيح في المسيرة التاريخية للكنيسة الأرثوذكسية. مما يعني أن تفسير أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يكون مهمة شخص منفرد يعمل بنفسه، مهما علا شأنه الأكاديمي، بل هو مهمة الكنيسة وهو عمل يغذيه الروح القدس وموهبة منه. مع ذلك، فقد حازت محاولات التفسير الفردية لبعض اللاهوتيين، في الماضي والحاضر، الاستحقاق والتقدير إذا اتفقت في النقاط الأساسية مع إجماع الوعي الكنسي حتى ولو كانت طرق تعبير هؤلاء اللاهوتيين مبتكرة وشخصية تمامًا.
هناك ملاحظة نسوقها حول هذه الفرضيات الثلاث: أن يماهي بعض اللاهوتيين بين الحق وحرفية الكتاب (بمعنى آخر انهم صنّموا النص الكتابي)، أو أن ينظروا إلى التقليد كعامل يعيق واقع الحياة لا كخبرة حية للكتاب المقدس، أو ألاّ يفسروا الكتاب كأعضاء ملتزمين في جسد المسيح. إذا وجدت هذه الانحرافات الثلاث التي هي الشكل المرَضي للفرضيات المذكورة آنفاً، عندها ستتأثر الأرثوذكسية وكل صورها في العالم غير الأرثوذكسي بشكل مباشر. في مطلق الأحوال، تبقى قوة الحقيقة مستمدة من الله نفسه حتى ولو كان العرض البشري لهذه الحقيقة ضعيفاً.
بعد أخذ هذه الفرضيات بعين الاعتبار، نستطيع الآن تفصيل الميّزات الأساسية للتفسير الأرثوذكسي للكتاب المقدس:
1. المسيحية تحمل صفة تاريخية واضحة، على أساس أنها الكشف الإلهي في التاريخ. فلا يمكن للاهوت ولا للتفسير الكتابي، بشكل خاص، التغاضي عن الأخذ الجدي بعين الاعتبار الأوضاع التاريخية التي تفترضها أسفار العهدين القديم والجديد، وذلك منعاً للانحراف نحو نوع من الغنوصية. فقد حاربت كنيسة القرون الأولى بلا هوادة الهرطقة الغنوصية التي أضعفت، ضمن الذهنية الهللينية القائلة بثنائية المبدأ، الأسس التاريخية وقادت الناس إلى غير المدرك واللامادي. لم تواجه الكنيسة هذا الانحراف بالـ"ما ورائيات" المسيحية ولكن بـ"عثرة" الحدث التاريخي للصلب، الذي هو قمة التدبير الإلهي أو بالأحرى "سر التدبير الإلهي". كلمة الله "صار جسداً وحلّ بيننا" (يو1: 14)، لكي يفتدي البشرية ويحوّل العالم ليس إسخاتولوجياً فحسب بل تاريخياً، في الحاضر.
اللاهوتي الأول في الكنيسة، الذي شدّد على الصفة التاريخية لسر تدبير الله الخلاصي، كان إيريناوس أسقف ليون، الذي قدّم، في كتاباته ضد الهرطقات (القرن الثاني م.)، تاريخ الكتاب المقدس على أنه مسرحية أبطالُها أو نجومُها الله والإنسان، حيث يضعهما إزاء بعضهما ضمن الأوضاع الحسية التي توجد في كل زمن معين. ضمن هذه الأوضاع التاريخية الحسية، يسعى أحد البطلين نحو الآخر. فالأول (الله) يسعى، بشكل خاص، نحو الثاني (الإنسان) الذي ينزلق أو يخطئ باستمرار حتى ينتهي بهما المطاف أخيراً إلى لقاء بعضهما في المصالحة، في المسيح الذي "يجمع الكل في ذاته"، بحسب التعبير البولسي المفضّل لدى إيريناوس.
يلتقي التقليد الآبائي التفسيري بمجمله عند خط الصفة التاريخية للفداء، بالرغم من الأوضاع المختلفة، التي تحدد حاجات ومواقف كل مفسر، في كل زمن. ولا بد من التنويه هنا بأن التفسير الآبائي يتم من خلال المنظار الكتابي وليس بحسب افتراضات فلسفية مجردة. وفي الوقت ذاته يؤكد هذا التقليد على مفارقة التاريخ استناداً إلى واقع قبول الآباء: أ-بقدرة الله المطلقة وبحرية الإنسان في الوقت عينه. ب-بالنعمة الإلهية المقدسة، وأيضًا بدور خطيئة الإنسان في التاريخ. ج-بتاريخية الأخرويات وبما يتخطى تاريخيتها، في الوقت ذاته.
2. الصفة الإكليزيولوجية: وهي ميزة رئيسية ثانية يتميز بها التفسير الكتابي الأرثوذكسي. صفته كعمل كنائساني مردّها إلى اختبار المفسّر لسرّ الشكر واستنارته بروح الله. فحقيقة أن يسوع عاش في زمن تاريخي محدد ومكان حسي على الأرض وأنه علّم، وصنع العجائب وصلب على عهد بيلاطس البنطي، هي حقيقة يمكن إثباتها بالوسائل التاريخية المتعارف عليها. إلا أن حقيقة أن يسوع هو الرب القائم الذي باستطاعته أن يعمل بفاعلية في حياة كل إنسان، حقيقة لن يقبلها إلا مَن يعيش "في الروح القدس" (1كور12: 3). بتعبير آخر، إن التاريخ (دون أن يتوقف عن أن يكون الأرض الصلبة للمفسر) يصير لاهوتًا عندما نضع نصب أعيننا ليس فقط الحدث التاريخي بحد ذاته ولكن أيضًا قيمته لدى الناس عند حدوثه وفي زمننا الراهن، وهنا تكمن أساسًا رسالته الوجودية. الفهم الخاص للكتاب المقدس هو أنه حركة تسير في اتجاهين: اتجاه نحو الزمن الذي كتب فيه النص، وهو تفسير النص (هذا ما سبق وأشرنا إليه في عرض الميزة الأولى للتفسير الكتابي الأرثوذكسي، أي الصفة التاريخية). والاتجاه الآخر نحو زمننا، وهو التفسير الرئيسي للنص أي رسالته. هذا ما اعتمدته الكنيسة دائماً في تفسيرها-مع الآباء وفي زمننا- وما زال الأمر كذلك في أي وقت ومع أي كان.
3. الصفة الآبائية تعطي التفسير الأرثوذكسي طابعاً خاصاً. تشير هذه الميزة، إذا فُهمت كما ينبغي، إلى استمرارية خلاّقة لروح الآباء، وهذه ليست اجترارًا أعمى لتفسيراتهم في متغيراتنا التاريخية والاجتماعية والأكاديمية، بل هي إخلاص للأسلوب الحي بتحويل معنى التاريخ الإنجيلي إلى عظة حياة ونداء وجودي، وذلك بطريقة لاهوتية. غني عن القول، أن هذا الإخلاص هو ثمرة المشاركة بين تقليد التفسير وحياة الكنيسة.
في أيامنا، طرح البعض، عن سوء فهم متعمد وغير متعمد، مسألةَ العلاقةِ بين الكتاب المقدس والآباء. بإمكاننا القول هنا أن التاريخ الكتابي، وأحداث الكتاب المقدس، لها امتدادات في حياة الكنيسة. كما يمكننا القول أن الوجدان الأرثوذكسي يفهم الكتاب المقدس ويختبره من المنظار الإكليزيولوحي الواقعي. فيرى العهد القديم مرآةً تعكس صورة المسيح وكنيسته، ويرى العهد الجديد كتاب الكنيسة، فيتحوّل هكذا الكتاب، من خلال الإفخارستيا، خبرة حياة. كل هذه الاعتبارات، لا تبرر أي جمود مَتْحَفيّ . فروح الله الذي أسس الكنيسة وهداها هو روح حرية وليس روح عبودية. بإسم هذا الروح، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار السعي الدائم للحفاظ على الرسالة. ما نحتاج إليه اليوم هو إحياء لفكر الآباء الإبداعي وذلك ضمن أطر الشروط الحديثة، بدل الإحياء الأعمى للآباء.
الدراسة التحليلية للمقاربات الآبائية للكتاب المقدس تساعدنا على فهم ما قيل سابقًا.
أ- لم يكن التفسير بالنسبة لآباء الكنيسة نهجاً أكاديمياً أو عملاً سكولاستيكياً داخل المكتبات، لكنه كان عظة تلقى في اجتماع شعب الله. لذلك، فهو مباشر وحيّ ويخاطب عقل المستمع وقلبه في آن، وهو لا يعمد إلى ملء عقولهم بالمعرفة المستقاة من الكتاب المقدس لكنه يهدف لإرشادهم إلى الأعمال، وإلى أخذ موقف، أو بالحري تجديد موقفهم (أي التوبة)، من الصليب وقيامة المسيح، هذا هو جوهر العهد الجديد بشكل خاص. بهذا المعنى وكواعظين بكلمة الله يربط الآباء بأمانة كلمة الحياة هذه بعصرهم بطريقة مفيدة لمستمعيهم أو لقرائهم اللاحقين. يربطونها بالمسائل الحسيّة التي تعترض مسيحيي عصرهم بهدف توفير حلول عملية لحماية المؤمنين وتعليمهم. لم يترددوا للحظة بتحليل مَثَل الزارع ليحددوا بدقة هرطقات معاصرة ومألوفة على أنها الأرض الصخرية والشائكة أو يماثلوا تدرج التربة الصالحة بفئات المسيحيين في زمانهم (مثال نموذجي هي خطبة القديس يوحنا الذهبي الفم "عن الزارع الذي خرج ليحصد….")
يتركّز اهتمام الآباء بشكل واضح على معاصريهم، ولهذا السبب ينطلق منهج التفسير لديهم من المسيح والرسل إلى زمانهم، بعكس البحث الحديث في الغرب بشكل خاصة حيث يفتش الباحثون عن صوت يسوع نفسه ipsissima vox jesu من خلال النصوص وأيضاً من خلال مجموعة المستمعين الأوائل الذين توجّه إليهم يسوع. هذا المسار الرجعي نحو الهدف الأول والمجموعة الأولى من المستمعين له بالطبع التقدير الأكاديمي، ومع ذلك، فإن المسار المعاكس من جماعة المستمعين الأولى إلى المستمع أو القارئ الأخير أو الحديث، إذا جاز التعبير، له أيضاً قيمة تعليمية إضافية. وينال هذا المسار تأييد الآباء الذين هم، بالدرجة الأولى وقبل أي شيء، واعظين ومعلمين لجماعة المصلين في الكنيسة.
ب- استعمل الآباء المفسرون، بالإضافة إلى الربط العضوي للنص الإنجيلي بزمانهم، المعارفَ العلمية في عصرهم من أجل فهم الكتابات. هذا ما شدّد عليه الآباء الكبادوكيون في القرن الرابع كما هو الحال في مؤلَّف القديس باسيليوس الرائع "الأيام الستةHexaemeron " الذي يتألّف من مجموعة عظات صباحية ومسائية أُلقيت في قيصرية كبادوكية في فترة الصوم من السنة 370م. هذا الأسلوب الآبائي باستعمال المعرفة العلمية لفهم أفضل لكلمة الله له دلالة خاصة في عصرنا، فمن ناحية يمكن لتعدد التطورات العلمية والتكنولوجية، إذا استُعملت بالشكل الصحيح، أن تساعد في تفسير كلمة الله ضمن الأطر الواقعية لعصرنا، ومن ناحية أخرى يظهر كم هو غريب عن التقليد الأرثوذكسي موقف بعض التقويين الذين يعتبرون أن المعرفة، حتى اللاهوتية، هي غير ضرورية لا بل مخالفة للإيمان أو ضد الإيمان. هذا الموقف معاكس كلياً للمنهج التفسيري للآباء.
ج- إن اهتمام الآباء المفسرين بربط الحدث الإنجيلي بمشاكل عصرهم، بالإضافة إلى استعمالهم الدائم للمعارف العلمية لفهم أوضح، قادهم بشكل طبيعي إلى تفسير وجودي لرسالة الإنجيل. فبالطريقة ذاتها التي ركّز فيها كتّاب الأسفار المقدسة على البشرية، بمعنى أن تدبير الله الخلاصي بالمسيح، المعلَن عنه مسبقاً في العهد القديم والمحقَّق في العهد الجديد، هو تدبير يرتبط بالبشرية وخلاصها. هكذا، في الفكر واللاهوت الآبائيين وبالتالي في تفسيرهم الإنجيلي، البشرية ومشاكلها الوجودية المقلقة هي نقطة مركزية لا يمكن التغاضي عنها.
كمثالٌ نموذجي على هذا النمط من التفسير الوجودي أو الإنساني، يمكننا أن نذكر تفسير الأمثال المتعلقة بالحديث عن اليوم الأخير (الدينونة). دون إهمال الواقع الأخروي لهذه الأمثال، يركّز الآباء على الواقع البيولوجي لنهاية حياة كل إنسان ويشددوا على الوعي الروحي الدائم بالنظر إلى هذه النهاية، لئلا تُؤخَذ البشرية وبخاصة المؤمنين على غفلة. إن تفسير القديس يوحنا الذهبي الفم لمَثَل رب البيت اليقظ (متى24: 42-44) هو مثل نموذجي، إذ يعتبر أن مجيء ابن الله المفاجئ يُفسَّر على أنه رمز لنهاية حياة كل إنسان.
د- يمكننا أن نجد تنوعاً كبيراً في الأنماط التفسيرية عند الأب نفسه أو حتى في العمل ذاته. هذا التنوع يبرهن صحة التقليد الآبائي التفسيري. بالإضافة إلى ذلك، فإن تداخل الأصوات التفسيرية المتعددة للآباء تطوّرت حول موضوع مشترك ألا وهو إيمان الكنيسة بالحدث المركزي لصلب المسيح وقيامته ونتائج هذا الحدث الخلاصي الذي يختبره كل إنسان في الكنيسة. داخل هذا الإيمان ليس من تعدد للأصوات ممكن. إلا أنه في إطار المواضيع الكتابية المختلفة فتداخل الأصوات المتعددة ليس فقط مسموح به بل وضروري لإبراز غنى الكتاب المقدس..
تتبع....