خطاب
لأبينا النبيل في القديسين باسيليوس الكبير
رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك
مدح به موكب المسيح الحسن الظفر الأربعين شهيداً يُقرأُ في نهار تذكارهم الموافق لليوم التاسع من شهر آذار
ألا أنه لا شبع لمحبّ الشهداءِ من ذكرهم. لا سيما إذا كان إكرام الأخيار ممن يشاركهم في العبودية دليلاً على اعتقاد الولاءِ للسيد الذي هم شركاءُ في طاعته. ولامرٌ معلوم أن من يقتبل الإجلال من الرجال بحبّ وحسن قبول لا يتأخر في الأوقات الموافقة لأوقات جهادهم عن التشبه بهم. فبالغ يا صاحِ في إعطاءِ الطوبى لمن قد استشهد حتى تصير بالنية شهيداً وتفوز بذلك من غير نارٍ ولا سياط. وتؤهَّل لما قد نالهُ الشهداءُ. ونحن الآن ما حضرنا لنتعجب من واحدٍ ولا من اثنين وليس عدد الذين نغبطهم يقف عند العشرة بل هم أربعون رجلاً نفس واحدة في جسوم متعددة. نفسٌ واحدة في اتفاق الرأي. نفسٌ واحدة في الإيمان كان صبرهم على المصائب والشدائد واحداً وكانت مقاوتهم عن الحق أيضاً واحدة. وكان جميعهم يقرب بعضهم من بعضٍ في اختيارٍ واحدٍ. وهمتهم واحدة. وجهادهم واحداً. فوصلوا من ثمَّ الى أكلَّة من المجد متساوية في الكرامة فأي كلامٍ يصل الى وصفهم بما يستحقونهُ. ولو كان لمادحهم أربعون لساناً لما كفتهُ لمديح فضيلة هؤلاءِ الرجال وتعظيمها. على أننا نحن لو كان الذي يعجب بهِ واحداً لكفى في مصارعة قوة كلامنا فضلاً عن أن تكون الجملة على هذه الصورة من الكثرة ويكونون مصفّاً من الصناديد كاملاً وجمعاً من المجاهدين لا يرام ولا يرتدُّ. فحالهم في بعد الوصول الى مقدارهم من الأوصاف شبيهٌ ببعدهم من الاستيلاءِ عليهم في الحروب سالفاً. فهلموا لنورد من التذكر بهم منفعة عامَّة كافية لجميع من حضر من حيث أننا نبين فضل هؤلاءِ الرجال ومبالغتهم في الجهاد ونجعلهم كصورة صحيفة. لأن الشجاعة في الحروب قد اعتنى بها وبذويها من يؤَلّف الكتب ويصوّر الصوَر. فالأول من الفريقين يبالغون في ترتيبهم بالوصف والكلام. والثاني يستفرغون جهدهم وقوَّة صناعتهم في تحسين صورة أفعالهم على الدفوف. وقد دفع كلُّ فريقٍ من هذين جماعة الى الشجاعة في الدخول الى الجهاد. لأن المصور إذا أخذ جملة الخبر في مسامعهِ أخرج تصوير شبههِ بالحكاية وهو صامت. فعلى هذه الصفة يجب علينا أن نذكر من حضر بفضل هؤلاءِ الرجال ونجعل أفعالهم كأنها نصب أعيننا فنحرك الأجلاد الذين يحضُّهم ثباتهم على التشبُّه بهم وذلك هو أجلُّ الأوصاف والمدائح أعني تحريك المجتمعين واستدعاءَهم الى الفضيلة. ومع ذلك فلا يقتضي وصف القديسين أن نستخدم أساليب المادحين لأن هؤلاءِ إنما يأخذون الوسيلة ومبدأ الوصف من أحوال العالم وأما الذين قد انصلب عنهم العالم فكيف يمكن أن شيئاً من أشيائهِ يزيدهم فضلاً. ومع ذلك فلم يكن لهؤلاءِ القديسين وطنٌ واحد بل كلٌّ منهم كان من موضع غير موضع الآخر فماذا ينبغي أن نقول أنهُ لم تكن لهم مدينة أم نقول أنهم كانت المسكونة كلها كمدينة لهم. وما أشبه حالهم في هذا الباب بالذين يتشاركون ويجمعون فيما بينهم شيئاً فتكون الجماعة مشتركة فيهِ. فهذه صفة حال هؤلاءِ المغبوطين فإن وطن كل واحدٍ منهم كان وطناً للجماعة. كلهم من مواضع مختلفة يخص كل واحدٍ منهم صاحبهُ بوطنهِ. بل ما لي أطنبت في بابهم وأنا أذكر أوطاناً أرضية فلاتينَّ وأبيّن مدينتهم أيّة هي. إن مدينة الشهداء بالحقسقة هي مدينة الله التي هو خالفها وصانعها أورشليم الحرَّة والدة بولس ومن يقارنهُ. وأما الجنس فكلٌّ منهم كان لهُ جنس يخالف جنس صاحبهِ. وأما الجنس الروحاني فهو لجماعتهم واجدٌ ووالدهم فيهِ الذي يشتركون في أُبوَّتهِ هو الله. وهم كلهم غير مولودين من والد واحد وأمٍّ واحدة بالجسد بل من بنوَّة الروح باتفاق المودَّة ينتظم أحدهم مع الآخر فيصيرون صفّاً واحداً معدّاً ممن يسبّح للرب منذ الدهر زائداً زيادة عظيمة جدّاً. وانقضاءُ حياتهم لم يكن واحداً بعد واحدٍ بل كان انتقالهم كلهم معاً. وأما حال انتقالهم فهي أن هؤلاءِ لموضع أجسامهم وحداثة سنّهم وعنفوان شبابهم كانوا يزيدون على غيرهم ممن كان في زمانهم فرتبوا بحسب ذلك في مراتب الجندية. ولموضع نظرهم في الحروب وشجاعة نفوسهم كانت لهم من الملك الكرامات الأولى وكانوا لأجل فضيلتهم معروفين عند كل أحدٍ. إلا أنه لما خرج النداءُ الكافر البعيد من الله ونودي بهِ في كل مكان: أَلاّ يعترف أحد بالمسيح إلاّ ويذوق الوصب وينتظر العطب ووقوع التهويل في ذلك بأنواع العقوبات وأصناف التعذيبات. وكان غضب قضاة الباطل على من حسُنت عبادتهُ غضباً وحشيّاً. وكانت الاغتيالات والدغل قد أُهتمَّ بتحصيلها وتنضيدها وكانت أنواع العقوبات قد استعدت وجرى أحكامها والذين يعاقبون بها لا يندفعون والنار مستعدة والسيف مصقول والصليب منصوب والبئر محفور والبكَر جارية والسياط مضفورة. حينئذٍ كان قوم يهربون وقوم مضطربين وقوم قبل ممارسة هذه الأشياءِ منزعجين من الوعيد وحدهُ. وآخرون لما قربوا منها اعتراهم الدَوار. وقوم بعد دخولهم في الجهاد لم يطيقوا الصبر الى منتهى الجهاد ففي منتصف جهادهم انحلُّوا كالذين تلحقهم الشدَّة في نفس اللجة. عطبوا وعطب ما كان معهم من أحمال الصبر وتجارتهِ. في ذلك الحين حضر هؤلاءِ الأجلاد جند المسيح الذين لا ينحلون ولا يخورون فرموا بأنفسهم في وسط الجمهور. فأبرز الرئيس منشوراً من الملك وطالب بطاعتهِ فيما رسمهُ فأطلق الشهداءُ من أفواههم نغمة واحدة مطلقة. وبيَّنوا من قلوبهم جراءَةً وشجاعة صادقة ولم يرُعهم ما أبصروهُ ولا ذهلوا من الوعيد الذي سمعوهُ بل لما صاروا في الوسط قالوا: يا قومُ نحن مسيحيون. فيا لها من السنٍ مغبوطة وافواه سعيدة ابدت هذه النغمة وصرخت هذا الصوت الذي لما قبلهُ الهواءُ تقدَّس وسمعتهُ الملائكة ففرحت وأحسَّ بهِ إبليس المحال وشياطينهُ فتجرحوا. وعرفهُ الربُّ في سمائهِ فكتبهُ وأثبتهُ. قال كل واحدٍ وهو منفرد في الوسط: إني مسيحيٌّ. فأشبه هؤلاءِ المذكورون الذين يدخلون في مقامات الجهاد فيذكرون في أول أمرهم أسماءَهم ثم يتقدمون فيما بعد الى جهادهم وصراعهم. لأن هؤلاء في ذلك الوقت أطرحوا اسماءّهم التي سموا بها من بلادهم ودعا كلٌّ منهم ذاتهُ باسم المخلص الذي يشاركهُ فيهِ غيرهُ فكان الواحد منهم يفعل ذلك والآخر يتلوهُ فصار الاسم لجماعتهم واحداً ليس فلان وفلان بل نادوا عن أنفسهم أنهم "مسيحيُّون".
فماذا صنع حينئذٍ المتقلد في ذلك الوقت أمرهم وقد كان شديد الحيلة داهية في الحكمة ليدخل بنوع من المداراة وبنوع آخر من التهويل ألا أنه ابتدأَ في الأول بمحاولة إرخاءِ قوة حسن عبادتهم فقال: "يا قوم لا تهلكوا شبابكم. لا تبيعوا أنفسكم. لا تعتاضوا من هذه الحياة اللذيذة بموتٍ مرٍّ في غير وقتهِ. وأنهُ لأمرٌ شنع بمن كانت آثارهُ في الحروب معروفة مفضَّلة أن يموت موت الأشرار". ومع هذا وعد بأموال وأحضر بعضها وضمن عن الملك مراتب وكراماتٍ. واستعمل من هذا النوع حَيلاً كثيرةً في التدبير عليهم.
فلما لم ينسجوا الى هذا النوع من سياستهِ. انتقل الى النوع الآخر من حيلتهِ. فذكر الضرب والموت وأنواع العقوبات. هذا ما ذكرهُ هذا من وعيدهِ.
وأما جواب الشهداءِ فكان: لِمَ تروم أن تخدعنا يا محارب الله وتطلب أن تبعدنا من اله الحيّ وتجعلنا في خدمة شياطين مهلكين. وتقدم في قولك ما ذكرتهُ من الخيرات. واي شيءٍ تعطينا يكون عديلاً على السواءِ لما تريد أن تأخذهُ منا. فإني أنا واحد من هؤلاءِ. أبغض هبةً تفيدني خسارةً. ولست أقبل كرامةً هي للهوان والدة. ألعلَّك تعطي مالاً؟ إلا أنهُ لا يكون باقياً. وتبذل شرفاً زاهراً؟ إلا أنهُ يكون الى الزوال عن قريب صائراً. وتجعلني عند الملك معروفاً؟ إلا أنك تصيرني من الملك الصادق بعيداً. فما بالك تفعل فعل شحيح في بذل القليل من أحوال العالم؟ إنك لو بذلت العالم كلهُ لكان عندنا حقيراً. وكل ما يبصر فيهِ ليس ما نشتهيهِ ونرجوهُ كفوءاً وعدلاً. إلا أنهُ ليس شيءٌ من هذه الأشياءَ كلها يساوي غبطة الصديقين إذ كانت هذه الأشياءُ كلها زائلة. والتي ننتظرها نحن باقية. وشوقي أنا إنما هو الى نوال إكليل واحد وهو إكليل العدل. ولقد وُلهتُ بحبّ مجدٍ واحدٍ وهو الذي أجدهُ في ملك السماوات. وإني لشديد التباهي لكن بما في العلو من الكرامات. وإني أحذر عقوبة واحدة وهي عقوبة جهنم تلك التي نارها محرقة وأما النار التي تهولون أنتم بها فهي شريكة لي في العبودية وربما خَجِلَت إذا رأَتْ من استهان بالأصنام. وضرباتكم إنما هي عندي مثل سهم يرشقهُ أحد الصبيان. وأنت إنما تضرب جسماً إذا أمكنهُ الزيادة في الصبر زاد إكليلهُ في البهاءِ. وإذا سبق فتولَّى وسارع الى الانحلال فأنما ينصرف خائباً وقد كفى أذى قضاةٍ حصاب مثلكم قد دُفع إليهم السلطان على الأجسام وهم يرومون السيادة على النفوس. ومتى لم تقدروا على إبعادنا من إلهنا صار عندكم ذلك أصعب الاشياء. والغاية في المساءّة أنكم قدَّمتم لنا هذه العقوبات المفزعة وليس لكم حجة علينا سوى حسن عبادتنا غير أنكم ستجدون منَّا رجالاً لا يعتريهم جُبنٌ ولا حبُّ الحياة ولا تذهلهم كثرة الأموال. بل يستصغرونها في جانب حبّ الله فها نحن قوم قد استعدَّينا للدوران على البكَر. وللكيّ وللعصر. والشدّ الى الأوتاد. والحريق بالنار والصبر على كل صنفٍ من أصناف العذاب.
تتبع....