الإصحاح الثالث والعشرون
بعض صفات الكتبة والفريسيين
(عدد 1-12؛ مرقس 38:12-40؛ لوقا 45:20-47)
«حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه قائلاً على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون» (عدد1-3).
أخذ الرب يسوع يخاطب الجموع وتلاميذه من جهة بعض واجباتهم فقال لهم «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون» (عدد 2) لم يكن النظام العتيق قد انتهى بعد فإن كرسي موسى كان لم يزل موجودًا. وكان يجب على جميع الإسرائيليين أن يسمعوا كلام التوراة. قابل قول الرب هنا مع قول يعقوب «لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به إذ يُقرأ في المجامع كل سبت» (أعمال الرسل 21:15) فالواضح أنه يستعمل اسم موسى للتعبير عن التوارة كلها. وكانت غاية اجتماعهم في المجامع استماع كلمة الله المُتضمَّنة في التوارة. وكان الكتبة والفريسيون قد أخذوا على عاتقهم أن يقرأوها للمجتمعين، على نسق ما فعل عزرا الكاتب ورفاقه (عزرا 8 وهذا من الأمور الحسنة التي كان يمكن للرب أن يُصادق عليها.
«فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه» (عدد 3) وأما تفاسيرهم للتوراة وأقوالهم وخرافاتهم فكانت مرفوضة عند الرب كما رأينا في (إصحاح 5، 15). لأنها كانت على وجه الأجمال منحرفة كل الانحراف ولا يمكن للرب أن يُصادق عليها البتة. ولا نرى أن الرب أو واحدًا من رسله اقتبس شيئًا منها مُصادقًا عليها. كان الوحي يستطيع أن يقتبس أقوالاً من بعض الشعراء الوثنيين (أعمال الرسل 28:17؛ تيطس 12:1) وأما التعاليم الدارجة وقتئذ بين اليهود فلم يذكرها إلا ليُظهر تحريفها. لا يُخفى أن كثيرين من المسيحيين قد استنتجوا من كلام الرب هنا استنتاجات غريبة جدًا إذ قالوا أنه يجب علينا أن نخضع للرؤساء الدينيين ولو كانت أعمالهم رديئة اعتبارًا لوظيفتهم. وزعموا أنه يوجد سلطان كنسي لهم يُوجب ذلك. وغضوا النظر عن أهم ما في الموضوع وهو: كيف حصل هؤلاء الرؤساء على هذه الوظيفة؟ وهل هي من الله؟ قد وجدوا أنه كان لموسى كرسي. فظنوا أنه لا بد أن يكون له كرسي حتى الآن. ويجب أن نخضع للذين قد جلسوا عليه. فأقول:
أولاً- أن الاستماع لكلمة الله من واجباتنا المسيحية ويجب أن نُصغي لها في كل حين. وإن كان الذي يأتينا بها يحاول أن يفسرها أيضًا نمتحن تفاسيره بواسطة الكلمة نفسها. فإن كانت صحيحة نفرح ونستفيد منها ونشكر الرب الذي هو مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة (يعقوب 17:1) وإلا فنرفضها.
ثانيًا- لا يوجد في الكنيسة كرسي لموسى أو لغيره. حتى الرسل أنفسهم لم يكن لهم كراسي، لأن السيادة والسلطان ليسا لهم بل للرب الذي كانوا يكرزون به (كورنثوس الثانية 5:4؛ يوحنا 13:13) ولكلمته التي نطقوا بها لا شك أن الرب استخدمهم بخدمةً عظيمةً جدًا. ولكننا لا نسمع أنه كان لواحد منهم منصب يعبر عنه بكرسي. فإنهم جالوا مبشرين بكلمة الله الصافية. وكل من كان خاضعًا لله كان يسمع لهم أيضًا (يوحنا الأولى 6:4) وكان يجب على السامعين أن يفحصوا الكتب المُقدسة ليتحققوا أتعاليمهم صحيحة أم لا (أعمال الرسل 11:17) وقال بولس «ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما إلخ» (غلاطية 6:1-10) ومع ذلك فقد ابتعد كثيرون عن كلمة الله واخترعوا تعاليم غريبة ويطلبون من الناس أن يخضعوا لهم لكونهم قد جلسوا في منصب نظير كرسي موسى.
ثالثًا- نرى من شهادات كثيرة واردة في العهد الجديد أن الرُسل والمؤمنين الأولين من اليهود أخذوا من بعد يوم الخمسين يتركون الكتبة والفريسيين رويدًا رويدًا رغم وجود التوارة عندهم وأخيرًا تخلوا تمامًا عن الحضور في المجامع، بل وعن نفس العبادة الطقسية في الهيكل. كان النظام الأول من الله وقد استنفد غايته في مجيء المسيح وموته (رومية 1:7-6؛ 4:10؛ غلاطية 24:3-26؛ 1:4-7؛ عبرانيين 8:10-10). ولكن لأنه كان منه تعالى احتمله زمانًا طويلاً حتى بعد بداءة الإيمان المسيحي بما يقرب من نحو 40 سنة وفي ذلك الوقت كان يجب على جميع اليهود المؤمنين بالمسيح أن يخرجوا إليه خارج المحلة حاملين عاره (عبرانيين 13:13) ثم أخربه أخيرًا على يد تيطس الروماني كما أنبأهم المسيح بذلك (عدد 38.
رابعًا- كرسي موسى مهما كان لم يُنصَّب لنا نحن المؤمنين من الأمم. ومن قال بأن الكنيسة المسيحية إنما اتساع وامتداد للنظام اليهودي يقر جهارًا أنه من الذين قد تهودوا وأصبحوا لا يهودًا ولا مسيحيين.
«ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون» الأقوال المقصودة هنا هي التي قالوها من كلمة الله. وكانوا ملومين لأنهم لم يعملوا بها. قرأوا أقوال التوارة على الآخرين وشددوا على حفظها مع أنهم هم لم يحفظوها.
«فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس. وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. ولك أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس. فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم. ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع والتحيات في الأسواق وأن يدعوهم الناس، سيدي سيدي. وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعًا إخوة. ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض. لأن أباكم واحد الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح، وأكبركم يكون خادمًا لكم. فمن يرفع نفسه يتَّضع ومن يضع نفسه يرتفع» (عدد 4-12).
في هذا الفصل يذكر الرب بعض صفات الكتبة والفريسيين كريائهم وحبهم للشهرة والتبجيل من الناس والنفوذ الديني. وقصد بذلك أن يحذر تلاميذه من قدوتهم السيئة. فعندما نقرأ كلامه يجب أن نخصصه لأنفسنا لأن قلوبنا الرديئة تميل إلى الأشياء المُنهى عنها. وهى خائنة إلى هذا المقدار حتى أنه من الأمور الممكنة أن نذم الموصوفين هنا ونستقبح فعلهم ونحن سائرون سيرهم. لأننا نستطيع أن ننظر عيوب الآخرين بسهولة في حين يعسر علينا جدًا أن نرى ما فينا من عيوب. ولو لم يكن تلاميذ المسيح مائلين إلى كل ما كان أولئك عليه لما كان مُوجب لإنذارات الرب لهم أن لا يعملوا حسب أعمالهم. وقد رأينا طمَّعهم في الترؤس بعضهم على بعض، وذلك في ظروف مؤثرة، وقدوة سيدهم الوديع قدام أعينهم، وأقواله تطرق آذانهم (إصحاح 20:20-28 وأن كان القارئ أو الكاتب يظن أن إنذارات الرب الخطيرة لا تعنيه فقد تغافل عن حالة قلبه البشري كل التغافل. فالأليق بناء جميعًا عند تأملنا في ما نطق به الرب في شأن الذين اتخذوا الدين علة لرفع ذواتهم في الدنيا أن نقول ما قاله التلاميذ في وقت آخر «هل أنا هو يارب؟» (إصحاح 22:26). معلوم أنه لا يمكن للجميع أن يفوزوا بالمجالس الأولى في المجامع ولكن الفرق قليل جدًا بين من جلس هناك وبين من استظرف واستحسن هذه الجلسة الرئيسية. إذ أن أصل العملين واحد وهو الكبرياء التي تحملنا دائمًا وأبدًا على أن ننسى مجد المسيح ونرفع ذواتنا أو الآخرين. وبالحقيقة عندما نعظم غيرنا نحن في ذات الوقت نعظم ذواتنا أيضًا لأننا إنما نعمل ذلك لكي نفتخر بهم لكونهم من مذهبنا أو طائفتنا.
«فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم» كان نظام الناموس مع فرائضه الكثيرة نيرًا لا يمكن حمله (أعمال الرسل 10:15). والله جعله هكذا عن قصد لكي يقنع الإنسان أنه لا يستطيع أن يصنع برًا لنفسه ولم يمكن لمن قرأ الناموس على الناس أن يخفف أحماله العسر الحمل ولكنه كان ملومًا إذا قرأه عليهم طالبًا أن يحفظوه وهو نفسه يستعفي من ذلك كما فعل أولئك المعلمون. وهذه التجربة قريبة منا جميعًا ولذلك قال يعقوب «لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم» (يعقوب 1:3) نعم الديانة المسيحية ليست نيرًا ولكنها تطلب الطاعة للرب في كل شئ ومن يعلّم الآخرين نكران الذات وحمل الصليب ينبغي أن يكون لهم قدوة (تيموثاوس الأولى 13:4) فأن الرب يحاسبه بحسب النور الذي كان عنده.
«فيعرضون عصائبهم» العصابة عند اليهود كانت شريطًا من جلد كتبوا عليها آيات من التوارة وجعلوها على الجبهة أو الصدر أو العنق أو اليد علامة للتقوى والتدين. وغاية أولئك من تعريض عصائبهم التظاهر بغيرة دينية فوق العادة ولكن الله طالب أن كلمته تكتب على القلب لا على الثياب.
«ويعظمون أهداب ثيابهم» كان عندهم أمر في (عدد 38:15) بأن يصنعوا لثيابهم شريطًا من الاسمانجوني تمييزًا لهم عن الأمم. وربما دل ذلك اللون على سلوك سماوي أي موافق لأفكار السماء. على أن الكتبة والفريسيين إنما اتخذوا علامة للافتخار بعضهم على البعض ومن الآخرين، فبالحقيقة لا يوجد نوع من الأعمال الصبيانية إلا ويمكن القلب البشري أن يذهب إليه ويفتخر به تحت ستر التدين.
«ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع» (عدد 6) حبًا في تقدير الناس لهم وتبجيلهم واحترامهم. «والتحيات في الأسواق» (عدد 7) حبًا في الشهرة. «وأن يدعوهم الناس، سيدي، سيدي» حبًا في النفوذ الديني. فإن كنا مثلهم تنتظر اعتبار الناس لنا بسبب تقوانا ومعرفتنا لكلمة الله فأننا نكون مُظهرين نفس الروح الذي كان فيهم، وكلما حصلنا على ذلك احتقرنا سيدنا الذي كان مهانًا من الناس وعلّم تلاميذه أن يكونوا كذلك.
«وأما أنتم فلا تدعوا سيدي إلخ» فنرى أن الكرامة العالمية باسم التدين ممنوعة من الجهتين. فأولاً لا يجوز أن نقبلها من الآخرين، وثانيًا لا يجوز أن نعطيها لهم. فقد قال الرب «ولا تُدْعَوا ولا تَدْعُوا» لأن من يقبل كرامة كهذه يخون سيده الذي هو وحده المستحق لكل كرامة ومجد. ومن يكرم الآخرين بهذه الألقاب التي تخص الله يهينه تعالى، إذ أنه بذلك يضعهم في منزلته. فليس لنا إلا سيد ومعلم واحد هو المسيح، وأب واحد هو الآب السماوي، ويكفينا أن نكرمهما كل الإكرام تاركين البشر جميعًا، وخصوصًا ذواتنا في التراب الذي هو الموضع اللائق بنا في دائرة الأمور الروحية.
«فمن يرفع نفسه يتَّضع إلخ» أي أن كل من خالف أقوال الرب هذه قابلاً الإكرامات الدينية أو مقدمًا إياها لغيره فسيوضع في الحضيض، وقت الدينونة.
ولا حاجة إلى القول هنا أن هذا الكلام لا دخل له بما يجب علينا من إكرام للحكام الذين أقامهم الله بعنايته. ولا بما نستعمله بروح اللطف من التسليمات والتحيات طبقًا لما تقتضيه اللياقة في كل حال لأننا لسنا نقصد بها تقديم الإكرامات الدينية. فأننا يجب أن نكرم الجميع ولا سيما الملك (بطرس الأولى 17:2).
وأيضًا لا دخل لكلام الرب هنا بالكرامة الروحية المُتبادلة بيننا والتي يجب أن نقدم بعضنا بعضًا فيها (رومية 10:12)، كما لا دخل له في واجب تقديم الكرامة للذين يعلون عمل الرب بأمانة (في29:2؛ تسالونيكي الأولى 13:5؛ تيموثاوس الأولى 17:5)، صحيح أنه ليس من واجبهم أن يطلبوها (تسالونيكي الأولى 6:2) ولكن من واجبنا نحن أن نقدمها لهم بطرق روحية لائقة وليس بكلام ملق أو ألقاب إكرامية نميزهم بها عن الآخرين. وهذا ما يجي علينا. وإذا قصرنا عنه فالمحتمل أن يكون السبب هو نفس الكبرياء التي لا تليق بنا كتلاميذ المسيح. وإن القلب ليمل من ذكر كل الإهانات التي قد حصلت بسبب المخالفة لكلام الرب الذي نحن بصدده هنا. وإني مرة أخرى أعيد قولي السابق أننا جميعًا في تجربة أن نهين الآب والابن بتعظيم الإنسان الذي قصد الله أنه لا يفتخر أمامه (كورنثوس الأولى 29:1). وإن افتخر إلى حين فلابد وأنه يرجع إلى التراب ويأكله الدود. نعم، ويكتسي خزيًا عند وقوفه أمامه تعالى للمحاسبة.