الإصحاح الثامن والعشرون
قيامة المسيح
(إصحاح 1:28-10؛ مرقس 1:16-11؛ لوقا 1:24-12؛ يوحنا 1:20-18
«وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر» (عدد 1). هذا العدد هو وحده، لأن الزلزلة ودحرجة الحجر المذكورتين في (عدد 2) لم يَحُدثا أثناء وجود المريمين (انظر مرقس 4:16) لقد أتتا لتنظر القبر. ومريم الأخرى هي زوجة كلوبا وهي أم يعقوب ويوسي، والتي قِيل عنها أنها أخت أم يسوع (إصحاح55:27؛ مرقس 40:15؛ يوحنا 25:19) أما باقي ليلة الأحد فانقضت في هدوء وسكون.
«وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات. كانت الزلزلة قد حدثت حين لم يكن أحد هناك في وقتها إلا الحراس فقط. وهي علامة حضور الله وعمله في الخليقة. وتداخله الآن بالقوة هو للدلالة على إقامة ابنه من الأموات بنفس القوة. وقد نُسِبَت قيامة المسيح لكل من الأقانيم الثلاثة من الثالوث الأقدس:
أولاً- المسيح نفسه(يوحنا 19:2)
ثانيًا- للروح القدس (رومية 4:1؛ بطرس الأولى 18:3)
ثالثًا- للآب(رومية 4:6).
وهذا كله حق، لأن قيامته كانت عملاً إلهيًا فائقًا جدًا ونقدر أن نقول أنها كانت أعظم من خلق الإنسان في البداءة بكلمة الله. وقد تأسس إيماننا المسيحي على قيامة المسيح من الأموات. كان للابن حق إلهي ليُقيم نفسه. مجد الآب اقتضى إقامة ابن محبته بدون أن يرى جسده فسادًا. والروح القدس هو الفاعل الإلهي في تنفيذ المشيئة الإلهية. وأما من جهة الأعمال الإلهية فينسب بعضها للأقنوم الأول والبعض الثاني والبعض الثالث بحسب صفات العمل المذكور. لا شك أن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت ولا يجوز لنا مطلقًا أن نتصور وجود درجات متفاوتة من المجد بينهم أو مناقصة في العمل، ولكن مع ذلك توجد مناسبة تامة عند ذكر كل من أعمالهم. وقد أجريت قيامة المسيح على يد الثلاثة الأقانيم للدلالة على عظمتها وأهميتها. ولا يُخفى أنها نُسِبت أيضًا لله مطلقًا في مواضع كثيرة من الكتاب. وذكرها هكذا يُشير إما إلى الأقانيم الثلاثة أو الواحد منهم بحسب قرائن الكلام.
وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه» (عدد 2) يجب أن نلاحظ أن الملاك لم يُحي الرب فإنه إنما أُرسل من قِيل الله بعلامات الهيبة والجلال الموافقة لإرساليته ولمجد مرسله. ودحرج الحجر الذي كان البشر قد ضبطوه على قدر ما يمكنهم بعد أن خرج رئيس الحياة من القبر الذي عجز عن إمساكه بعد كأسير. ولم يتردد الملاك عن كسر ختم الوالي لأن لله حقًا أن يُبطل أوامر الرؤساء.
ولنلاحظ أيضًا أن الملاك لم يدحرج الحجر لكي يخرج المسيح من القبر، بل ليدخل إليه النساء والتلاميذ ليتحققوا من قيامة المسيح. لأن المسيح الذي لم يقوى الموت على منعه من القيامة (أعمال الرسل 24:2) لم يكن الكفن أو الحجر ليقوى على منعه من الخروج من القبر.
«فمن خوفه ارتعد الحراس. الخ» (عدد 4)
ارتعد الحراس ووقعوا كأموات من هيبة الملاك. الإنسان منذ سقوطه قد عجز عن الوقوف أمام مجد الله. وظهور شخصيات من العالم الغير المنظور ترعبه. وإن أمكنه فيهرب منها. فآدم في جنة عدن هرب من وجه الرب واختبأ (تكوين 8:3) والتلاميذ أنفسهم امتلأوا خوفًا على جبل التجلي (إصحاح 5:17، 6).
«فأجاب الملاك وقال للمرأتين، لا تخافا أنتما فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلما انظر الموضع الذي كان الرب مضطجعًا فيه. واذهبا سريعًا قولا لتلاميذه أنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل . هناك ترونه. ها أنا قد قلت لكما. فخرجتا سريعًا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه. وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له فقال لهما يسوع لا تخافا. اذهبا قولا لأخوتي أن يذهبوا إلى الجليل هناك يرونني» (عدد 5-10). «فأجاب الملاك وقال للمرأتين» لقد حضرت هاتان المرأتان ومعهما سالومة (مرقس 1:16) في الفجر إلى القبر. وكان قصدهن أن يدهن جسد الرب بالاطياب. وقد كلمهن الملاك بالسلام وبشرهن بقيامة الرب ونرى كم كان بعيدًا عن أفكارهن أمر القيامة. فأنهن حضرن بالمحبة لكي يحنطن جسد الرب. وكان استعدادهن لهذا العمل برهانًا لمحبتهن القلبية للرب مع أنه لم يكن في وقته لأن الرب كان قد قام دون أن يرى جسده فسادًا نظرًا لقداسته الكاملة (أعمال الرسل 27:2) ولنلاحظ هدوء الملاك فإنه تصرف كما يليق بمن أُرسل من قِيل الله. ودعا النساء أن ينظرن الموضع الذي كان الرب قد اضطجع فيه. وقال لهن أيضًا أن يذهبن ويُخبرن التلاميذ بقيامة الرب، أنه يسبقهم إلى الجليل كما سبق وقال لهم، وأنهم يرونه هناك فتأثرن بكلام الملاك تأثرًا عميقًا جدًا وصدقته وخرجن بعجل ليُخبرن التلاميذ، والرب نفسه ظهر لهن في الطريق وكلمهن بالسلام وقبلَ منهن السجود.
معلوم أن البشير مَتَّى إنما يذكر جانبًا قليلاً من الحوادث المتعلقة بالقيامة. ويجب أن نقبلها كما هي مذكورة ولا نصرف وقتًا في التساؤل أهي مطابقة لما ورد في البشيرين الآخرين أم لا. لأن جميع الحوادث المذكورة حصلت. ولا توجد مناقضة بينها، وقد ألهم كل من الأربعة البشيرين أن يدرج منها ما يتفق مع قصده الخاص ولم يذكر شيئًا بحسب حكمته الإنسانية. وأما القصد الخاص في هذا الموضع فهو ذكر حادثة القيامة مع الشهادات الكافية لإثباتها.
فأولاً- رؤساء اليهود بما عملوا جعلوا سرقة الجسد مستحيلة.
ثانيًا- الحراس أنفسهم شهدوا بأن عملاً خارق العادة قد حصل.
ثالثًا- شهادة النساء اللواتي نظرن الرب وسجدن له وهو مُقام من الأموات.
ويجب أن نُلاحظ في جميع هذه الأمور المُتعلقة بموت الرب وقيامته أن النساء المؤمنات يظهرنَّ أحسن من الأحد عشر تلميذًا. ونستفيد من ذلك أن المحبة القلبية للرب تجعلنا أقرب إليه من المعرفة الكثيرة والخدمة الوافرة. لا شك أن للمعرفة والخدمة أهمية ولكنهما لا تقومان مقام المحبة. ويمكن وجودهما مع محبة ضعيفة.
إشاعة الحُراس (عدد 11-15)
«وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحُراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مُطمئنين فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع القول عند اليهود إلى هذا اليوم» (عدد 15-18. استفاق العسكر من رُعبهم وأتوا إلى المدينة لأنه لماذا يحرُسون قبرًا فارغًا بعد؟ وأخبروا الكهنة بكل ما حصل من أمر الزلزلة ونزول الملاك وارتعابهم ودحرجة الحجر. وعند ذلك التزم الكهنة والشيوخ أن يتشاوروا أيضًا كم مرة قد رأيناهم مُتشاورين معًا من جهة المسيح! وكل مرة لأجل مُقاومته. عملوا من الأول إلى الآخر بدون قلب ولا ضمير. وأظهروا أنفسهم مُجردين من مخافة الله. إذا كنا سالكين في مخافة الله طالبين الخضوع لكلمته لا نحتاج إلى المُشاورات معًا للعمل بالاتفاق، لأن عمل الروح القدس في ضمائرنا يجعلنا نشعر بمسئوليتنا لله شخصيًا ولا نطلب سوى مشيئته. ولا تكون لنا حاجة إلى آراء الناس لإرشادنا. لا شك أننا نستطيع أن نُساعد بعضنا بعضًا على قدر ما نكون روحيين لأننا جميعًا قاصرون في المعرفة. ولكن المُساعدة لا تنتج من جمع آراء بشرية على سبيل المُشاورة، بل من طلب مشيئة الله بالاتفاق مُعترفين بجهالتنا وطالبين الحكمة من فوق. وينتج من ذلك شروق نور إلهي على نفوسنا ليرشدنا إلى طريق الطاعة. وأما أولئك الرؤساء فلم يكن فيهم سوى الخبث الذي لم يزالوا سالكين فيه. لم يقدروا أن ينكروا حقيقة ما حصل فإن حُراسهم أخبروهم ولكن مع ذلك صمموا في نيتهم على مقاومة حقيقة القيامة. لم يخطر ببال العساكر الوثنيين أن يكذبوا من جهة ما جرى لهم، ولكن الرؤساء أعطوهم فضة ودربوهم على الكذب، وكانت القصة الكاذبة من شأنها أن تجلب عليهم عقوبة الإعدام إن سُمعت عند الوالي ولكن الكهنة أخذوا على عاتقهم أن يُدبروا الأمر مع الوالي.
وإذا سأل القارئ كيف عرف ما جرى خفية بينهم وبين الحُراس؟ أقول أنه صار معلومًا عند الرؤساء. والبعض منهم آمنوا في ما بعد (انظر أعمال الرسل 7:6).
«فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم». لأنهم على وجه العموم رفضوا الحق ومَنْ رفض الحق يقبل الكذب بكل سهولة. وإلا كيف يُصدق عاقل أن صيادين من الجليل يجرأون على فتح قبر يحرُسه جنود رومانيون؟ أو أن جميع العسكر ينامون وهم يعلمون أن عقوبة ذلك هي الموت (أعمال الرسل 19:12)؟ أو أن العسكر وهم جميعًا نيام يرون تلاميذه وهم يسرقونه؟ أو أن الرؤساء بعد ذلك يسكتون ولا يُقدمون الحُراس والتلاميذ إلى المُحاكمة؟
والذي أزعج الرؤساء في قيامة المسيح ودفعهم لإشاعة هذه الأكذوبة أنهم كانوا قد وعدوا أن يؤمنوا به إذا نزل عن الصليب (إصحاح 42:27) وها هو قد قام من بين الأموات بشهادة حُراسهم، وأنهم كانوا قد طلبوا منه آية من السماء فوعدهم بآية يونان النبي وأنجز وعده بقيامته (إصحاح 39:12). فإن سلموا بصحة قيامته التزموا أن يؤمنوا بصدق ما قاله من أنه المسيح ابن الله.