20 لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. (عدد 20).
هذا من جهة محبة الآب الخصوصية للابن في المقام الذي اتخذهُ لمجدهِ (راجع إصحاح 35:3). ثم قولهُ: ويُريهِ جميع ما هو يعملهُ. يدلُّ على اتفاقهما التام في العمل. وهذا الاتفاق ذاتهُ يُبرهن عظمة الابن في نفسهِ. فإنهُ يمكن لله أن يستخدم بعض الخلائق لإجراء بعض أعمال ولكنهُ لا يقدر أن يتفق معهم في العمل. لاحظ أيضًا أن عمل الآب المُشار إليهِ هنا هو من أعمال الرحمة والقوة كشفاء المريض عند بِرْكَة بيت حَسْدا وإعلان النعمة كما رأينا في (إصحاح 4). فكان الآب يعمل هكذا وقتئذٍ. وأما الأعمال الأخرى المُشار إليها في آخر العدد التي تكون أعظم من تلك هي إقامة الأموات وإجراء الدينونة كما يتضح مما يأتي.
21 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. (عدد 21).
فللآب السلطان والقدرة على إقامة الموتى وإحياءهم يعني أجسادهم. وهذا من الأعمال العظمى المُستقبلة التي كان الآب مزمعًا أن يريها للابن وقد تم ذلك بإقامتهِ ابنهُ وإحياءهِ (انظر أفسس 17:1-20) لأن الآب مارس سلطانهُ وقدرتهُ رأسًا في تلك الحادثة العظيمة فإن ابنهُ كان قد مجدَّهُ وأطاعهُ حتى الموت موت الصليب وأصبح مضطجعًا في القبر ثم تداخل وأقامهُ ومجَّدهُ سريعًا كما سنرى في (إصحاح 32:12). ثم قولهُ كذلك: الابن يحيي من يشاء يُشير إلى قدرتهِ على إحياء الناس مُطلقًا إن كان بأرواحهم أو بأجسادهم ولا يخفى أنهُ كان يمارس ذلك نوعًا مدة حياتهِ. غير أنهُ يذكر هذا الموضوع على الإطلاق هنا ثم يُفصلهُ فيما بعد.
22 لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ (عدد 22).
إجراء الدينونة مقترن مع إحياءهِ الناس لأن الذين يدينهم ينبغي لهُ أن يكون قادرًا أن يقيمهم من الأموات أيضًا (انظر رؤيا 11:20-15) على إقامتهِ الهالكين ومعاقبتهم. ونرى في كلام الرب هنا أن كل الدينونة قد سُلَّمتْ إليهِ من الآب الذي لا يجري الدينونة على أحدٍ. لأن الابن كالوسيط قد أخذ عليهِ أن يكمل الفداء ثم يملك إلى أنهُ يخضع كل سلطان ورياسة ويبطل آخر عدو وهو الموت (كورنثوس 24:15-28.
23 لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ.مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. (عدد 23).
نحن المؤمنون بابن الله في وقت النعمة نكرمهُ وأما الهالكون فيكرمونهُ رغمًا عن عدم إيمانهم وعصيانهم فإنهُ مزمع أن يقيمهم ويدينهم كقاضيهم فيعترفون بأنهُ ربٌّ لمجد الله الآب (انظر فيلبي 11:2).
24 «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. 25 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. 26 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، 27 وَأَعْطَاهُ سُلْطَانًا أَنْ يَدِينَ أَيْضًا، لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. (عدد 24-27).
سبق وذكر بعض حقائق عموميَّة بدون تخصيصها وأما هنا فيوضحها بتفصيل:
أولاً- أن كلامهُ يحيي المؤمنين بهِ الآن إذ تصير لهم الحياة الأبدية. قابل هذا مع الكلام الكثير الوارد في (إصحاح 3).
ثانيًا- أنهم لا يأتون إلى دينونة فإنهم قد انتقلوا الآن من الموت إلى الحياة. لأن الموت مقترن مع الخطية والخطية مع الدينونة. وكما وضع للناس أن يموتوا مرةً ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضًا بعد ما قدّم مرَّة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونهُ (عبرانيين 27:9، 28. فقد رفع خطايا المؤمنين بموتهِ تمامًا حتى أن الدينونة لا تعنيهم بتةً.ولنا هذا اليقين بالإيمان بالذي أتى وأعلن لنا الآب وأحيانا روحيًّا وصيَّرنا أولادًا لله.
ثالثًا- يتكلم في وقت النعمة كابن الله والذين يسمعون صوتهُ يحيون روحيًّا كما نرى في (عدد 25).
رابعًا- يحيينا بذات الحياة التي قد أُعطيت لهُ كإنسان. لأنهُ كما أن الآب لهُ حياة في ذاتهِ كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون لهُ حياة في ذاتهِ. كانت فيهِ الحياة منذ الأزل كالكلمة (راجع إصحاح 4:1) ولكن لما تجسَّد أعطاهُ الآب في هذه الحالة أن يكون مصدر الحياة للآخرين. فكما أن الآب مصدر الحياة مطلقًا هكذا الابن في مقامهِ الذي أخذهُ اختياريًّا قد أُعطي أن يكون مصدرها خصوصيًّا للمؤمنين بهِ.
خامسًا- السلطان الذي يمارسهُ للدينونة معطى لهُ أيضًا كقولهِ: وأعطاهُ سلطانًا أن يدين أيضًا لأنهُ ابن الإنسان. ينبغي أن نُلاحظ جيدًا أن المسيح مع أنهُ ابن الله والله ظاهر في الجسد كان يقبل كل شيء من يد الذي أرسلهُ فبذلك أظهر كمالهُ كإنسان عائش لمجد الله في كل شيء.
28 لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، 29 فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ. 30 أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (عدد 28-30).
إحياء النفوس عجيب ولكن إحياء الأجساد وإخراجها من القبور أعجب من ذلك نوعًا باعتبار عظم العمل في نظر البشر. سبق وذكر عملهُ الجاري مدة النعمة إذ يسمع البعض صوتهُ فيُحييهم روحيًّا فحصل التعجب من السامعين. فعاد في هذا الفصل وذكر لهم بعض أعمالهِ المستقبلة التي تُظهر لهم أعجب من ذلك.
أولاً- تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوتهُ. فإذًا صوتهُ القادر أن يحيي روحيًّا الآن هو الصوت المُقتدر المزمع أن يبلغ إلى جميع المضطجعين في القبور سواء كانوا صالحين أو أشرارًا. ويأتي وقت يمتاز ويتصف بكونهِ وقت إقامة الموتى حرفيًّا كما أن الوقت الحاضر هو وقت إحياء المؤمنين روحيًّا. لا شك عندي أن الوقت المُشار إليهِ هو الألف السنة ويقوم المؤمنين في أولهِ والهالكون في آخرهِ كما ورد في مواضع كثيرة (انظر رؤيا إصحاح 20) مثلاً ولكن ذلك ليس موضوع الرب هنا فينبغي لنا أن نتبع النصَّ.
ثانيًا- سيخرج الجميع من قبورهم ولكن ليسوا على حالة واحدة ولا بقيامة واحدة لأن الرب يميز بين الذين فعلوا الصالحات والذين عملوا السيئات ويقول صريحًا: أن لأولئك قيامة الحياة وأما هؤلاء فلهم قيامة الدينونة. فإذًا ستكون قيامتان تختلفان عن بعضهما اختلافًا عظيمًا جدًّا بحيث أن الواحدة للحياة والثانية للدينونة. لاحظ أيضًا أن الرب يصف الذين يكون لهم النصيب في قيامة الحياة بأنهم قد فعلوا الصالحات. لا شك بأنهم قد وُلدوا من فوق كما قد رأينا آنفًا في مواضع عديدة ولكن أعمالهم الصالحة ثمر النعمة العاملة فيهم وتبرهن شكلهم أنهم للمسيح. (انظر رومية 7:2؛ يوحنا الأولى 1:3-12) وشهادات أخرى كثيرة من هذا القبيل. لاحظ أيضًا أن الرب لا يذكر هنا سوى إقامتهِ الجميع من قبورهم. نعم قد ذكر تكرارًا أن الدينونة قد فُوّضت لهُ ولكنهُ لا يذكر جزاءهُ الأبرار ولا معاقبة الأشرار إلاَّ أن ذلك يستنتج من وصفهِ كلِ من الفريقين وتعيينهما الواحد لقيامة الحياة والآخر لقيامة الدينونة.
أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا (راجع عدد 19). كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني. يجب أن نلاحظ جيدًا أن الرب يتكلم هنا:
أولاً- بالنظر إلى المقام الذي تعيَّن لهُ بمشورة الآب والذي اتخذهُ اختياريًّا فإن الأُقنوم الأول هو الآب والمرسل. فإذًا الأُقنوم الثاني منتسب إليهِ كابن ومُرسَل فلا يليق بهِ أن يفعل من نفسهِ شيئًا. فعدم القدرة المذكور هنا ليس العجز والضعف كقولك إني لا أقدر أن أطير كنسر بل هو كمالهُ ذاتيًّا بحيث أنهُ كان خاضعًا وطائعًا للآب المُرسلهُ كجواب ولد مطيع إذا عرض عليه أحدٌ أن يُخالف أمر أبيهِ لو قال لهُ: إني لا أقدر على ذلك. فليس معناهُ أنهُ لا يقدر على ذلك إلاَّ من حيثية خضوعهِ التام لوالدهِ يعني عدم قدرتهِ ينتج من مشيئتهِ الطائعة لا من عجزهِ جسدًا.
ثانيًا- لا يجوز أن نقسم شخص الرب وننسب مشيئة واحدة لهُ كالله ومشيئة أخرى لهُ كإنسان لأنهُ لا يوجد أدنى أساس لذلك في كلمة الله. والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا. ونراهُ يعمل ويتكلم كشخص واحد ولكن دائمًا باعتبار نسبتهِ للآب والمقام الجديد الذي وُجد فيهِ. كانت لهُ مشيئة كما قال ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. وأما كمالهُ فظهر بأنهُ كان يريد ويشاء تمامًا وبدون تردُّد كل ما تعيَّن لهُ من قبل إرادة أبيهِ. وهذه نفس الطاعة المطلوبة منا غير أنهُ يمكن أن تكون محاربة فينا بين الروح والجسد لأنهُ توجد فينا مشيئتان كما لا يخفى عند المؤمن المختبر. (انظر رومية 14:7-25؛ أفسس 3:2) خلاف المسيح الذي إنما شاء أن يعمل مشيئة الذي أرسلهُ. وحسب ذلك مأكلهُ ومشربهُ. لو قلنا بوجود مضادة فيهِ من أي جهةٍ لمشيئة الآب أنكرنا كمالهُ.
ثالثًا- يُشير بقولهِ: كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. إلى هذه الحقيقة نفسها. لأنهُ لو تصرَّف في القضاء أو في غيرهِ بخلاف مشيئة الآب لكان مثل آدم تمامًا الذي شاء وعمل لنفسهِ بقطع النظر عن مشيئة خالقهِ. ولكنهُ لم يفعل ذلك فدينونتهُ عادلة كونها صادرة من مشيئة الآب وليست من مشيئة وكيل أو مُرسَل تعظَّم ضد الذي وكَّلهُ وأرسلهُ. لا شك بأنهُ يتكلم هنا عن إجراءهِ الدينونة بحسب قرائن الكلام ولكن هذا المبدأ يصدق أيضًا على جميع أعمالهِ وأقوالهِ بحيث أنها كانت كاملة وصادقة لأنهُ يكملها دائمًا كالابن المطيع المُكرم أباهُ وكمُرسل أمين في كل شيء.