الإصحاح الخامس
الموعظة على الجبل (إصحاح 5، 6، 7 مع 1:8
(قابل لوقا 20:6-49)
(المقدمة إصحاح 1:5، 2)
«ولما رأى يسوع الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم قائلاً» (عدد 1، 2).
قد سمى كلام سيدنا المتضمن في الإصحاحات 5، 6، 7 «الموعظة على الجبل». ولا بأس في ذلك، ولو أن الأفضل تسميتها «مبادئ الملكوت» غير أنه علينا أن نُبقى في بالنا أولاً: أنه لم ينطق بها في بداءة خدمته كما قد رأينا في آخر الإصحاح الرابع حيث يذكر البشير جزءًا كبيرًا من خدمة الرب في نواحي الجليل. ثانيًا: أنه ليس من مقاصد الوحي هنا أن يحدد لنا وقت النطق بهذه الموعظة، ولكنه فقط يذكر الظروف المتعلقة بالنطق بها. فالأهمية لظروفها لا لتاريخها. ربما نطق بها بعد انتخاب الإثني عشر رسولاً، المذكور في(إصحاح 10). قابل ذلك مع (لوقا 13:6).
كانت قد تبعته جموع كثيرة (إصحاح 25:4) متوقعة إقامة الملكوت (قابل لوقا 11:19). وكان البعض قد صاروا تلاميذ له. وفي ذات يوم، والحالة هذه، صعد إلى الجبل، فلما جلس للتعليم أخذ يعلم تلاميذه من جهة الملكوت المنتظر على مسمع من الجموع. (أنظر إصحاح 28:7، 29) حيث نرى أن الجموع قد سمعت تعليمه وبهتت منه.
التطويبات أو البر اللازم لدخول الملكوت
(عدد 3-29 قابل لوقا 20:6، 2)
«طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (عدد 3) مسكنة الروح هي الوداعة والتواضع. لأنها عبارة عن شعور النفس بحاجتها وافتقارها إلى الله كغناها الروحي الحقيقي مهما كان غناها حسب الجسد.
السماوات كرسي الله، والأرض موطئ قدميه، ولكنه ينظر إلى المسكين والمنسحق الروح (إشعياء 2:66 أنظر أيضًا15:57). إن الإنسان الساقط معتد بنفسه ولا سيما إذا كانت له بعض امتيازات دينية تميزه عن غيره. لأنه يحب أن يعتمد على الصورة الخارجية، بغض النظر عن حالته الداخلية (إصحاح 8:15). فيفتخر بنفسه وبامتيازاته افتخارًا زائدًا ويحتقر الآخرين. ولا يُخفى أن اليهود على وجه الإجمال كانوا على هذه الحالة وقت ظهور المسيح في وسطهم. فصرَّح أن ملكوت السماوات ليس لهم بل هو للمساكين بالروح. لأن هؤلاء عرفوا عدم استحقاقهم، واستعدوا لقبول الملكوت من مجرد نعمة الله، وليس لانتسابهم لإبراهيم حسب الجسد فهؤلاء هم الذين لهم الطوبى أي الغبطة والبركة.
«طوبى للحزانى لأنهم يتعزون» (عدد 4) كان البعض، وهم المساكين بالروح في حالة الحزن والنوح على سوء حالة شعب الله المختار1، فلهؤلاء تكون تعزية الملكوت (إشعياء 1:61-3)، وليس للمتكبرين (عاموس 6:6).
«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (عدد 5). الوداعة هي الحلم نحو المعتدين علينا. هكذا كان المسيح (إشعياء 7:53)، وهكذا يجب أن نكون نحن، ووداعتنا وحلمنا مع الآخرين، هما نتيجة ضرورية للمسكنة بالروح الناشئة عن شعورنا بحالتنا وحالة الآخرين، والحزن على أنفسنا والرثاء لهم. هذا هو الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن (بطرس الأولى 4:3).
«يرثون الأرض». الأرض هنا هي أرض كنعان. لما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان قديمًا تحت قيادة يشوع، لم يتوقف امتلاكهم إياها على وداعتهم أو على إحدى صفاتهم الأخرى، بل على كونهم من نسل إبراهيم (تكوين 18:15-20؛ تثنية 3:9-6). ثم بعد انحطاطهم استولى عليهم الأجانب. وحينئذ أخذ الله يعطيهم مواعيد من جهة إقامتهم في الأرض، ولكنها اتجهت إلى الذين اتصفوا بالصفات المُرضية لله (مزمور 9:37-34؛ صفنيا 3:2) ومن وقت سبي بابل، بل ومن قبل ذلك لم يكن بنو إسرائيل ممتلكين أرض كنعان امتلاكًا حقيقيًا، فعرفوا ذلك، وشعروا بمرارته، وانتظروا مسيحهم لكي يُملكهم إياها تمامًا، ويمتعهم بخيراتها. ثم لما حضر الوارث الحقيقي لكرسي داود في وسطهم، كان أعظم سؤال حينئذ هو، من هم الذين سيرثون الأرض؟ وظن الفريسيون أنها لابد أن تكون لهم، ولكن فيهم شيء من الوداعة أو الصفات الأخرى التي تجعلهم أهلاً لدخول الملكوت. ولو أن المسيح أقام الملكوت بالقوة في ذلك الوقت لقطع أولئك الذين لقبهم المعمدان «بأولاد الأفاعي» ووصفهم بشجر عديم الثمر. قال داود النبي «لأن عاملي الشر يقطعون. والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشرير. تطلع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة» (مزمور 9:37-11).
لا حاجة إلى القول أن المواعيد من هذا القبيل ليست لنا كمسيحيين. بل هي لليهود. لأنه من الأمور المعروفة جيدًا عندنا أن المسيح بعد رفضه لم يكن الودعاء في أرض كنعان لكي يتلذذوا بكثرة السلامة إلا أنه عّين لهم نصيبًا أفضل، أي سماويًا (أفسس 3:1؛ بطرس الأولى 4:1). أما بالنسبة للأرض، فقد وعدهم فيها بالضيق والاضطهاد (يوحنا 33:16) وطلب منهم أن يعيشوا فيها كغرباء ونزلاء (بطرس الأولى 11:2).
«طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون» (عدد 6). البر هنا، عبارة عن الصلاح الإلهي. هذا البر لم يكن موجودًا في وسط إسرائيل (هوشع 3:8. أما الأتقياء بينهم، فرغم أنهم حافظوا كل المحافظة على الفرائض التي ترتبت لهم من قبل الله ، لم يقدروا أن يكتفوا بذلك وإنما كانوا مشتاقين إلى شيء أفضل (مزمور 16:51، 17؛ ميخا 6:6-8، فلما أعلن لهم المسيح شبعوا به. لما رأى سمعان الشيخ البار التقي الصبي يسوع وعرف بالروح القدس من هو، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرت خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل» (لوقا 25:18-32). لقد اشتاق هو وأمثاله إلى البر، ووجدوه في المسيح فشبعوا.
«طوبى للرحماء لأنهم يًرحمون» (عدد 7). قال داود النبي للرب «مع الرحيم تكون رحيمًا. مع الرجل الكامل تكون كاملاً. مع الطاهر تكون طاهرًا ومع الأعوج تكون ملتويًا. لأنك أنت تخلص الشعب البائس والأعين المرتفعة تضعها» (مزمور 25:18-27). ومعني ذلك أن الله في معاملاته السياسية مع شعبه (كحاكم) يعامل كل واحد بحسب أعماله (قابل بطرس الأولى 17:1). فيرحم الرحيم أما الأعوج فيقلب طرقه على رأسه (إصحاح 23:18-35).
والرحيم هو الذي اختبر تقصيراته، وانسحق حزنًا عليها، شاعرًا بحاجته الشديدة لرحمة الله . ولذلك فهو يُظهر الرحمة للآخرين. أما الناموسي المعتد ببره الذاتي فلا يعرف الرحمة، ويبادر بالحكم على الآخرين بمقتضى الشريعة، ناسيًا أنه لو جرت الشريعة مجراها الخاص، لأدانته قبل الكل (أنظر يوحنا 1:8-11). لنلاحظ أن قصد الوحي هنا، ليس أن يشرح طريق الخلاص، بل أن يفصح عن الصفات اللازمة لمن أراد أن يدخل الملكوت، بغض النظر عن الواسطة التي بها يحصل على هذه الصفات، التي هي الميلاد الثاني ونوال الحياة الأبدية بقبول المسيح (يوحنا 12:1، 13).
«طوبى للأنقياء القلب لأنهم يًعاينون الله» (عدد 8. سأل داود النبي «من يصعد إلى جبل الله؟ ومن يقوم في موضع قدسه؟» (مزمور 3:24)، وقد أُلهم بالجواب في نفس المزمور بقوله «الطاهر اليدين والنقي القلب» (عدد 4). فالقلب النقي هو القلب الذي قد تطهر من الشهوات (بطرس الأولى 22:1) التي تفسد العواطف وتُعدمنا التمييز الروحي أو البصيرة الروحية.
ومعاينة الله هنا كناية عن المعرفة الحقيقية والتمتع به. وواضح من الكتاب المقدس أن الله من حيث جوهر طبيعته أو اللاهوت، لم يُرَ ولن يُرى ( يوحنا 18:1؛ تيموثاوس الأولى 16:6). ولكنه قد أعلن نفسه بيسوع المسيح الذي هو بالحقيقة الله ظاهرًا في الجسد (تيموثاوس الأولى 16:3). ومن رآه فقد رأى الآب (يوحنا 9:14).
وأما من جهة وقت معاينة الله فأقول، أن النقي القلب يعاين الله الآن (مزمور 15:17)، أي أنه يعرفه، ويتمتع به حسب الإعلان الكامل الذي صار لنا في ربنا يسوع المسيح. على أنه يزداد في ذلك على قدر ما ينمو في القداسة العملية (كورنثوس الثانية 18:3) إلى أن يصير كاملاً فيه بعد صيرورته على صورة جسد مجد الرب (كورنثوس الأولى 12:13، يوحنا الأولى 2:3، رؤيا 4:22).
«طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» (عدد 9). الله هو «إله السلام» (تسالونيكي الأولى 23:5، فيلبي 9:4). أما البشر، فلا سلام لهم ولا استقرار، بل هم دائمًا في حالة الاضطراب والكدر، كالبحر المضطرب الذي لا يستطيع أن يهدأ بل تقذف مياهه حمأة وطينًا (إشعياء 20:57، 21). يظلمون بعضهم بعضًا. والظالم والمظلوم عديما السلام. وقلوبهم الممتلئة بالشهوات لا تدعهم يستريحون ولا يكتفون بما عندهم. فالله وحده، هو مصدر السلام، وهو أول صانعي السلام، لأنه صنعه بدم ابنه الحبيب1 فالذين قد شربوا من هذا الينبوع يتمثلون بإلههم، إله السلام، ويدعون أبناءه2، ليس بالنظر إلى ولادتهم الولادة الثانية منه، بل بالنظر إلى تصرفهم على هذا النحو تمثلاً بأبيهم. لا شك أنه ينبغي أولاً أن نولد من فوق، ونصير أولاد الله بالحقيقة، لكي يمكننا أن نتمثل به كأولاد أحباء (أفسس 1:5). ولكن الكلام الذي نحن بصدده الآن خاص بالصفات الحسنة الظاهرة في السلوك، لا بالولادة الجديدة التي هي مصدرها.
ليلاحظ القارئ أن المسيح نفسه، كإنسان، أتصف بجميع هذه الصفات المبينة هنا، لأنها ظهرت فيه كاملة، كإنسان قد سلك في هذا العالم. والذين قبلوه، صاروا هم أيضًا متصفين بها، ولكن جزئيًا، وبدرجات متفاوتة، فهي ليست موجودة في أحد منهم في كمالها المطلق الذي ظهرت به في المسيح.
ثم إذا راجعنا هذه التطويبات، نراها مقترنة معًا، ومترتبة على بعضها. لأن المسكين بالروح لا يطلب أشياء عظيمة لنفسه، بل يرضى لنفسه بأي مقام مهما كان حقيرًا في هذا المشهد المبتعد عن الله، والذي فيه كل الأمور مضادة لله وله . ومن ثم فهو يتصف بالحزن ثم بالوداعة، بحيث أنه لا يرفع إرادته على إرادة الله، ولا يتخاصم مع الآخرين، ولا يدافع عن حقوقه الأرضية، بل يشتاق إلى البر، ولا يجده في العالم، ومن ثم لا يقدر أن يروي ظمأه إلا بذاك الذي هو ينبوع الصلاح. ويترتب على ذلك أنه يكون شفوقًا ولطيفًا نحو الآخرين، ولا سيما المتضايقين، ويتطهر قلبه من محبة العالم التي تمنعه من معرفة الله، ومن العطف على الآخرين، وإذ ذاك يتمتع بالسلام، لا في أرض كنعان بل في قلبه، ويصنع السلام مع الآخرين، متمثلاً بالله.
وكنا نظن أن المتصفين بهذه الصفات يحظون برضى الناس. ولكن ليس الأمر كذلك، بل عندما يشاهدهم العالم تهيج بغضته لهم بسبب بغضته لمسيحهم (مزمور 20:38؛ 6:120، 7) ولذلك فالتطويب الثامن يعلن وقوف العالم في وجههم لظهور الصفات الشاهدة للمسيح فيهم.
العالم في مقاومته لأبناء الملكوت (عدد 10-12)
(قابل لوقا 22:6، 23)
«طوبى للمطرودين لأجل البر. لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.» (عدد 10-12). يُذكر هنا سببان للاضطهاد، وهما، البر، واسم المسيح: لا يُخفى أن العالم، غير المنتسب للمسيح، يهيج علينا أوقاتًا كثيرة، لمجرد بغضه لاسم سيدنا. وأما الذين قد انتسبوا له، ولهم فقط صورة التقوى بدون قوتها، فلا يضطهدوننا لأجل اعترافنا باسم المسيح، لنهم هم أيضًا معترفون به، ولكنهم يضطهدوننا لأجل الحق والسلك الناتج عنه. لأن ذلك شهادة صريحة عليهم، فلا يطيقونها. وقد الاضطهاد على تلاميذ المسيح لهذين السببين. لأن اليهود، غير المؤمنين، ابغضوا الاعتراف باسم المسيح (أعمال الرسل 8:5) كما ابغضوا البر1 أيضًا (يوحنا 20:3؛ 7:7). يفترض الرب بكلامه هذا وجود تلاميذه في وسط إسرائيل الذين اشتهروا من الزمان القديم باضطهادهم للأنبياء ولكن الحال واحد مع البشر في كل زمان ومكان. (يوحنا 19:15).
«لأن أجركم عظيم في السماوات». هذا تلميح إلى أن جزاءهم سوف لا يكون في الملكوت على الأرض، وتنبه سابق بأن رؤساء الأمة سيرفضون مبادئ الملكوت. لو أقام المسيح ملكوته بالقوة في ذلك الوقت، لقطع غير التائبين جميعًا وأبادهم من الأرض، ثم جازى تلاميذه أيضًا على الأرض (مزمور 8:101؛ مَتَّى 41:13). ولا يُخفى أن تلاميذه استمروا منتظرين ذلك حتى وقت موته، ثم انقطع رجاؤهم واصبحوا في حيرة لا توصف (لوقا 21:24).
مركز بني الملكوت ومسئوليتهم (عدد13-16)
(قابل مرقس 50:9 مع لوقا 14:34، 35؛ مرقس 21:4، 25 مع لوقا 16:8-18؛ 33:11).
«أنتم ملح الأرض. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس» (عدد13). «انتم ملح الأرض». الأرض هنا أيضًا هي أرض كنعان. أنه لا يزال يفترض وجود التلاميذ في وسط إسرائيل. والملح كناية عن القوة التي تُنشئ القداسة العملية، أو كناية عما من شأنه يحفظنا من الفساد. وهذا من الحقائق المطلقة في كل عهد. كان يجب على إسرائيل جميعًا أن يكونوا ملح الأرض، ولكنهم فسدوا ولم يعودوا يصلحون لشيء إلا لان يُطرحوا خارجًا، خرج أرض إسرائيل، ويداسوا من الأمم. وهذا ما صار فعلاً. ثم قام تلاميذ المسيح مقامهم، فحذرهم من الفساد لأنهم إن لم يحتفظوا بالقداسة في سلوكهم فأنهم يُرفضون من هذا المركز2
لا نقدر أن نقول إن الكنيسة هي ملح الأرض، لأنه بعد موت المسيح وتكوين الكنيسة، لم يبق رجاء بعد لأن تحفظ الأرض من الفساد، لا أرض كنعان بصفة خاصة، ولا كل الأرض بصفة عامة لأن البشر جميعًا، يهودًا وأممًا اظهروا الرداءة التامة برفضهم بن الله ، وصلبهم إياه، فصارت الدينونة مؤكدة. على أنه من واجباتنا، الدائمة والمعروفة. أن نحافظ على السلوك التقوي كقول الرب «ليكن لكم في أنفسكم ملح. وسالموا بعضكم بعضًا» (مرقس 50:9). ولنلاحظ أيضًا أنه ليس من خصوصيات الملح أن يُصلح الفاسد، بل أن يحفظ الجيد في حالة الجودة كقول الرسول «.. قدرته الإلهية بد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى .. لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (بطرس الثانية 3:1، 4). «أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على حبل. ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (عدد14-16).
أن قول الرب للتلاميذ «أنتم نور العالم» اعم من فوله « أنت ملح الأرض» ويصدق عليهم ليس في وسط إسرائيل في أرض كنعان فقط، بل وفي العالم كله أيضًا.
قيل عن المؤمنين، من وقت غياب الرب عنهم بالجسد في السماء، أنهم «أبناء نور» (لوقا 8:16؛ يوحنا 36:12؛ أفسس 8:5؛ تسالونيكي الأولى 5:5). لا بل وأنهم «نور في الرب» أيضًا، لا في ذواتهم، لأن الرب فيهم هو نورهم (مزمور 1:27)، وحياتهم (يوحنا 4:1؛ 12:8. كان المسيح هو النور الحقيقي الذي أشرق على الظلام الدامس في العالم المظلم ليُنير كل إنسان، وبعد غيابه أقام التلاميذ مقامه (فيلبي 15:2).
ولنلاحظ أن النور شئ، والأعمال الحسنه شئ آخر لأن النور هو الأصل في الداخل والأعمال الحسنه هي ضياؤه في الخارج. فهو المسيح في القلب، وهي صفات المسيح في التصرفات. قيل عنا أننا «نور في الرب» لأن إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله، قد أشرق في قلوبنا (كورنثوس الثانية 4:4-6). فموضع النور هو القلب لا العقل وإن كان فتح كلام الله يُنير ويعقل الجُهال (مزمور 13:119)، فذلك لأنه يفعل في أفكار القلب ونياتَهُ (عبرانيين 12:4،13). وينتج عن ذلك أننا نصنع أعمالنا باسم المسيح، ولإرضاء الله الذي معه أمرنا، فنُراعي ما يليق بنسبتنا له كأولاده، باعتباره أبينا، وللمسيح، كعبيده ومفدييه، باعتباره ربنا وفادينا، في تصرفاتنا اليومية الدقيقة، حتى في الأكل والشرب. إن بواعث العمل داخلية. أما كيفيته فظاهرة. ومن رأى العمل، استدل منه على بواعثه، الإلهية الداخلية ويُعرف أن أبانا السماوي هو العامل فينا بنعمته الفعالة.
والرب لا يقول «لتضيء أعمالكم الحسنه قدام الناس» بل يقول «ليضيء نوركم» أي ليظهر المسيح فيكم. فإن كل عمل يتصف، ليس بحسنه أو برداءته في ذاته فقط، بل أيضًا بما يظهر فيه من نية العامل ومقاصده. فإنه يمكن لشخصين أن يشتركا في عمل واحد، ويمدح الواحد ويلام الآخر، لكون الواحد قاصدًا مجد الله طاعة لمشيئته والآخر قاصدًا مصلحة نفسه.
والأعمال الحسنه المقصودة هنا ليست هي المألوفة والمعروفة بين الناس الآن بهذا الاسم، بل هي جميع تصرفات المسيح كمتعلمين منه إياها، ومقتدين به فيها.
وفي قوله «لكي يروا أعمالكم الحسنه ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» يفترض أن البعض يستفيدون من مشاهدتها، وينسبونها للذي هو مصدرها الحقيقي ولا ينسبونها لنا. حتى أن الرجل غير المؤمن يمكن أن يُربح
للإيمان المسيحي بمشاهدة سيرة امرأته التقية أنظر (بطرس الأولى 1:3،2). وقد رأينا في سياق الكلام الذي نحن بصدده أن الجانب الأكبر من الناس يستمرون في بغضهم للنور ويعيرون ويطردون أولاد النور. إن كنا نعمل أعمالاً حسنه لإفادة الناس، بقطع النظر عن اسم المسيح ومجد الله، فإنهم يُسرون بنا ويمدحوننا، لأنهم يقبلون الأعمال الحسنه إن كانت غير مقترنة مع النور، ولا صادرة عنه.
سلطان الناموس والأنبياء (عدد 17-20)
«لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأُكمل. فأني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد ولا نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (عدد 17،18.
كان الناموس نيرًا لم يستطع إسرائيل أن يحمله (أعمال الرسل 10:15). وطالما وبخهم الأنبياء على مخالفتهم إياه. ولكن بدون نتيجة حسنه. ولم يزل الناموس حاكمًا عليهم (غلاطية ا10:3). وأما الآن فقد حضر المسيح بينهم ليعلمهم. فهل يا ترى يُنسخ الناموس؟ أو يُخفف مطاليبهُ عنهم؟ إنه لا يعمل هذا ولا ذاك، لأن الناموس صالح ومقدس وعادل (رومية 12:7)، وليس اللوم عليه، بل عليهم. فإذن، لم يأت المسيح ليُنقض شيئًا من الناموس أو الأنبياء.