سأختصر بشكل شديد هنا نظراً لضخامة الموضوع
الأب الدكتور جورج عطية
أستاذ مادة العقيدة الأرثوذكسية وعلم العقائد المقارن في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي بجامعة البلمند
" وأعرفّكم أيها الأخوة بالبشارة التي بشرتكم بها وتسلمتموها وتقومون فيها، وبها أيضاً تخلصون .. فإنني سلمت إليكم في الأول ما تسلّمته انا أيضاً أن المسيح مات من اجل خطايانا حسب الكتب وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث .. " ( 1كور 15: 3-5 )
" نوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل اخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد ( التسليم ) الذي تسلّمه منا " ( 2 تسا3: 6 )
" وما تعلمتموه وتسلمتموه ورأيتموه فيَّ فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم " ( فيل4: 9 )
تشتق الكلمة اليونانية Παραδοσις من فعل Παραδιδωμι الذي يعني فاعلية النقل والإرسال بعيداً من يد إلى يد، ومن فمّ إلى فمّ، والتسليم المباشر من شخص لآخر. أما موضوع هذا النقل فيمكن أن يكون كلمات قيلت وأعمالاً شوهدت وعوائد عمل بها. وهكذا نجد أن الكلمة اليونانية والتي ترجمت إلى العربية بكلمة تقليد، لا تعني تقليد الأقدمين أي مجاراتهم ومحاكاتهم، بل هو الاستلام منهم بالتسلسل الوديعة التي سلمت اليهم. على هذا الأساس تصبح كلمة "تسليم" أصح وأقرب بكثير إلى المعنى الأساسي من كلمة تقليد.
تعريفه :
: "النقل الشفهي للحق المعلن" و"الذاكرة الحية للكنيسة" و"حياة الروح في الكنيسة". ونفهم منها:
مصدر التقليد الذي هو تعليم الرسل القديسين المنقول في البداية شفاها.
ملاصقة التقليد العضوية لحياة الكنيسة على الأرض وتطوره معها عبر العصور.
المبدأ الفاعل في المحافظة على جوهر التقليد والمساعدة على استمرار حيويته وهو الروح القدس العامل في الكنيسة. لذلك نخلص للتعريف البسيط التالي: التقليد ( التسليم ) هو الإعلان الإلهي والبشارة المسيحية التي تسلمتها الكنيسة بالروح القدس، كتابات مقدسة وصلوات، وفنونا، ومناهج حياة.
بدايته:
كان هناك تقليد وتسليم منذ أقدم الأزمان، لأنه يرافق بصورة حتمية إعلانات الله للبشر، وجميع رجال الله هم مسؤولون عن تسليم ما تسلموه من إعلانا إلهية لآخرين كي يحفظوها ويعملوا بها: "وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إليّ الرب حين أخرجني مصر، ويكون لك علامة على يدك وتذكارا وبين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك" (خروج 13: 9 ).
التقليد إذن بالنسبة للإعلان الإلهي هو نقل هذا الإعلان أفقيّاً وعمودياً، أي للمعاصرين وهؤلاء بدورهم إلى أبنائهم بالتسلسل من جيل إلى جيل. وأكبر دليل على هذا هو أن ما أعلنه الله بدء الخليقة حتى عهد موسى قد تمّ نقله بالتسليم الشفوي. التوراة هي ذاتها تسليم، وقد كانت جزءاً من التسليم الشفهي حتى أواخر عهد موسى حين أصبحت تسليماً مكتوباً. يطبق عليه ما يطبق على التسليم الشفهي من مسؤولية في حفظه وتطبيق تعاليمه: "وكتب موسى هذه التوراة وسلّمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل. وأمرهم موسى... ... أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة" (تثنية 31: 9- 12).
نشأت كنيسة العهد الجديد وانتشرت، كما هو واضح من شهادة أسفار العهد الجديد، بفعل الكرازة الشفهية في جهات عديدة، وقبل أن تكتب هذه الأسفار: "وقال لهم اذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة للخليقة كلها... فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم..." (مرقس 16: 15- 19).
وكما في العهد القديم، فإن التسليم الشفهي في العهد الجديد، وهو البشارة ذاتها المنقولة شفاها، وجد قبل الكتاب المقدس، لا بل قبل الكنيسة نفسها، إن جاز التعبير، حيث كان هو الواسطة المباشرة لتأسيسها وامتدادها.
الرب يسوع المسيح لم يكتب شيئاً، بل فيما بعد بقبول شهادة الذين رأوه وسمعوه: "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به" (1 يو 1: 3).
لم تكن كتابات الرسل وحدها بالهام الروح القدس بل أيضاً كلامهم المنطوق: "وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة" (1كو 2: 4) "
وهكذا تأسست الكنائس بناء على بشارة الرسل وليس كتاباتهم، ثم بعد ذلك حين كان الرسل يتركونها ليبشروا في مكان آخر كانوا يرسلون إليها رسائل مكتوبة إذا اقتضت الحاجة. يقول القديس إيريناوس : "الرسل القديسون استلموا تقليدهم من المخلص، بنما الكنيسة استلمته من الرسل" بمعنى أن الرسل سلموا الوديعة للأساقفة الأول، وهؤلاء بدرهم للذين بعدهم وهكذا بالتسلسل، إلى هذا اليوم. ويؤكد المغبوط اوغسطين "كل التقليدات المحفوظة في كل الأرض أما هي متسلمة من الرسل ومن المجامع المسكونية".
يتببع........