الأسرار والحياة والتألّه
أ) الأسرار في الحياة اليومية
في كل سرّ زمنان، زمن أوّل لا يدوم إلاّ لحظات، إبّان الرتبة الطقسية عينها، وزمنٌ ثانٍ يدوم الحياة كلّها. ففي الزمن الأوّل يعيش المؤمن بكثافة معنى السرّ بكامله، ولكن يلزمه وقت طويل لاكتشاف مختلف أبعاده ومعانيه. فكلّ سرّ من أسرار الكنيسة يدخل المسيحي سرّ شخص المسيح وسرّ الكيان الإلهيّ. ولكنّ إدراك أبعاد المسيح والله لا يمكن أن يتمّ في بضع لحظات. لذلك لا يدرك المؤمن أبعاد التزامه بالله من خلال الأسرار إلاّ بشكل تدريجي وبالاحتكاك بالحياة نفسها.
فالأسرار إذًا لا تخرج المسيحي من واقع حياته اليومية، بل تعيده إليه. إنّها تذكّره بأنّه لن يجد الله إلاّ من خلال أحداث حياته اليومية، وبأنّ البحث عن الله خارج أطر حياته اليوّمية وأحداثها البسيطة هو وهم وسراب.
إنّ المسيحي لا يدرك أبعاد معموديته، أي اتّحاده بموت المسيح وقيامته، إلاّ على مدى الحياة كلّها التي تتطلّب منه موتًا مستمرًّا عن الخطيئة وقيامةً دائمة الى حياة المسيح. وهو لا يجد المسيح الذي اعتمد له إلاّ في أحداث حياته اليومية.
فالمسيحي الذي يشترك في سرّ الإفخارستيا في جسد المسيح ودمه لا يمكنه اكتشاف أبعاد هذا الاشتراك إلاّ في حياته اليومية التي تتطلّب منه عطاء دائمًا في سبيل الله والآخرين.
والزوجان اللذان يقترنان أحدهما بالآخر في سرّ الزواج لا يدركان أبعاد حضور المسيح في حياتهما الزوجية إلاّ بالاحتكاك بالحياة في مختلف أفراحها ومصاعبها. إنّ الاحتفال بالزواج كسرّ من أسرار الكنيسة يُدخل الزوجات سرّ محبة المسيح للكنيسة، وبقبولهما هذا السرّ يعلنان رغبتهما في الالتزام بتجسيد تلك المحبة في أطر حياتهم الزوجية اليومية.
والكاهن لا يكتشف أبعاد التزامه الكهنوتي إلاّ ضمن حياته اليومية في الكهنوت: في صلاته وفي الأسرار التي يقيمها للجماعة المؤمنة، وفي علاقاته مع الناس حيث يكتشف معنى العطاء والتضحية وأبعاد اشتراكه في كهنوت المسيح.
والتائب الذي ينال مغفرة خطاياه يلتزم أن يغفر للآخرين كما غفر له الله.
والمريض الذي يحضر المسيح إلى جانبه في سرّ مسحة المرضى يدرك أنّه لا يجد الله في الصحة والعافية فقط، بل أيضاً في المرض وعلى فراش الموت. وندرك جميعنا أنّنا، "إن متنا أو حيينا، فلّله نحن".
هكذا تعيدنا الأسرار إلى واقع حياتنا اليومية، وتحوّل الزمن الذي نعيش فيه من مجرّد تتابع دقائق وساعات وأيّام إلى زمن مقدّس ممتلئ بحضور المسيح. فبواسطة الأسرار تتجدّد حياتنا، إذ يملؤها حضور الرب وحضور روحه المحيي.
قد لا يكون لحياة الإنسان في ذاتها أيّ معنى، إنّما الإنسان هو الذي يعطيها المعنى. والأسرار التي تعيد حضور دخول الله التاريخ في شخص المسيح، تسهم في إضفاء هذا المعنى على حياة الإنسان. وعندما تتّخذ الحياة معنى في أعيننا، إذّاك تصير ذات معنى للآخرين، إذ تغدو الموضع الذي يحضر المسيح فيه ويتجلّى الله. فإن عشنا نحن في الله ومعه وبه، يتجلّى الله للعالم فينا ومعنا وبنا.
الأسرار عنصر جوهري في حياة المسيحي، شرط ألاّ تُفصَل عن الحياة. إنّ أهمّ ما في الحياة هو المحبة، محبة الله لنا أوّلاً ثمّ محبتنا نحن لله ولإخوتنا. ففي الأسرار نحتفل أوّلاً بمحبة الله لنا، تلك المحبة التي ظهرت لنا في تجسّد المسيح وموته وقيامته، فندخل هذا الجوّ الإلهي، ونمتلئ من تلك المحبة الإلهيّة، ليتاح لكلمة الله متابعة تجسّده في الكون من خلالنا.
وهكذا تمسي الأسرار أحد عناصر تألّه الكون.
ب) البعد الإسختولوجي للأسرار: الأسرار والتألّه
"الإسختولوجيا" لفظة يونانية تعني "التحقيق الأخير والأقصى والنهائي لملك الله في العالم"، أي تحقيق تألّه الكون، وقد بدأ هذا التألّه في تجسّد كلمة الله في العالم في شخص يسوع المسيح.
والأسرار ليست مجرّد وسائل يستخدمها الإنسان للحصول على نعمة الله ومساعدته على عمل الخير. إنّ نظرة فردية للأسرار تشوّه الدين المسيحي وتجعله بحجم الإنسان.
فالأسرار هي أوّلاً الاحتفال بهذا الحدث العظيم والفريد في تاريخ البشرية، حدث التجسّد، حدث دخول كلمة الله عالمنا البشري لتأليهه. لذلك تحضر في الأسرار عناصر الكون كلّها من بشر ومادّة. فالبشر يحضرون، ليس كأفراد بل كجماعة، للاحتفال بدخول الله عالمنا. لذلك يُحتفَل بالأسرار في الكنيسة وبحضور الجماعة المسيحية المخلَّصة كلّها. والمادّة تحضر في مختلف عناصرها، من ماء وخبز وخمر وزيت. وبقدرة الروح القدس الذي حضر على المسيح وحلّ على التلاميذ، ولا يزال يحضر ويحلّ على الجماعة المؤمنة بالمسيح، تتقدّس الجماعة البشرية والمادّة وتتألّهان معًا.
"أذكر أعمال الله منذ القديم". في الأسرار نحتفل بالماضي، ولكن ليس لمجرّد الذكرى، بل ليصير الماضي حاضرًا وتصير الذكرى فاعلة في عالم اليوم. إنّ اليوم لفظة تردّدها الكنيسة في كل طقوسها وأسرارها، معلنة أنّها ليست جماعة الماضي بل الحاضر. إنّ الكنيسة لا تلتئم لتبكي الماضي، بل لتحيي الحاضر بحياة الله وتدفع المسيحيين إلى بناء مستقبل ممتلئ بحضور الله.
عندما تحتفل الجماعة المسيحية بتحوّل بعض الخبز والخمر إلى جسد الإله تعلن إيمانه بأنّ الكون كلّه مدعوّ الى التألّه، والتزامَها العمل على تحقيق هذا التألّه.
لذلك لا يمكن فصل الأسرار عن حياة البشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فالتألّه الذي يحتفل به المسيحيون في الأسرار، جاعلين الماضي حاضرًا، يعملون على تحقيقه في مستقبل يكون على صورة الله.
إنّ التئام الجماعة المسيحية في الأسرار هو علامة مسبّقة لالتئام الجماعة البشرية في الملكوت، الذي ليس حقيقة لحياة ما بعد الموت وحسب، بل يجب أن يحضر في حياة هذا العالم. لذلك تظلّ العلامات المسبّقة التي تتضمّنها الأسرار علامات فارغة إن لم يتحقّق منها شيء في الحياة. فالجماعة المسيحية تحتفل في الأسرار بدخول الله عالمنا، وتسبّحه وتمجّده وتباركه وتشكر له ما أفاضه علينا من محبة ومغفرة وعطاء، فتمتلئ من حياة الله هذه لتفيض بها على العالم محبة ومغفرة وعطاء.
في الأسرار تتألّه الجماعة المسيحية لتعمل بدورها على تأليه الكون