قد يعترض البعض على وجود الأسرار في الديانة المسيحية، معتبرينها من مخلّفات العصور السالفة وبقايا أعمال السحر الوثنية. فهل الأسرار مجرد أعمال خارجية يقوم بها الإنسان ليتيح لله التدخّل في حياة البشر؟ وكيف يتمّ عمل الله في الأسرار؟ وما هو دور الإنسان في هذا العمل؟
لا بدّ من الإجابة عن هذه الاعتراضات والأسئلة وتفسير فاعليّة الأسرار في المسيحية وكيفيّة عملها. ولكن قبل ذلك يجب توضيح الموضوع الذي نحن بصدده. فالأسرار ليست أعمالاً اعتيادية، بل هي من نوع العلامات والرموز والطقوس.
1- العلامات والرموز والطقوس
أ) العلامات،
العلامة شيء يحيل الى شيء آخر، بحيث إنَّ من يدركها أو يتصوّرها يدرك أو يتصوّر في الوقت عينه الشيء الذي تشير إليه. فالعلامة لا معنى لها لأجل ذاتها، بل تعني دوماً شيئًا آخر. فإشارات السير هي من نوع العلامة: فالضوء الأحمر يشير الى ضرورة التوقف، إلخ... والكلمات هي أيضاً من نوع العلامة: فلدى قراءة كلمة أو سماعها، يتبادر الى الذهن الشيء الذي تعنيه.
ب) الرموز
الرمز علامة تشير الى ما يتخطّى الظواهر الحسّية والمادّية. فإهداء باقة من الزهور هو رمز الصداقة والمحبة، والعلم الذي نرفعه ونحيّيه هو رمز الوطن.
وفي كل رمز وجهان، وجه مُعطى في صلب الطبيعة، ووجه يضيفه الإنسان على الأشياء التي يكتشفها في الطبيعة. فالرمز ليس علامة اعتباطية يخلقها الإنسان من لا شيء، بل هو يستند الى قدرة كامنة في الطبيعة نفسها. فهناك أشياء تحمل في ذاتها إمكان استعمالها كرمز. فالماء يمكن استعماله رمزًا للتنقية لأنّه بطبيعته يغسل ويطهّر، واليد يمكن أن تستعمل رمزًا لمنح السلطة لأنّها بطبيعتها تُستعمل لأعمال القدرة.
بيد أنّ الرمز لا يكتمل معناه إلاّ بتدخّل الإنسان الذي يختار من بين المعاني الممكنة التي تتضمّنها الأشياء المعنى الذي يراه مناسباً للتعبير عن الفكرة التي يقصدها. إذّاك يصير معنى الرمز مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالأشياء
ثمّ إنّ اختيار معاني الرموز ليس عمل إنسان فرد بل عمل جماعة معيّنة. وفي هذا الموضوع قد يجد الفرد تقييداً لحرّيته في ضرورة قبوله رموز الجماعة التي يعيش فيها، ولكن عليه أن يدرك أنّ ضرورة الرموز تأتي من ضرورة مؤسّسات المجتمع البشري. فالزواج مثلاً هو مؤسّسة رئيسة في المجتمع، والخاتم الذي يلبسه الزوجان يرمز إلى ارتباط أحدهما بالآخر في الزواج.
لا يمكن، في نظرنا، الاستغناء عن الرموز، لأنّ الإنسان روح وجسد معًا، ولا بدّ له من التعبيرعن أفكاره الروحيّة بأمور حسّية، كما أنّه يشعر بحاجة الى إضفاء معانٍ روحيّة على ما يختبره اختبارًا مباشرًا في أمور المادة.
لا شكّ أنّ معاني الرموز تتطوّر مع تطوّر الثقافات والحضارات. والرمز الذي يفقد معناه ولا يعود يعني أيّ شيء للجماعة البشرية لا يعود رمزًا، فيُستبدل به رمز آخر. فالعقد في القديم كان يتمّ بأن يقسم المتعاقدان حلقة أو صدفة الى جزئين مماثلين، فيحتفظ كلّ من المتعاقدين بأحدهما. أمّا اليوم فيتمّ العقد بتوقيع الطرفين لدى شاهد رسمي. وهذا التوقيع قد حلّ محلّ الرمز القديم. أمّا في عقد الزواج فقد صارت الخواتم رمز الرباط الزوجي.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى أنّ الرموز الدينية هي أيضًا من وضع المجتمعات البشرية. فلكلّ ديانة رموزها الخاصة. والمسيحية التي نشأت في ثقافة يهودية ويونانية قد استقت معظم رموزها من تلك الثقافة.
قد تتطوّر الرموز، حتى في المسيحية. بيد أنّ هناك رموزاً تُعتَبر تأسيسية. لأنّها مرتبطة بنشأة المسيحية، لأنّ المسيح والرسل استخدموها، كالمعمودية بالماء، والاحتفال بالعهد الجديد مع الله بواسطة الخبز والخمر، ومنح السلطة بوضع اليد، ومسحة المرضى بالزيت، فهذه الرموز لا يمكن أن تكون عرضة لاعتباطيّ التغيير والتبديل.
أمّا الرموز الأخرى، كالبخور والشمع والثياب الليتورجية والتطوافات الدينية، فليست مرتبطة بتأسيس الكنيسة. لذلك لا تضاهي بأهميتها الرموز التأسيسيّة. إلاّ أنّ استخدامها ينتج من رغبة الإنسان في إضفاء جوّ خاصّ على الطقوس الدينية للدلالة على وجود أبعاد متسامية في الأعمال المقدّسة التي يقوم بها.
ج) الطقوس
إنّ لفظة طقس مأخوذة عن اللفظة اليونانية "تاكْسِيْسْ" التي تعني "النظام" و"الترتيب"، وهي مرادفة بالعربية للفظة "رُتْبة" (جمعها رُتَب). فالطقس هو تنظيم السلوك البشري بالنسبة الى حقائق لا يستطيع الإنسان أن يدكها إدراكًا مباشرًا ولا تخضع لعمله. فالطقس هو عمل جماعي رمزي. وبسبب ارتباطه بمَا يتخطّى إدراك الإنسان المباشر، فهو يتّسم دومًا بسمة الفخامة والأبّهة، التي تظهر حتى في العبارات المستعملة في الطقوس. فيقال "التطواف" بدل "السير"، و"الإعلان"، بدل "الكلام". وكذلك الحركات في الطقوس تتمّ ببطء وأبّهة.
إنّ ظاهرة الطقوس في المجتمع البشري ليست مرتبطة بأمور الدين وحسب، بل تشمل مختلف ميادين الوجود البشري في المجتمع. ففي الحياة اليومية نمارس طقوسًا أكثر ممّا نظنّ: فعبارات التحيّة وطرق المصافحة والمراسة، ومراسيم الأعياد والاستقبالات والاحتفالات والمهرجانات، كل هذه الأمور هي من نوع الطقس، وتتّسم حتمًا بسمة التقليدية، لأنّها تستمرّ في المجتمع وتتكرّر.
إنّ هدف الطقوس هو تأمين إطار خارجي مستقرّ يشعر فيه الإنسان براحة نفسية، فلا يوجّه طاقاته الى ابتكار إطار يتجدّد باستمرار، بل الى تعميق خبرته الشخصية وتكثيف علاقاته مع ذاته ومع الآخرين. فالطقوس هي ممارسات خارجية تريح الإنسان وتتيح له القيام في داخله باختبارات شخصيّة عميقة.
إنّ الطقوس الأساسية في المجتمع البشري هي التي ترتبط بالأحداث الهامة التي يمرّ بها الإنسان في حياته ولا سيّمَا تلك التي ينتقل فيها من مرحلة الى أخرى، كالولادة، والمراهقة، والزواج، والوفاة. ففي هذه الأحداث يختبر الإنسان أمورًا جديدة تفوق قواه، لذلك يميل الى رفض هذا الانتقال. وبمَا أنّ الطقوس هي أعمال ثابتة ومعهودة، فإنّها تساعد الإنسان على التكيّف مع المجهول وقبول الانتقال.
غير أنّ الطقوس ليست مجرّد إطار خارجي يتمّ من خلاله العمل ويتحقّق معناه، بل هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمل الذي يقوم به الإنسان وبمعناه، وتسهم إسهامًا فعّالاً، وإن على طريقتها الخاصّة، في تتميم هذا العمل وتحقيق معناه. إنّ بين الإطار الخارجي والخبرة الداخلية علاقة كيانية، بحيث إنّ من يقتصر على القيام بمَا تقتضيه الطقوس من حركات خارجية دون أيّ اقتناع داخليّ بمعناها يقع في الرئاء الذي شجبه المسيح في ديانة الفرّيسيين (راجع متى 23: 24- 28).
الطقوس الدينية هي أعمال تساعد الإنسان على الوصول الى الاتّحاد بالله. لذلك لا بدّ من أن تحمل في جنباتها البعد الروحي الذي تهدف الى إبرازه، أي الخلاص الشخصي. ويجب ألاّ يغيب عن بالنا الرباط الوثيق بين العمل الطقسي والخبرة الروحية الذاتية، وإلاّ تحوّلت الطقوس أعمالاً سحرية آلية. إنّ الطقوس تتطلّب الالتزام، ويجب ألاّ تكون مدعاة لرفض التجدّد وخنق روح الابتكار لدى من يمارسها. إنّ التعلّق الحرفي بالطقوس حتى إهمال الروح يقود الى تفريغ الطقوس من معناها. وإنّه لفي خطإ فادح من يعتقد أنّ تتميم الطقوس بحذافيرها يكفي للحصول على نعمة الله.
2- كيف يتمّ عمل الأسرار؟
الأسرار طقوس دينية تعبّر من خلالها الكنيسة عن خبرتها الروحية العميقة. وقوام هذه الخبرة هو التقاء الإنسان بالله من خلال شخص يسوع المسيح الذي يستمرّ حضوره في الكنيسة على مدى الزمن.
كيف يتمّ في الأسرار التقاء الإنسان بالله، وكيف يستمرّ فيها حضور المسيح؟
للإجابة عن هذين السؤالين، لا بدّ لنا قبلاً من إجراء مقارنة بين النظرة الوثنية والنظرة المسيحية لعلاقة الإنسان بالله من خلال الصلوات والأسرار.
أ) النظرة الوثنيّة: مبادرة إنسانية للتأثير في القدرة الإلهيّة
كان الوثنيون يرون في الأسرار وما يرافقها من صلوات وابتهالات وطقوس مجرّدَ أعمال خارجية يقوم بها الإنسان ليستمطر عليه نعمة الله. ففي هذه النظرة يغدو المعنى الذي تحمله الأسرار خارجًا عنها وآتيًا الى الإنسان بواسطتها من كائن غريب عن البشر. فالطقوس الوثنية تهدف الى التأثير في القدرة الإلهية لحملها على التدخّل لمصلحة الإنسان وإنقاذه من المضايق التي تنتابه والمشكلات التي يتخبّط فيها.
وهنا يجب التمييز، حتى في الديانات الوثنية، بين الطقوس الدينية والسحر. فالسحر هو القيام بأعمال يحاول من خلالها البشر امتلاك القوى الفائقة التي يتمتّع بها الآلهة في سبيل تسخيرها لتحقيق مآربهم الخاصة. لذلك، تحاشيًا للانزلاق في الأعمال السحرية، أكّد الكتّاب اليونانيّون أنّ الطقوس الدينية لا تهدف الى إرغام الآلهة على التدخّل لمصلحة الإنسان. لكنّ الآلهة أنفسهم قد قرّروا بملء اختيارهم الاستجابة لصلوات البشر والعمل لأجلهم من خلال طقوس معيّنة.
لقد تأثّر اللاهوت المسيحي التقليدي والدين الشعبي بهذه النظرة الوثنية وعبّرا في كثير من الأحيان عن مفعول الأسرار بأسلوب مماثل يضحي فيه إيمان الإنسان كلّ ما يقوم به من أسرار وطقوس وصلوات مجرّد شروط خارجية لتدخّل الله. كلّنا نسعى وراء السعادة والخلاص والشفاء، وإذ لا نجد هذه الأمور بسبب ضعفنا وحدود طبيعتنا البشرية، نطلب الى الله أن ينزل من علياء سمائه ويتدخّل ليقوم بها عوضاً عنّا. وعندما لا يستجيب الله، نكرّر الطلب ونقدّم الذبائح والصلوات والأصوام، ولكن سرعان ما ندرك أنّنا لا نزال على ما نحن عليه، وكأنّ الله غافٍ أو ساهٍ عنّا، أو، كمَا كان يقول اليونانيون القدماء، منهمك بتنظيم الكون.
إنّ الرسم التالي يظهر هذه النظرة الوثنية لعلاقة الله بالإنسان:
الله
الصلاة
والأسرار 2
1 أنا السعادة 3
أنا أريد السعادة (1)، وإذ أعجز عن الوصول إليها بقواي الشخصية، ألتجئ إلى الله (2)، فيمنحني ايّاها (3). والصلاة والأسرار تدخل إطار توجّهي إلى الله.
كثير من المسيحيين لا يزالون يعتنقون هذه النظرة في علاقتهم بالله في الصلاة والأسرار. إنّ لديهم رغبة صادقة في دخول علاقة مع الله، وهذا أمر إيجابيّ. لكنّ هذه الرغبة لا تزال صبيانية، وهي بحاجة الى أن تصير رغبة بالغة. فالله يريد أن يكون الإنسان بالغًا: إنّه يحبّه ويحترمه. حتى إنّه يريده أن يأخذ هو نفسه مسؤولية حياته.
ب) النظرة المسيحية: المبادرة من الله، وهي تعيد الإنسان الى ذاته
إنّ السعادة التي أرغب فيها وأسعى إليها يريدها الله أيضا لي، ولكنّه يريد أن أبنيها أنا نفسي. فأنا المسؤول عنها. وفي هذه المسؤولية تكمن عظمتي وكرامتي ومغامرة حياتي. وفي اعتناقي هذه المسؤولية أؤمن أنَّ الله لا يغيب عنّي.
تلك النظرة المسيحية البالغة، يمكننا تصويرها في الرسم التالي:
الله
الصلاة
والأسرار 1
2 أنا السعادة 3
الحياة الملتزمة
يبدو في هذا الرسم أنّ الصلاة والأسرار ليست في اتجاه واحد، أي من الإنسان الى الله، بل هي علاقة تبادل بين الله والإنسان. والمبادرة، في الصلاة كمَا في الأسرار، تأتي من الله. فهو الذي يوحي إلينا بأن نصلّي، حسب قول بولس الرسول: "إنّا لا نعرف كيف نصلّي كمَا ينبغي، لكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف" (رو 8: 26)؛ و"ما من أحد يستطيع أن يقول: يسوع ربّ، إلاّ بالروح القدس" (1 كو 2: 3). ومبادرة الأسرار تأتي أيضاً من الله، بواسطة عمل المسيح. فالأسرار ليست أعمالاً إنسانيّة تهدف إلى استعطاف الله واسترضائه. تلك كانت حال الذبائح في العهد القديم. أمّا في العهد الجديد، فالذبيحة الوحيدة هي ذبيحة يسوع على الصليب، والتقدمة الوحيدة الجديرة بالله ليست تقدمة بشرية وحسب، بل هي أوّلاً تقدمة الله ذاته لنا في شخص ابنه يسوع. وكل أسرار العهد الجديد هي استمرار لهذه التقدمة