ج) الأسرار: احتفال بالتقائنا المسيح القائم من بين الأموات
لتوضيح عمل الأسرار في حياة المسيحي، ننطلق من ثلاثة مشاهد نقرأها في العهد الجديد عن حياة المسيحيين الأوّلين.
* ترائي المسيح لتلميذي عمّاوص (لو 24: 13- 35)
في هذا المشهد نرى تلميذين يغادران، بعد موت يسوع، أورشليم، مدينة الخلاص ومدينة الفداء، ليعودا إلى قريتهما، أي الى وضعهما الأوّل قبل مجيء المسيح، وقد فقدا كل أمل بالخلاص والفداء (راجع 24: 21).
"وفيمَا هما يتحادثان ويتباحثان، دنا إليهما يسوع نفسه، وأخذ يسير معهما. إلاّ أنّ أعينهما قد أُمسكت عن معرفته... وراح يفسّر لها ما يختصّ به في الأسفار كلّها، ذاهبًا من موسى الى جميع الأنبياء. واقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها، فتظاهر بأنّه قاصد الى مكان أبعد. فألحّا عليه، قائلين: أقم معنا، فإنّ المساء مقبل، والنهار قد مال. فدخل ليمكث معهما. ولمّا اتّكأ معهما، أخذ الخبز، وبارك وكسر وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه. ولكنّه غاب عنهما. فقال أحدهما للآخر: أوَ لم تكن قلوبنا مضطرمة فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق، ويفسّر لنا الكتب؟ وقاما على الفور، ورجعا الى أورشليم، فوجدا الأحد عشر ومن معهم، مجتمعين، وهم يقولون: لقد قام الرب حقاً، وتراءى لسمعان فأخذا هما يخبران بمَا جرى في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز" (24: 15- 35).
إنّ عمل الأحرار يمكن تصوّره على مثال عمل المسيح مع هذين التلميذين. ومن هذه الرواية نستطيع أن نستخلص العناصر الهامّة التي تتضمّنها الأسرار:
1- الأسرار ليست هروبًا من الحاضر، ففيها يلتقي المسيح الإنسان في وسط اهتماماته، ليفسّر له أحداث حياته، ويساعده على أن يعيشها من جديد على ضوء حياة المسيح وموته وقيامته.
2- المبادرة في الأسرار تأتي من الله، فالمسيح، في هذا المشهد، هو الشخص الرئيس الذي يدنو من التلميذين ويسألهما، ويفسّر لهما الكتب ويكسر لهما الخبز ويناولهما.
3- الأسرار تقود الى الإيمان، ولكن بعد مسيرة طويلة. فالتعرّف الى المسيح يتطلب وقتًا. ففي بدء الرواية يشير لوقا الى أنّ التلميذين لم يعرفا يسوع عندما تراءى لهما، وفي آخر الرواية يؤكّد التلميذان أنّهما عرفاه عند كسر الخبز. ودور الإنسان للوصول الى الإيمان هو في الإصغاء الى كلام الله والانفتاح على عمله والتماس حضوره: "فألحّا عليه قائلين: أقم معنا...".
4- في كل سرّ عنصران أساسيّان متكاملان: الكلمة والمادة: فبعد تفسير الكتب المقدّسة، يأخذ يسوع الخبز ويباركه ويكسره ويناولهما.
5- وأخيرًا يعود التلميذان الى جماعة الرسل ليتبادلوا كلّهم معًا خبرتهم بالتقاء المسيح. فدور الجماعة أساسي في الأسرار. فهي التي تقرأ كلام الله وتفسّره على ضوء اختبارها التقاء المسيح في حياتها.
* اعتماد قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس (أع 8: 26- 39)
المشهد الثاني يقصّه لوقا في سفر أعمال الرسل، ويروي فيه اعتماد قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس أحد الشمامسة السبعة. ففي هذه الرواية نجد أيضًا عناصر السرّ الأساسية:
1- فالسرّ يلتقي الإنسان في اهتمامات حياته: كان الرجل الحبشي قد جاء الى أورشليم ليقيم فيها شعائر العبادة (8: 27). هكذا تبدأ الرواية، وتنتهي بالمعمودية باسم المسيح، مع كل ما تتضمّنه من معانٍ جديدة لحياة هذا الرجل.
2- المباشرة تأتي من الله: "فكلّم ملاك الرب فيلبّس: قم، فامض..." (8: 26)، "فقال الروح لفيلبّس: "اقترب، والزم هذه المركبة" (8: 29).
3- الأسرار تقود الى الإيمان: "إنّي أؤمن بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله" (8: 37). والرجل هو الذي يطلب المعمودية: "هوذا ماء، فما المانع من أن اعتمد" (8: 36).
4- الكلمة والمادة. بعد تفسير الكتاب المقدّس (سفر أشعيا)، والإيمان بكلام الله، تعبّر المعمودية بالماء عن الالتزام بهذا الإيمان الجديد.
5- دور الجماعة في هذا المشهد يقوم به فيلبس الذي انتدبته الكنيسة لهذا العمل. فهو الذي يبشّر وهو الذي يعمّد.
* اهتداء بولس على طريق دمشق واعتماده على يد حنانيّا (أع 9: 1- 19)
في هذا المشهد أيضاً نجد عناصر السرّ الأساسية:
فالمسيح يلتقي بولس في وسط اهتماماته: لقد كان ذاهبًا الى دمشق لإلقاء القبض على المسيحيين، فظهر له المسيح ذاته: "أنا يسوع الذي تضطهده"، وقاده الى الإيمان به والى المعمودية التي منحه إيّاها حنانيا ممثّل الجماعة المسيحية. وتجدر الإشارة الى أنّ المسيح يكتفي بأن يظهر ذاته لبولس ثمّ يرسله الى الجماعة: "إنهض، وأدخل المدينة، فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (9: 6).
وبعد التقاء المسيح تغيّرت حياة بولس كما تغيّرت حياة تلميذي عمّاوص: "ومكث أيّامًا مع التلاميذ الذين بدمشق، وأخذ للحال يكرز في المجامع بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله" (أع 9: 19- 20).
د) الأسرار تعبير عن تلاقي عمل الله وحرّية الإنسان
ليست الأسرار مجرّد أعمال خارجية يقوم بها الإنسان ليسترضي الله ويحصل على نعمته، بل هي التعبير عن تلاقي عمل الله وحرّية الإنسان.
"إنّ الله لا يحلّ محلّ البشر، ولا يدخل حياتهم دخول متسلّط. فإنّه أرسل إلينا ابنه يسوع المسيح الذي عاش في ما بيننا ومات وقام. وقبل أن بغادر هذه الحياة، أنشأ بعض الأعمال التي تتيح لنا من الآن فصاعدًا أن نلتقيه، ونسير على خطاه، ونجعل حياتنا على صورة حياته، ونكتشف السعادة الحقيقية ونحقّقها حسب نهجه.
من النادر ألاّ نصادف، ولو مرّة في حياتنا، صديقًا كان لقاؤه لنا لقاء هامًا، فنقول عن هذا اللقاء: إنّه غيّر حياتنا.
على هذا النحو يكون مفعول الأسرار. إن التقينا المسيح القائم من بين الأموات، وقرأنا حياتنا قراءة جديدة على ضوء حياته، وقمنا باختياراتنا على ضع اختياراته، تغيّر توجيه حياتنا تغييرًا جذريًّا، ليس من الخارج، لأنّه أقوى منّا، بل باحترام كلّي لشخصيتنا. إنّ المسيح يعمل فينا من الداخل، فيغيّر نظرتنا، ويميل بطرق تفكيرنا، ويساعدنا على اكتشاف ما لم ندركه بعد. إنّ فاعلية الأسرار تكمن في لقاء شخص أحبّنا، وبسبب هذه المحبة، يؤثّر فينا، ليس فقط لأنّه هو الذي يريد ذلك، بل أوّلاً لأنّنا نحن نريده".
في هذا التفسير لعمل الأسرار يتجنّب اللاهوت المعاصر الكلام على "العلّة والنتيجة"، فلا يرى في الاحتفال بالأسرار علّة لمنح النعمة، وكأنّ العلّة عمل منفصل عن النتيجة.
ومن جهة أخرى، حين يؤكّد اللاهوت المعاصر ضرورة حصول لقاء بين الله والإنسان في الأسرار، فإنّه يرفض نظرة الملحدين الذين يقولون بأنّ الطقوس والأسرار ليست سوى تعبير عمّا يخالج قلب الإنسان من مشاعر. ففي هذه النظرة تغدو الأسرار مجرّد تعبير عن الذات الإنسانية.
لا شك أنّ اللاهوت المعاصر يعتبر أن الأسرار هي من نوع فاعلية التعبير، ولكنّه لا يرى في التعبير مجرّد نقل الى الخارج لأفكار وصلت الى كمالها في داخل الإنسان. التعبير عمل ديناميكي، به تأخذ الأفكار التي لا تزال أوّلية في داخل الإنسان شكلها الكامل. إنّ الفكرة تنمو في الوجود عندما تنتقل من داخل الإنسان الى خارجه. وهكذا الحب ينمو في التعبير عنه وتجسيده في أعماله خارجية، وهكذا الصداقة تنمو في التعبير عنها وتجسيدها في الخارج.
ومع ذلك يجب القول إنّ التعبير لا يفي بالفكرة كلّها. فهناك فارق دائم لا يمكن إزالته بين الفكرة والتعبير عنها، ناتج من كون الإنسان على هذه الأرض روحًا يعبّر عن ذاته من خلال جسد ماديّ. فكثافة الجسد تحول دون شفافية الروح.
الفكرة في الأسرار هي حركة يشعر من خلالها الإنسان بدعوة الله إليه، فيدرك تلك الدعوة ويلتزمها ويعبّر عنها في الأسرار، فتتحوّل إذّاك من عمل يُفرَض الى عمل حرّ يعبّر من خلاله عن التقائه الله، ويصير ما هو عليه: إنسانًا متّحدًا بالله.
خلاصة القول أنّ الأسرار ليست عمل الله وحده ولا عمل الإنسان وحده، ففيها يتمّ تلاقي عمل الله الذي يدعو الإنسان، وحرّية الإنسان الذي يقبل دعوة الله، ويعبّر في الأسرار في عمل واحد عن وحي الله وعن إيمَانه بهذا الوحي. يقول أنطوان فيركوت، الأخصائي في علم الفلسفة الدينية:
"في التبادل بين كائنات، ليس من السهل دومًا تحديد نقطة تلاقي طريقيهما. هذه حالنا عندما نريد تحديد اللحظة الدقيقة لعبور الإنسان في الله وعبور الله في الإنسان. هناك نظرة تستند الى العلّة والنتيجة، فتوزّع أوقات التبادل على زمنية متقطّعة: فترى في مرحلة أولى عملاً إلهيًّا مسبّقًا يحمل الإنسان على الإيمان، وفي مرحلة ثانية الإيمان الذي يخضع لترتيبات الطقوس والأسرار، فينال في مرحلة ثالثة النعم الفائقة الطبيعة.
إنّ زمن التبادل ومكانه يكمنان، في نظرنا، في إيجابية الرمز الذي ينشئ في الإنسان معنى يفوق المعنى الذي يضعه فيه الإنسان. فالرمز الطقسي هو الحقيقة غير المقسومة حيث يتقاطع إيمان الإنسان وتجلّي الله. إن الرمز في الأسرار، وإن كان من عالم الإنسان، فهو بالقدر نفسه سمة إلهيّة تستمرّ نتائجها في المؤمن. إنّه الكلمة التي تنشر الكلمة الأصلية، والصورة التي تمثّل الإله الذيَ أخذ صورة إنسان، والعمل السيّد الذي يعيد الحركة التي سادت الحياة. بالطقوس يخرج الإنسان من ذاتيّته ويشترك في حقيقة متوسّطة يتجلّى فيها الله ويعمل.
إنّ التعبير الطقسي الكامل هو تفجّر الله في الإنسان، وفي الوقت نفسه دخول الإنسانِ اللهَ. إنّ عمل الإيمان والعمل الإلهي هما وجهان لعمل رمزي واحد يصير في الرموز الفاعلة".
3- ضرورة الأسرار بالمقارنة مع الصلاة والعمل
هل الأسرار تعبير ضروري عن تلاقي الله والإنسان؟ ألا يمكن المسيحي الاقتصار على الصلاة والعمل للتعبير عن لقائه بالله؟ وماذا تضيف الأسرار الى الصلاة والعمل؟
لنبدأ بتحديد الصلاة والعمل في حياة المسيحي.
أ) الصلاة هي اتصال بين الكيان الإنساني بمجمله والكيان الإلهي. إنّها تعبير عمّا يدركه الإنسان في ذاته من تفاعل بين النداءات التي يوجّهها الله اليه وخبراته الذاتية التي يشعر بضرورة تعميقها والبحث في أبعادها على ضوء الحضور الإلهي.
ب) العمل الخلقي هو تحقيق دعوة الله الى الإنسان لينمو في الكيان ويصير على مثال الله، إذ "ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السمَاوات، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السمَاوات" (متى 7: 21).
بالصلاة والعمل تتأكّد صحة الإيمَان وملاءمته العمق الوجودي الذي يدركه المؤمن في ذاته.
ج) الأسرار هي التعبير الحسّي من خلال عناصر الكون والمادة عن العلاقة الكيانية التي تربط الله بالإنسان والإنسان بالله. إنّها التعبير الذي تحقّق من خلاله كل إمكانات الإيمَان الصامتة. لذلك تجمع في طيّاتها رموز الجسد واللغة البشرية والجماعة الإنسانية والأرض كلها (بواسطة الماء والزيت والخبز والخمر والشموع والبخور وما الى ذلك) للاحتفال بحدث الله الذي يأتي الينا حقًّا من خلال العمل الإنساني.
والأسرار هي كذلك التعبير عن تحقيق تلك العلاقة بين الله والإنسان في تاريخ الخلاص في تجسّد كلمة الله في شخص يسوع المسيح، وعن ضرورة استمرار التجسّد والتألّه حتى يصير الله "كلاًّ في الكلّ".
ففي المعمودية مثلاً تأتلف في عمل رمزي كل معاني الوجود ومعاني التاريخ المسيحي، ويتحقق في المعتمد الخلاص الآتي من الله في شخص المسيح:
- فبالتغطيس يدخل الإنسان الرمز الكوني للأشياء المبهمة التي تمثّلها الماء التي لا صورة لها.
- وإذا بكلمة المسيح تنشى، بعمل خلق جديد، حياة جديدة في هذا الإنسان المرتبط بالكون.
- وعبور الماء يوجز بشكل منظور تاريخ البشرية الديني بمجمله. فالإنسان ينتقل بن الكيان الذي لا صورة له الى الشخصية المسيحية المبنيّة على صورة المسيح الكائن الجديد. وبشكل رمزي ومسبّق يقبل الموت كمرحلة حاسمة لا بدّ منها، ويؤكّد إيمَانه بأنّ جسده سيعبر مع المسيح معبر الموت الخطير.
إنّ التراث المسيحي، في الأسرار، يعتنق المعاني التي أنشأها المسيح في بعض علامات جوهرية تتميّز بمَا فيها من تقارب مع أسس الوجود البشري. وهكذا على الوجود الطبيعي تضفي الأسرار المسيحية سمة دخول الله تاريخ البشرية.
4- حضور المسيح في الأسرار
إنطلاقًا من اللقاء بين الله والإنسان في الأسرار، يمكننا فهم "حضور المسيح" فيها. ماذا نعني بلفظة حضور، وكيف يكون المسيح حاضرًا في الأسرار؟
أ) الحضور علاقة ديناميكية بين أشخاص
الحضور يعني دومًا علاقة تبادل بين أشخاص. فالأشياء لا يمكن أن تكون حاضرة بعضها لبعض. الأشخاص وحدهم يمكنهم أن يكونوا حاضرين أحدهم للآخر. فالحضور يتطلّب انفتاحًا على الآخر وعطاء حرًّا له.
في كل حضور انفتاح ضروري على الآخر لنتقبّله في حياتنا. الحضور ليس واقعًا جامدًا بل هو علاقة ديناميكية تخرج الإنسان من ذاته وتفتح أمامه آفاقًا وإمكانات جديدة. فالآخر يحذبني إليه لأحقّق معه عملاً مشتركاً أو أعيش معه في حياة مّشتركة.
في الحضور درجات متنوّعة من الكثافة. ولكنّ الحضور الحقيقي للآخر في حياتي وفي كياني لا بدّ له أن يغيّر حياتي وكياني. وقد يكون هذا التغيير جذريًّا.
ب) حضور المسيح
إنّ حضور المسيح لا يسعه أن يكون مجرّد حضور في أشياء، كالماء والخبز والخمر والزيت. فلا حضور للمسيح إلاّ في علاقة مع شخص إنساني يؤمن به. وتلك العلاقة تتحقّق بشكل سرّي، أي بواسطة أشياء مادّية منظورة تدعى "مادة السرّ"، كالماء، والخبز والخمر، والزيت، ووضع اليد، تعبّر عن حقيقة غير منظورة. إن عطاء المسيح ذاته لنا في الأسرار يكون دوماً من خلال مادة معيّنة. ولكنّ الهدف الأخير من هذا العطاء هو إنشاء علاقة شخصية مع المؤمن.
وعندما تنشأ علاقة بين أشخاص، لمكن القول إنّ حضورهم بعضهم لبعض هو حضور حقيقي يتّخذ أشكالاً متنوّعة. فانطلاقاً من خبرتنا البشرية، نستطيع القول إنّنا حاضرون بعضنا لبعض في الكلام، والوجود الصامت جنبًا الى جنب، والهدايا، وأعمال المحبة.
في كل هذه الأنواع حضورنا هو حضور حقيقي. ولكن ما هو الحضور الأكثر حقيقة والأشدّ كثافة؟ إنّه يصعب الجواب عن هذا السؤال إجابة جازمة. فقد يكون أحد هذه الأنواع أكثر حقيقة وفق الظروف والأحوال. فهناك ظروف أشعر فيها بأنّ وجود أحد أصدقائي الى جانبي وجودًا صامتًا هو حضور أصدق وأعمق من كلّ ما يستطيع أن يخاطبني به أو يهديه إليّ.
كذلك حضور المسيح حضوراً حيًّا وحقيقيًّا في الكنيسة هو حضور متنوّع. فحضوره في الإنجيل متميّز عن حضوره في سر الإفخارستيا وفي الأيقونة وفي الجماعة المؤمنة.
إنّ التقليد اللاهوتي الغربيّ منذ القرون الوسطى قد خصّ حضور المسيح في سرّ الافخارستيّا بعبارة حضور حقيقي. إنّ هذه العبارة قد تضلّل المؤمنين، إذ توهمهم أنّ حضور المسيح في سائر الأسرار هو حضور رمزي، أمّا في الإفخارستيا فهو حقيقي.
يجب التأكيد أنّ حضور المسيح في جميع الأسرار هو حضور حقيقي ورمزي معًا. فالمسيح قد قام من بين الأموات، وهو الآن حيّ في مجد الآب، ويحضر حضورًا حقيقيًّا في جميع الأسرار، كما يحضر حضوراً حقيقيًّا في الإنجيل وفي الجماعة المؤمنة. وهنا نعني بصفة "حقيقي" ما يكمن في الأشخاص والأشياء من معانٍ وأبعاد تتخطّى كيانها الظاهر. فحقيقة الشخص أو الشيء هي ما يشدّ كيانه الظاهر الى ما يمكن أن يحمله من معانٍ وأبعاد. فالفرق بين الأسرار لا يكمن في حقيقة حضور المسيح فيها، بل في ما تحمله من معانٍ.
لذلك لا تأتي أهمية سرّ الإفخارستيا بالنسبة إلى سائر الأسرار من أنّ المسيح حاضر فيها حضورًا أكثر حقيقة، بل من أنّ هذا السرّ يعيد الى ما بيننا حضور شخص المسيح في قمّة عطائه، أي في بذل ذاته حتى الموت في سبيلنا، وفي قيامته بقدرة الروح الى مجد الآب. فالفرق بين هذا السرّ وسائر الأسرار هو في ما يحمله من معانٍ. إن محور سرّ الإفخارستيّا هو عبور يسوع من الموت الى الحياة، وانتقاله الى مجد الله، "ذاك المجد الذي كان له من قبل كون العالم" (يو 17: 5). في هذا المعنى يمكن الكلام على حضور المسيح في سرّ الإفخارستيا حضورًا حقيقيًّا "أكثر سموًّا وأشدّ كثافة" من حضوره في سائر الأسرار.
وهذا الحضور الحقيقي هو في الوقت نفسه حضور رمزي سرّي، أي من خلال سرّ، أو علامة خارجية منظورة. وتلك العلامة المنظورة تختلف أيضاً من سرّ الى آخر، حاملة في ثناياها المعاني المختلفة التي تتضمنّها الأسرار.
5- الوسم السرّي: أوّلية مبادرة الله وثبات اختياره
هناك ثلاثة أسرار، المعمودية والميرون والكهنوت، لا تعطى للمؤمن إلاّ مرّة واحدة في حياته. وهذا تقليد جرت عليه الكنيسة منذ نشأتها. لا شك أنّ هناك نقاشًا قد حصل في القرن الثالث حول إعادة تعميد المهتدين من البدع إلى الكنيسة الكاثوليكية. ولكنّ هذا النقاش لم يدم طويلاً، وأعلنت الكنيسة أنّ من اعتمد في إحدى البدع معمودية صحيحة، أي "باسم الآب والابن والروح القدس" في كنيسة تؤمن إيمَانًا صحيحاً بالثالوث الأقدس، لا تعاد معموديته متى عاد الى حضن الكنيسة الجامعة.
هذا التقليد القديم عبّر عنه اللاهوت المسيحي بقوله إنّ هذه الأسرار الثلاثة تمنح من يقبلها وسمًا لا يمحى. فما هو قوام هذا الوسم؟
لقد كان الوسم في المجتمعات القديمة علامة تعارف تشير إلى دخول شخص جماعة معيّنة. فالجندي كان يوسَم بالنار بالأحرف الأولى من الأمم الإمبراطور الذي كان في خدمته، وهذه العلامة كانت تميّزه عن غيره من الناس وتكرّسه لخدمة الإمبراطور وخدمة الدولة.
إنّ الوسم الذي تمنحه الأسرار الثلاثة هو علامة اختيار للمسيح بالنسبة الى الشخص الذي يقبل هذه الأسرار اختيارًا لا عودة عنه. فالله هو الذي يبادر البشر بالمحبة والنعمة ويقطع معهم عهدًا أبديًا. ولو ابتعدوا عنه فإنّه يبقى أمينًا للعهد الذي قطعه معهم.
هكذا بالمعمودية والميرون يتبنّى الله الإنسان ويشركه في موت المسيح وقيامته ويمنحه روحه القدّوس. وإن خطى الإنسان وجحد إيمَانه وغادر البيت الأبوي كما فعل الابن الشاطر، فالله يظلّ يعتبره ابنًا له، ولا حاجة لإعادة معموديته لدى عودته.
وكذلك في سرّ الكهنوت يختار الله شخصاً ويشركه في كهنوت المسيح. ويظلّ هذا الاختيار ثابتًا من تقلّب الكاهن في الخطيئة وأهمل واجبات خدمته الكهنوتية. وحتى إعادة الكاهن الى الحالة العلمانية فإنّها، في تقليد الكنيسة، لا تزيل عن الكاهن الوسم الكهنوتي، بل توقفه عن ممارسة المهامّ المتعلّقة بسر الخدمة الكهنوتية. وإذا ما عاد الى الحياة الكهنوتيّة، فلا تمنح له من جديد السيامة الكهنوتية.