إنّ وحي الثالوث الأقدس قد أتى إلينا عبر تاريخ الخلاص الذي بلغ كماله في شخص يسوع المسيح. فعقيدة الثالوث ليست حصيلة تفكير بشريّ نظريّ عن الله، ولا نتيجة تطوّر ديني بدأ في ديانات الشرق القديم. بل هي تعبير لاهوتي لسرّ الله الذي ظهر لنا ظهوراً خلاصيّاً في شخص يسوع المسيح. فالمسيح قد أتى إلينا باس الله حاملاً إلينا خلاص الله، ومن بعد قيامته أرسل إلينا روح الله. هكذا أوحى لنا الله بذاته آبًا يرسل إلى العالم ابنه المخلّص وروحه القدّوس. لذلك سيكون محور بحثنا وحي الله بذاته في العهد الجديد.
ولكن قبل ذلك سنتساءل: بمَا أنّ تاريخ الخلاص قد بدأ في العهد القديم، ألا يمكننا أن نجد وحي الثالوث الأقدس حتى في العهد القديم؟
أوّلاً- تهيئة وحي الثالوث الأقدس في العهد القديم
لا نجد في العهد القديم وحي الثالوث بشكل كامل، وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لم يظهر ظهورًا كاملاً إلاّ في العهد الجديد في شخص يسوع المسيح. وكذلك الروح القدس لم يحلّ على التلاميذ وعلى كلّ إنسان إلا من بعد قيامة المسيح. ولكن ألا نجد في العهد القديم عناصر مختلفة هيّأت لهذا الوحي؟
لا بد، قبل المباشرة بالإجابة على هذا السؤال، من الإشارة إلى أنّ البحث في هذا الموضوع ما كان ممكنًا لو لم يبلغ الوحي بالثالوث كما له في العهد الجديد. فانطلاقًا ممّا أُوحي به إلينا في العهد الجديد، نستطيع أن نعود إلى العهد القديمِ لنرى فيه تهيئة هذا الوحي. وبمَا أنّ عقيدة الثالوث الأقدس في العهد الجديد مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بعلاقة الله بالإنسان بواسطة الابن والروح القدس، فالبحث في تهيئة تلك العقيدة في العهد القديم لا بدّ له أن يتمحور حول تلك العلاقة ذاتها في نواحيها الثلاث.
1- علاقة الله الآب بالإنسان
عندما سأل أحد الكتبة يسوع: "أيّ وصية هي أولى الوصايا جميعًا؟"، أجابه يسوع: " الأولى هي: اسمع، يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الرب الوحيد. فأحبب الرب إلهك بكلّ قلبك، وكل نفسك كلّ ذهنك؟ وكلّ قوّتك" (مر 12: 28- 30). تلك الوصية، التي نجدها في سفر تثنية الاشتراع (6: 5)، والتي كان على كل يهودي أن يتلوها كل يوم، توجز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله. فالله هو الإله الوحيد الذي يجب أن يحبّه كلّ إنسان.
هذا الإله الوحيد هو الله الآب الذي يطلب يسوع أن يثق به الإنسان ويحبّه ويقتدي به: "أحبوا أعداءكم، وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات... فأنتم إذن، كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (متى 5: 44- 48).
يظهر الله الآب في العهد القديم في كلّ ما يقوله العهد القديم عن الله: الإله الواحد، والإله الخالق، والإله القدوس، والإله المخلّص، والإله الذي اختار شعبه ليقيم معه عهدًا منذ إبراهيم وإسحق ويعقوب حتى موسى وداود وسائر الأنبياء.
إلى جانب هذه التسميات التي يدعو بها العهد القديم الله، يمكن أن نضع تسمية "الأب"، كما نقرأ مثلاً في سفر أشعيا: "يا رب، أنت أبونا. نحن الطين وأنت جابلنا، ونحن جميعًا عمل يديك" (أش 64: . ففي هذه العبارة يدعى الله أبا، لأنه الخالق. وفي نصّ آخر يدعى الله أبًا لأنّه المخلّص والفادي: "أنت يا رب أبونا وفادينا، منذ الدهر اسمك" (أش 63: 16). وفي تثنية الاشتراع نجد علاقة بين تسمية الله "أبًا" وإيمان الشعب بأنّ الله هو الذي خلقهم واختارهم نصيبًا له: "أبهذا تكافئ الرب، أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة له؟ أليس أنه هو أبوك مالكك الذي فطرك وأبدعك؟ سل أباك ينبئك وأشياخك يحدّثوك، حين قسم العلي الأمم... لأنّ نصيب الرب شعبه، يعقوب حبل ميراثه... الصخر الذي ولدك تركته، والإله الذي أنشأك نسيته. فرأى الرب واغتاظ لما أغضبه بنوه وبناته" (تث 32: 6- 19).
وفي تلك الأبوّة يجد الأنبياء حافزًا لدعوة الشعب إلى القداسة: فإنّ دعوة سفر الأحبار: "كونوا قديسين، لأني أنا الربّ إلهكم قدوس" (أح 19: 2) تجد صداها في نبوءة إرميا مع ذكر أبوّة الله لشعبه: "ارجعي إليّ، يقول الرب، أما دعوتِني منذ ذلك الوقت: يا أبتِ، أنت مرشد صبائي... إرجعوا أيّها البنون المرتدّون، فأشفي ارتداداتكم" (إر 3: 1، 4، 19، 22). "يأتون باكين وأهديهم... لأنّي أب لاسرائيل، وأفرائيم بكر لي" (إر 31: 9). وفي ذلك يقول أيضاً النبي ملاخي: "الابن يكرم أباه، والعبد يكرم سيّده، فإن كنت أنا أبًا، فأين كرامتي، وإن كنت سيّدًا، فأين مهابتي؟" (ملا 1: 6). "أليس أب واحد لجميعنا؟ أليس الله واحد خلقنا؟ فلِمَ يغدر الواحد بأخيه مدنّسًا عهد آبائنا؟" (ملا 10:2).
وهوشع النبي يجمع بين محبة الأب وحنان الأم: "اذ كان اسرائيل صبيًّا أحببته، ومن مصر دعوت ابني... وأنا درّجت أفرائيم وحملتهم على ذراعيّ، لكنّهم لم يعلموا أني أنا أبرأتهم" (هو 11: 1- 2). وكذلك يقول أشعيا: "أتنسى المرأة مُرضَعها فلا ترحم ابن بطنها؟ لكن ولو أنّ هؤلاء نسين، لا أنساكِ أنا" (اش 49: 15).
ان الملك يدعى "ابن الله"، والله هو أب له بنوع خاصّ. فنقرأ في المزمور 88: "وجدت داود عبدي، بدهن قداستي مسحته... يدعوني: إنّك أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أجعله بكراً عليّا فوق ملوك الأرض" (مز 88: 21، 27- 28). وغي نبوّة ناتان لداود النبي، ترد أيضاً الفكرة ذاتها: "إذا تمّت أيّامك واضطجعتَ مع آبائك، وأقمتُ من يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وأقررتُ ملكه، فهو يبني بيتًا لاسمي، وأنا أقرّ عرش ملكه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا" (2 ملو 7: 12- 14). والمزمور الثاني يوضح تلك الأبوّة الخاصة ويؤكّدها: "قام ملوك الأرض والعظماء ائتمروا معا على الرب وعلى مسيحه... حينئذ يكلّمهم بسخطه وبغضبه يروّعهم: إنّي مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي، لأخبرنّ بحكم الرب. قال لي: أنت ابنى، أنا اليوم ولدتك. سلني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 2- .