27 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» 28 فَأَجَابُوا:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 29 فَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ الْمَسِيحُ!» 30 فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. (عدد 27-30).
قد تنحى الرب إلى حدود أرض إسرائيل القصوى، وسأل تلاميذهُ قائلاً: مَنْ يقول الناس أني أنا؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون واحد من الأنبياء. تلك آراء مختلفة، ولكن خالية من الإيمان. ثم سألهم: وأنإ مَنْ تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: أنتَ المسيح. يجب أن نلاحظ أن مرقس إنما يدرج إقرار بطرس أن يسوع هو المسيح فقط، ولا يذكر انهُ ابن الله الحي ولا أن الآب قد أعلن ذلك لهُ إعلانًا خصوصيًا كما قد رأينا في (مَتَّى 13:16)، ولا نرى هنا شيئًا من كلام الرب في شأن الكنيسة التي كان مزمعًا أن يبنيها على ذاتهِ بعد قيامتهِ من الأموات، فالواضح أن مرقس إنما أُلهم بأن يذكر ما يدل على إيمان بطرس الشخصي فقط إعلان الآب. ثم انتهرهم الرب ونهاهم نهيًا جازمًا كي لا يقولوا لأحد عنهُ. ذلك برهان جلي على أن الشهادة في وسط الشعب كانت قد انقضت كل الانقضاء، على انهُ كان لم يزل المسيح بعينيهِ، لكنهُ كان مرفوضًا عند الشعب الذي كان عدوًا لنفسهِ برفضهِ نعمة الله العجيبة
31 وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. 32 وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. 33 فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا ِللهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». (عدد 31-33).
ثم بدأ يُعلَّم تلاميذهُ جهارًا بأنه ينبغي أن يتألم كابن الإنسان. وما ذلك إلا مقام ولقب ساميان كل السمو بالنظر لاتساع سلطانهِ وعظمة السيادة المنوطة بهِ فإن كل الأشياء ستخضع لسلطانهِ كابن الإنسان، ولكن كان يجب أن يتألم ويموت ويقوم من بين الأموات لينبوا كابن الإنسان منزلتهُ في المجد. فكانت الضرورة أن يتم الفداء وأن يدخل الإنسان إلى مقام جديد وإلى حالة حديثة لم يكن عليها فيما سلف حتى في طهارتهِ الأصلية، أما مقام المسيح كمسيا فكان قد عزل الآن جانبًا ودخل هو منزلة أسمى حيث الأشياء العتيقة كانت قد تُركت وراء الموت وكل مَنْ تأسس على عمل المسيح وموتهِ تبوأ رتبة جديدة وأبدية.
فالموضوع هنا يتعلق بالأكثر على آلام المسيح فقد وضع الصليب أمام تلاميذه، ولكنهُ يتكلم دائمًا عن الموت والقيامة. وقال هذا القول علانيةً فكان ذلك عثرة لبطرس؛ لأنهُ لم يُرد أن مُعلمهُ يُهان لدى أبصار الجمهور، غير أن الصليب إنما هو نصيب الذين يختارون إتباع يسوع. أما بطرس فقد وضع بهذا القول عثرة في سبيل التلاميذ، فعلم الرب ذلك فالتفت نحو التلاميذ ووبخ بطرس ذلك الذي بنعمة الله اعترف بهِ منذ برهة، وقال لهُ: «اذهب عني يا شيطان؛ لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». فنرى بهذا القول درسًا خطيرًا، بل أكثر من درس واحد. أولاً- أن المسيحي يجب أن يفهم كل الفهم أن طريق الخلاص والسبيل المؤدي إلى المجد والسماء الذي سلك فيهِ المسيح نفسهُ ويُريد أننا نتعلمهُ فيه،ِ إنما هو أن نُنكر أنفسنا ونتألم ونغلب. ثانيًا- لنتعلم من ذلك أنهُ يمكن أن يكون للمسيحي إيمان حقيقي، وأن يكون مُتعلمًا من الله كما كان بطرس بدون أن يخضع جسدهُ ويقضي عليهِ حتى يكون قادرًا على السلوك في السبيل الذي يقودهُ إليهِ هذا الحق الإلهي. فعلينا أن نذكر هذا الأمر المهم وهو أن الإنسان يستطيع أن يكون مخلصًا بدون أن يعرف نفسهُ حق المعرفة. فمقام المسيح الجديد الغير المُنفك عن الأمجاد السماوية والمشترك بها الإنسان الساقط الممتاز بالأفضلية والسمو على كل الأشياء يتحد كل الاتحاد بالصليب ويجعل حملهُ أمرًا ضروريًا لكل مؤمن، ولكن حين يُعلن الرب نتيجتهُ الفعلية لا يطيق الإنسان احتمالها.
فما أكثر القلوب التي تُصدق عليها هذه الحالة! تلك قلوب لا ريب بخلوصها، ولكن ليس لها الشجاعة الروحية لقبول العواقب المترتبة على الحق المؤمنة بهِ. فانظروا الفرق في حال بولس عندما تَقوى بالروح القدس والإيمان وقال: «لكي أعرفهُ (أي المسيح) وقوة قيامتهِ وشركة آلامهِ متشبهًا بموتهِ» (فيلبي 10:3). فقد كانت قوة الروح القدس حالَّة عليهِ فحمل دائمًا في جسدهِ إماتة الرب يسوع لكي تُظهر حياة سيدهُ في جسدهِ. فيا لغبطة ذلك الإناء المصطفى! فإنهُ كان يُفضل على الدوام أن يحتمل كل آلم على عدم اتباع سيدهِ المجيد بكل قلبهِ، وعلى عدم الاعتراف باسمهِ مهما كانت العواقب المترتبة على ذلك، وبعد أن يسير بنعمة الله بأمانة ينال جائزة دعوتهِ السماوية.
34 وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. 36 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ 37 أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ 38 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ». (عدد 34-38.
أما الرب فلا يكتم العواقب ولا يُريد إخفاءها. فقد حذر الجموع ويُحذرنا أيضًا بأنَ إذا شئنا أن نكون معهُ وأن نتبعهُ، وجب أن نُنكر أنفسنا ونحمل صليبنا. فعلينا أن نقبل كلام الرب فلكي نكون معهُ إلى الأبد، وجب علينا أن نتبعهُ وإذا تبعناهُ وجدنا في الطريق كل ما وجدهُ هو نفسهُ. على أن ذلك ليس بمسألة آلام تكفيرية كالتي احتملها من يد الله عن الخطية، بل احتمالهُ من يد الإنسان مقاومة الخطاة ومضادَّتهم والعار والإهانة حتى الموت نفسهِ. أما نحن فلا نعرف حق المعرفة ما هو التألُّم لأجل اسم يسوع، ولكن اذكروا أيها المسيحيون ما يقولهُ الرب: أولاً- مَنْ أراد أن يأتي وراءي فلينكر نفسهُ، فإنهُ يمكن لنا كل يوم أن نُنكر ذواتنا في الأشياء العالمية التي تلذُّ لنا لذة جسدية، ثم إذا كنا معتادين على نكران الذات نستطيع بنعمة الله أن نقبل العار والإهانة من أجل اسم المسيح. فإن مَنْ أراد أن يُخلص نفسهُ، أي مَنْ حمل الصليب وراء المسيح المرفوض يُهلكها، ومَنْ يُهلك نفسهُ من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يُخلصها؛ لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلهُ وخسر نفسهُ. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسهِ. فلا نرى سوى طريقين. أي طريق العالم وطريق المسيح، ولكل منهما ما يتصف بهِ، ومَنْ سلكهُ يصل إلى نهاية لا محالة.
ولكنهُ لا يُخفى أن ما يُربي الجسد ومحبة الذات، هو ذلك النظام العظيم المدعو العالم. فإن الإنسان يحب أن يكون شيئًا عظيمًا في عيني نفسهُ ويصبو لأن ينسى الله ويجعل نفسهُ سعيدًا ومغبوطًا إن أمكن بدونهِ تعالى. فهكذا فعل قايين حين طُرد من حضرة الله بعدما قتل هابيل فقد فرَّ من أمام وجه القدير بعد أن بقى عليهِ قضاء حرمهُ من رجاء العودة إلى حضرة الله والتمتع بشركتهِ الطاهرة؛ لأن الله جعلهُ تائهًا وهاربًا على سطح الأرض (ذلك رمز مؤثر يُمثل حال اليهود في هذا الحين بعد أن أماتوا الرب يسوع أخاهم حسب الجسد)، غير أن قايين لم يشاء أن يظل بائسًا تائهًا. وعلى كلٍ لم يُرد أن يترك عائلتهُ في حال كتلك، بل أحب النجاة من بؤسهِ وشقاء حالهِ، فبنى لهُ مدينة في أرض نود تعني في اللغة العبرانية تائهًا، فقد رغب في أن تقطن عائلتهُ البلاد التي جعلهُ الله بها تائهًا فسمى المدينة على اسم ابنهِ، كما يفعل عظماء هذا العالم فهنالك نشأ مخترعو الآلات الموسيقية وآلات النحاس والحديد وهنالك حشدت وارتكمت ثروة الأجيال الحاضرة ووفرت القنية والمواشي فهذا هو العالم.
لا جُرم أن قلب الإنسان بعد انفصالهِ عن الله حاول أن يجعل الأرض التي قد ابتعد بها عنهُ تعالى موطنًا سارًا وبَهِجًا لنفسهِ حسب الإمكان، وقد استخدم لنوال هذه الغاية عطايا الله وخليقتهُ للاستغناء عنهُ. ولقائل أن يقول: أن لا ضرر باستعمال هذه الأشياء. أَجبنا: أن هذا مُسَلم، غير أن هذه ليست هي المسألة الجوهرية، فهذه الأمور حسنة؛ لأنها خليقتهُ تعالى فقد قيل على سبيل الرمز والإشارة أن نتمتع بالترانيم الموسيقية في السماء أيضًا، ولكنها لا تُستعمل هنالك لتسلية الأفكار واللهو بدون الله. فالمسألة إنما تتعلق على كيفية استعمال تلك الأشياء مثلاً لا ضرر بالقوة، بل بالأسلوب الذي نستعملها فيهِ فإن الإنسان يستطيع أن يضر بها قريبهُ. ألا نرى أن العالم الذي لا يعرف الله يستعمل كل أنواع الملاهي والمسرات للتنعم بها خلوًا من الله؟ فإن القلب الفارغ من الله يُحاول أن يُسلي نفسهُ فيستخدم لذلك كل الأشياء المنظورة والمسموعة والمخترعة كالملاعب والمراقص والموسيقى وكل نوع من وسائط الطرب والسرور، وذلك لأنهُ خالٍ من الله ومُفعم بالهموم والأحزان ولا يُشبعهُ شيء. ولابد أن يجد نفسهُ بعد بضعة أعوام حافظ بها على نشاطهِ الطبيعي وشهواتهِ الجسدية متعبًا وكليلاً، وبعد أن يكون قد امتحن كل شيء يقول مع سليمان المختبر تلك الأمور: باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح، فإن الله قد أُهمل والنفس هلكت.
على أن الملاهي تبعد أيضًا المسيحي عن الله وتفني شركتهُ معهُ تعالى، فكل ما في العالم إنما هو: شهوة الجسد، وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوتهُ وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد. فالشيطان الذي أضلَّ حواء بهذه الأشياء هو إله هذا العالم، وقد حاول أن يغرِ مخلصنا أيضًا بهذه الأمور على أنهُ شكرًا لله لم ينجح بهذه القمة، ولكنهُ كثيرًا ما ينجح بدون تعب جزيل في خداع قلوب البشر عمومًا حتى المسيحيين، وأن يجعل لمسرات هذا العالم سلطةً على نفوسهم أكثر مما للمسيح نفسهِ ولمحبتهِ التي برهنها لنا بموتهِ. فهكذا كانت الحالة مع بطرس المغرور، على أنهُ لم يكن قد قبل الروح القدس حينئذٍ، غير أن هذا لا يُغير طبيعة أشواقهِ؛ لأنهُ كان يصبوا إلى المجد في هذا العالم تحت رداء محبة السيد. فتأملوا هنا أيضًا بمحبة يسوع لتلاميذه،ِ وما أعظم عنايتهُ الرحيمة بهم! فإنهُ التفت ونظر جسامة العثرة التي وضعها بطرس أمام التلاميذ فوبخهُ بصرامة حسب استحقاق كلامهِ. ثم وضع أمام التلاميذ مبدائين: أولاً- أن قيمة النفس تفوق على سائر الأشياء وأن الإنسان لا يستطيع أن يفديها بشيء. وثانيًا- أن يسوع كان مزمعًا أن يدخل المجد وأن كل من استحى بهِ في هذا العالم الفاسد حيث قد رُفض يستحي بهِ ابن الإنسان حين يأتي في مجد أبيهِ مع الملائكة القديسين.ويا للخسائر الباهظة التي ألمت بكنيسة الله من حين تغافلت عن سرعة مجيء سيدها ورفضت حمل الصليب وأخذت تتهور في طريق العالم!