تفسير سفر القضاة
الفصل الأول
(الإصحاح الأول إلى الثامن)
قد ظهرت قوة الرب في سفر يشوع إذ أدخل شعبهُ إلى أرضهم وأسكنهم هناك رغماً عن مقاومة الكنعانيين، ومع أن بني إسرائيل تراخوا عن الحرب قبل إفناءِ جميع أعدائهم، وسمحوا لجانب كبير منهم أن يسكن في وسطهم، لم يتركوا الرب بل استمروا عَلَى عبادتهِ وحدهُ، فكان معهم كل أيام يشوع وبعد موتهِ أيضاً مدة من الزمان. فالأخبار إذ ذاك المتضمنة في سفر يشوع مفرحة عَلَى الإطلاق، وأما المتضمنة في هذا السفر فمحزنة؛ لأنهُ يوضح أولاً تقصير إسرائيل عن امتلاك الأرض كلها، ثم عجزهم عن إبقاءِ ما امتلكوه منها تحت تسلطهم، ثم ابتعادهم عن الرب وانحطاطهم في عبادة الأصنام وتعبدهم للكنعانيين قصاصاً لهم.
«وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: من منا يصعد إلى الكنعانيين أولاً لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد، هوذا قد دفعت الأرض ليدهِ. فقال يهوذا لشمعون أخيهِ: اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين فأصعد أنا أيضاً معك في قرعتك، فذهب شمعون معهُ، فصعد يهوذا ودفع الرب الكنعانيين والفرزّيين بيدهم، فضربوا منهم في بازق عشرة آلاف رجل، ووجدوا أدوني بازق في بازق فحاربوه وضربوا الكنعانيين والفرزّيين، فهرب أدوني بازق فتبعوهُ وأمسكوهُ وقطعوا أباهم يديهِ ورجليهِ، فقال أدوني بازق: سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي، كما فعلت كذلك جازاني الله، وأتوا بهِ إلى أورشليم فمات هناك» ( قضاة 1:1-7) فتحركت غيرتهم مؤقتاً ولكنها لم تكن شديدة؛ لأن الغيرة الحقيقية من ثمر الإيمان المتنشط والطاعة لكلمة الله، فالتي ليست كذلك إنما هي كلهيب فتيلة المصباح الفارغ من الزيت الذي يلتهب بسرعة وينطفئ كذلك. يظهر من قصة الملك أدوني بازق أولاً حال الكنعانيين أدبياًّ كيف أنهم كانوا يتصرفون بكل قساوة بعضهم نحو البعض، وثانياً نقمة الرب الذي جازاه كما كان قد فعل.
«وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار… الخ» (قضاة 8:1-21) فكان المقام الأول لبني يهوذا في هذا الجهاد الجديد، غير أنهم لم ينجحوا فيهِ نجاحاً كاملاً، إذ «لم يطرد سكان الوادي؛ لأن لهم مركبات حديد» (قضاة 19:1) نعم أنهم حاربوا، ولكن ليس بالإيمان؛ لأنهم نظروا إلى قوة أعدائهم وإذ ذاك خافوا من الذين هم أقوى منهم حسب الظاهر.
«وصعد بيت يوسف أيضاً إلى بيت إيل والرب معهم إلى الخ» (قضاة 22:1-29) وهؤلاءِ أيضاً لم ينجحوا إلاَّ إلى درجة معلومة.
«زبولون لم يطرد سكان قطرون… الخ » (قضاة 30:1-39) فلا يوجد هنا ذكر للأسباط الآخرين، فإن الغيرة الوقتية أخذت تبرد وعند ذلك كفوا عن الجهاد وارتضوا ببقاءِ الكنعانيين في وسطهم، وصارت غلبة عظيمة للعدو. ومثل إسرائيل هذا مثل الكنيسة المسيحية التي أقامها الله عَلَى الأرض في مقام معين، وباركها بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، ولكنها لم تستمرّ عَلَى امتيازاتها بل انحرفت سريعاً كقوس مخطئة. وكما أن سفر يشوع يتضمن رموزاً أو تشبيهات تناسب أحوال الكنيسة بالنظر إلى كونها شهادة لله في العالم وحائزة عَلَى امتيازات سامية، هكذا سفر القضاة يتضمن ما يوافق انحطاطها أيضاً، وهذا ليس من التفاسير الغامضة التي يمكن اختلاف الرأي فيها بوجهٍ صوابي؛ لأنهُ قد ورد في العهد الجديد شواهد عديدة جدًّا عَلَى ذلك وصريحة أيضاً بهذا المقدار، حتى أنهُ يُعدّ من الأمور الغريبة وجود مسيحي واحد يستغرب كلامنا هذا؛ لأنهُ قبل وفاة الرسل وأصحاب الوحي امتدت الخيانة بين المسيحيين، واستولى عليهم سلطان الظلمة إلى درجة بليغة، وإذ ذاك أُدرجت بالوحي أقوال كثيرة في العهد الجديد من جهة انحطاط الكنيسة وازدياد الفساد فيها من سوء التعليم وسوءِ السلوك إلى أن يتقياها الرب من فمهِ. وليس علينا إلاَّ أن نراجع رسائل بولس وبطرس ويهوذا وسفر الرؤيا فنتأَكد ذلك كل التأكيد، ليس بأوهام بشرية بل بأقوال الله، فلا ينكر ذلك إلاَّ من يرفض الكتاب أو يهملهُ إهمالاً كلياً، وعَلَى الحالين ليس لهُ عذر؛ لأنهُ كلما مضت الأجيال تزايدت الشرور تحت اسم المسيح، ولكن عوضاً عن أن يعثرنا ذلك ويلقينا في الشك من جهة الوحي، إنما يقوي إيماننا لأننا نرى في كتابنا أخباراً مفصلة عن جميع أنواع الشر الحاصلة، ونعرف أيضاً نهايتها، ولولا ذلك لكنا في ارتباكات وشكوك لا تحتمل، لذلك يثبت إيماننا بالوحي الكامل من الجهتين، أعني من جهة الخير العظيم للمتكلين عَلَى المسيح حق الاتكال، ومن جهة الشر العظيم الحاصل تحت اسمهِ أيضاً، فإذاً انحطاط الكنيسة لا يضعف إيماننا البتة، بل يجعلنا نسأل: كيف يجب أن نتصرف في أيام خِرَب كهذه؟
«وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتكم من مصر، وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد، وأنتم فلا تقطعوا عهداً مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم، ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟ فقلت أيضاً لا أطردهم من أمامكم بل يكونون لكم مضايقين وتكون آلهتهم لكم شركاً. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا صوتهم وبكوا، فدعوا اسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب» (قضاة 1:2-5) فصعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم يدل عَلَى تغيير عظيم في معاملات الله مع بني إسرائيل، نظراً لعدم أمانتهم؛ لأن الجلجال كان موضع الاختتان المرموز بهِ روحياً إلى الحكم عَلَى الذات أمام الله، وما دامت محلتهم هناك كان الرب يمكنهم أن يخرجوا لمحاربة أعدائهم، ثم يرجعوا إلى محضر ملاك الرب الذي لم يزل باقياً هناك، وإذ ذاك كان من الأمور اللائقة أن يحفظوا محلتهم طاهرة لنظر الرب ولو كان غير منظور. ويجب علينا نحن كذلك أن نعرف أن نقيم روحياًّ في موضع الحكم على ذواتنا، ولا ندع شيئاً في وسطنا أو في نفوسنا لا يليق بقداسة الرب، وإلاَّ فلا يرافقنا بقوتهِ بالروح القدس الذي إذا أحزناهُ لا ينصرنا عَلَى أعدائنا بل يخجلنا ويبكينا (بوكيم) لفظة عبرانية ترجمتها باكون أو باكين، جمع باكٍ، فجعلوها اسماً للموضع الذي بكى فيهِ الشعب. كان سفر يشوع ممتازاً بإقامة ملاك الرب في الجلجال موضع القوة، وأما سفر القضاة فيمتاز بصعودهِ من هناك إلى موضع البكاءِ. ليتنا عرفنا معنى ذلك كما يجب في نفوسنا. كان بنو إسرائيل قد تغافلوا مهملين حضور الرب والتصرُّف اللائق بذلك، فتأنَّى عليهم زماناً طويلاً، ولم يمتنع عن أن يرافقهم ما دام فيهم إيمان ولو كان ضعيفاً، ولكن لما ظهر عدم إيمانهم كما ظهر في الإصحاح الأول ترك الجلجال وأخذ يعاتبهم عَلَى خيانتهم مصرحاً أنهُ لا يعود يطرد سكان كنعان من أمامهم بل يتركهم قصاصاً وامتحاناً لهم، فيوافقهم البكاء الآن. ومثلهم مثلنا؛ لأن شعب الله عموماً قد تغافل عن حضورهِ بالروح القدس بينهم، وأصبح لا في مكان القوة بل في مكان الضعف والبكاء، وإن كنا نحن من الأتقياءِ فلا يليق بنا أن نظهر القساوة وعدم الاكتراث والحال هكذا مع جماعة الله، بكوا وذبحوا هناك للرب، وكان تواضعهم عَلَى هذا المنوال حسناً وفي محلهِ.
«وصرف يشوع الشعب فذهب بنو إسرائيل كل واحد إلى ملكهِ لأجل امتلاك الأرض…الخ» (قضاة 6:2-10) أي كان يشوع قد صرف الشعب لأن الوحي يراجع هنا تاريخ إسرائيل في آخر حياة يشوع؛ لكي يوضح ارتدادهم وانحطاطهم في الوقت الحاضر. «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم، وسجدوا لها وأغاظوا الرب. تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروث، فحمي غضب الرب عَلَى إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم، ولم يقدروا بعد عَلَى الوقوف أمام أعدائهم، حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم، فضاق بهم الأمر جدّاً، وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم، ولقضاتهم أيضاً لم يسمعوا، بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها، حادوا سريعاً عن الطريق التي سار بها آباؤهم لسمع وصايا الرب، لم يفعلوا هكذا، وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي، لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم وزاحميهم، وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراءِ آلهة أخرى ليعبدوها ويسجدوا لها، لم يكفوا عن أفعالهم وطريقهم القاسية، فحمي غضب الرب عَلَى إسرائيل وقال من أجل أن هذا الشعب قد تعدُّوا عهدي الذي أوصيت بهِ آبائَهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضاً لا أعود أطرد إنساناً من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موتهِ؛ لكي أمتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها آباؤُهم أم لا، فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعاً ولم يدفعهم بيد يشوع» (قضاة 11:2-23) فلم يكن بكاؤهم وتواضعهم وسجودهم المارّ ذكرها إلاَّ وقتياً كما يبان من هذا الفصل المحزن،
الذي يوضح بالاختصار انحطاطهم ومعاملات الرب معهم قصاصاً لهم، لم يكن الآن أنهم انهزموا مرة أو مرتين أمام أعدائهم ثم عادوا وكسروهم، بل حمي غضب الرب عليهم فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد عَلَى الوقوف أمام أعدائهم، نعم أنهُ لم يزل يحبهم، ولكن اقتضى الأمر أنهُ يعرفهم ما هؤلاءِ الكنعانيين الذين كانوا قد تقاعدوا عن طردهم من أرض الرب، واختلطوا معهم فذاقوا المر بسببهم. كذلك نحن إذا تغافلنا عن قوة الشيطان في العالم، وعاشرنا العالميين ننحطّ روحياً بدون شك، وليس ذلك فقط بل يسود علينا إبليس ونختبر سلطانهُ بطرق كثيرة تأْديباً لنا إلى أن ننتبه ونصرخ إلى الرب، فلما ضاق بهم الأمر جدّاً ولم يكن لهم ملجأً سوى الرب، تحنن عليهم وأقام لهم قضاةً، فخلصوهم من يد ناهبيهم؛ لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم ومزاحميهم. ما أطول أناتهُ! وما أحنّ قلبهُ! إن تأملنا في معاملاتهِ مع شعبهِ القديم نتعلم ما هو إلهنا الذي أمرُنا معهُ، ويتقوى إيماننا، وإذ ذاك نستمد منهُ المعونة لأنفسنا ولاخوتنا أيضاً؛ لأنهُ لا يسر بمذلة شعبهِ. ولكن ما أقسى قلب الإنسان! لأنهُ يحيد عن الرب بكل سرعة مهما أظهر لهُ من اللطف وطول الأناة.
إننا نتعجب من سرعة حيدان إسرائيل عن الرب بعد إنقاذه إياهم من الضيق الشديد، عَلَى أن قصتهم ليست إلاَّ صورة قلوبنا نحن العديمة الثبات والسريعة الرجوع عن الرب، وبعد موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراءَ آلهة أخرى ليعبدوها ويسجدوا لها. لم يكفوا عن أفعالهم وطرقهم القاسية، كل من ينظر إلى حال النصارى عموماً ويقابلها مع كلمة الله يزداد تعجباً من هذا المنظر، وإن كان من الروحيين يحزن بقلبهِ حزناً شديداً بسبب تباعد شعب الله عن إلههم، وسلطة إله هذا الدهر عليهم من كل الجهات. وقدر ما كانت الكنيسة الروحية أعلى من دعوة بني إسرائيل بهذا المقدار كان انحطاطها أعظم، عَلَى أننا لا نقدر أن ندرك ذلك إن لم نكن سالكين مع الرب بالانفصال عن العالم؛ لأن القصاص الذي صار عَلَى الكنيسة هو أدبيّ لا ماديّ كما صار عَلَى إسرائيل، ولكنهُ ليس أقل حقيقة لكونهِ هكذا، والضربات المهولة المزمعة أن تنسكب عَلَى العالم خصوصاً العالم المسيحي تبرهن في وقتها أن غضب الله ليس أقل حموًّا الآن مما كان في الزمان القديم. فالويل ثم الويل للذين يحتقرون طول أناتهِ.
«فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل، كل الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان، إنما لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب، الذين لم يعرفوها من قبل، أقطاب الفلسطينيين الخمسة وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحوّيين سكان جبل لبنان من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة، كانوا لامتحان إسرائيل بهم؛ لكي يعلم هل يسمعون وصايا الرب التي أوصى بها آبائَهم عن يد موسى» (قضاة 1:3-4) إذا قابلنا هذا الكلام مع الكلام في آخر الإصحاح الثاني يظهر أنهما متخالفان؛ لأنهُ يقال هناك أن الرب ترك الأمم المذكورين قصاصاً لبني إسرائيل وأما هنا فيقال أنهُ تركهم لتعليمهم الحرب. فالأول خلاف الثاني لكنهُ لا يناقضهُ فلا اعتراض عَلَى ذلك؛ لأنهُ يمكن لله أن يستعمل حادثة واحدة لإتمام مقصد أو مقصدين أو أكثر من ذلك إذا شاء، نعم ترك هؤلاءِ الأمم قصاصاً لإسرائيل لعدم أمانتهم، ولما كان الأمر هكذا شاءَ أن يستعملهم لإتمام المقصد المذكور هنا، أي لتعليم أولاد الإسرائيليين الحرب؛ لأنهُ لم يزل يعاملهم كشعبهِ مع أنهم ارتخوا وجلبوا هذا القصاص عليهم. يجب عَلَى القارئ المسيحي أنهُ يلاحظ هذه الملاحظة لسد أفواه المعترضين في أيامنا الذين ينتهزون كل فرصة لينكتوا عَلَى كلام الوحي، وإن ظهرت لهم مناقضة بين قولين يفرحون كمن وجد كنزاً ثميناً، ويبادرون إلى أن يقلبوا إيمان البسطاءِ بينما لا يظهرون إلاَّ بغضهم لكلمة الله وعدم التفاتهم إليها كما هي. الكاف وقح بقدر ما هو جاهل ولا يدرس كلمة الله قاصداً الإفادة، ولا يقرأ إلاَّ بعض العبارات التي بلغهُ عنها لأن فيها مناقضات.