التحذير من احتقار الصغار
(عدد 10-14)
«انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار. لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات. لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك. ماذا تظنون؟ إن كان لإنسان مئة خروف وضل واحد منها أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتفق أن يجده فالحق أقول لكم أنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل. هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار» (عدد 10-14).
هذا الفصل أيضًا هو عن الصغار حقيقة. قد سبق الرب وأشار إلى جميع تلاميذه كالصغار (إصحاح 42:10) لأنهم متصفون بهذه الصفة بالنسبة إلى عظماء العالم. بل وينبغي فعلاً أن يكون فيهم بعض صفات الأولاد الصغار كما قد رأينا. على أنه هنا يُخاطب التلاميذ أنفسهم من جهة ما يجب عليهم من نحو الصغار حقيقة قائلاً «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار» وهذا يناقض أفكارهم العالمية من جهة الملكوت لأنهم كانوا يتصورونه نظامًا عالميًا يقتضي له أول كل شيء وزراء وأبطال حرب نظير مملكة داود وسليمان (صموئيل الثاني 23؛ ملوك الأول 4) وكان أمرًا بعيدًا عن فكرهم أن الأهمية العظمى فيه تكون للصغار بالحقيقة. وأن العظمة من قبل الله تكون لمن اتصف بصفاتهم فإنهم كانوا في تجربة أن يحتقروا الصغار وقد عملوا ذلك كما سنرى في (إصحاح 13:19).
«لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات» قال هذا ليبرهن على مكانتهم عند الآب ومحبته لهم.
«ملائكتهم» أي الملائكة المخصصون لخدمتهم (انظر أيضًا مزمور 11:91؛ عبرانيين 14:1) عن خدمة الملائكة لجميع ورثة الخلاص. قد استنتج البعض من قوله «ملائكتهم» أن كل واحد من الأولاد وكذلك كل واحد من المؤمنين له ملاك خاص به يحفظه. على إني لست أرى هذا الاستنتاج صوابًا. لأنه إذا اقتضت الحاجة في وقت ما يمكن لله أن يرسل جيشًا من الملائكة لحفظ ولد واحدا ومؤمن واحد (انظر ملوك الثاني 17:6، 18 حيث نرى الجبل مملوءًا خيلاً ومركبات نار للمحافظة على اليشع وغلامه. إن خدمة الملائكة تُنسب دائمًا إلى عناية الله لأجل حفظنا من الأخطار التي نتعرض لها من خارج ولا دخل لهم في الأمور الروحية.
«كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات» أي أنهم دائمًا يمثلون أمامه ليتقبلوا أوامره الخاصة بخدمتهم للصغار الضعاف في وسط مظالم هذا العالم وتشويشاته. ولا شك بأن هذا يصدق أيضًا على خدمتهم لورثة الخلاص جميعًا فإذا كان الملائكة لا يحتقرون الصغار بل يخدمونهم فكيف نحتقر نحن الصغار؟
«إن كان لإنسان مائة خروف وضل واحد منها إلخ» هنا يذكر الرب المَثل الجميل المعروف بمَثل الخروف الضال ويخصصه هنا بخلاصه للصغار. وأما في (لوقا 1:15-7) فيطلقه على خاطئ كان. وهناك كان توبيخًا للفريسيين أما هنا فتعليم للتلاميذ وهذا مما يبرهن لنا أن السيد كان يكرر أقواله وأمثاله بحكمته الكاملة بحسب اقتضاء الحاجة. وهذا لا يقلل من شأنه كمعلم بل يعظمه جدًا. لأنه إذا كرر أحد الأمثال عُرف في كل مرة كيف يستخرج منه. وهو مَثل واحد، وجه الشبه الخاص بالموضوع الذي كان في صدده، لإفادة السامعين وقوله «لأن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك» (ع11) يدل على أن الصغار كالكبار يحتاجون إلى مخلص لأنهم على حالة الهلاك وذلك لنسبتهم إلى آدم الأول ووراثتهم لطبيعته الساقطة (رومية 12:5). ولا يجوز لنا مطلقًا أن نًنسب خلاص الذين يموتون في طفوليتهم إلى طهارة طبيعية فيهم. لأن ذلك ضد كلمة الله على خط مستقيم «مَنْ يُخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد» (أيوب 4:14) انظر أيضًا (مزمور 5:51) وشهادات أخرى كثيرة جدًا تُصرح أن الجميع هالكون بحسب حالتهم الطبيعية ويصدق عليهم قول الرب «ينبغي أن تولدوا من فوق» (يوحنا 7:3). ولا نقدر أن نعلق خلاصهم أيضًا على إيمان والديهم. لأن الرب إنما يعلق ذلك على شخصه قائلاً «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك» ولأولاد المؤمنين امتيازات عظيمة جدًا من حيث كونهم ضمن الدائرة المسيحية التي فيها يعترف باسم الرب ولكن هذا ليس هو موضوع كلام الرب هنا لأنه إنما يخصص هذا المَثل الجميل لخلاص الصغار كهالكين (عدد 14).
«هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار». فما أجمل هذه الحقيقة! وما أبعدها عن أفكار التلاميذ وقتئذ! كان الآب قد أرسل ابنه لأجل الجنس البشري أجمع. ولم يغض نظره عن الأطفال الذين هم قسم كبير منه. قد حسب البعض أن ما يقرب من نصف المولودين يموتون وهم أطفال. وإن كانت هذه من المسائل الزهيدة عند عظماء هذا العالم فليست هكذا أمام الآب السماوي. ولا يُخفى أن الوالدين أنفسهم وإن كانوا متصفين بالحنو إنما يَنُوحون عند فقدهم الأولاد إلى حين نظرًا إلى إحساساتهم الطبيعية وقلما يفتكرون في كونهم خلصوا أو هلكوا بعد الموت. لأنه لا يوجد كثيرون منهم يهتمون بأمر خلاص أنفسهم، وإذ ذاك كيف يهتمون بخلاص أولادهم؟ حتى المؤمنين الأتقياء مقصرون جدًا من هذا القبيل. فإنهم أوقاتًا كثيرة يجتهدون في مصالح أولادهم الزمنية أكثر من الروحية. فإذًا إن جعلنا خلاص الأطفال يتوقف على إيمان والديهم يكون أساسه واهيًا جدًا. ولكن الحقيقة هي أن أساس خلاص جميع الذين يموتون أطفالا هو عمل المسيح الكفاري الكامل على الصليب، الذي مات كحمل الله ليرفع خطية العالم.
تسليم سلطان الربط والحل للكنيسة
(عدد 15-20)
«وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فَخُذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يَسمع منهم فقل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار». لا حاجة إلى تكرار القول أن الرب في هذا الفصل كله يعطي تلاميذه تعليمات لإرشادهم عند إقامة ملكوته وعند ابتدائه ببناء كنيسته أيضًا (إصحاح 18:16، 19) لأنه من الحقائق الواضحة أن العملين كانا مستقبلين بعد. وبدأ يوم الخمسين (أعمال الرسل 2). فالتعليم ليس لهم وحدهم بل لنا أيضًا باعتبار كوننا تلاميذ المسيح وخاضعين لسلطانه كربنا. ومجرد اعترافنا باسمه يقرننا مع تلاميذه الآخرين. ويقتضي أن نعاشرهم بالتواضع والمحبة، متجنبين التعدي عليهم في شيء، والأسباب التي من شأنها أن تعثرهم ولكنه يذكر هنا التعديات الشخصية وكيف يجب أن نعمل عند حدوثها.
«وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما إن سمع منك فقد ربحت أخاك» أنه من الأمور المُحزنة أننا لا نقدر أن نسلك معًا، رغم إننا إخوة مفديون بدم المسيح، بدون حدوث أسباب مكدرة لسلامنا. ومنها التعديات الشخصية أما بالكلام أو بالعمل وبحسب الطبيعة نغتاظ ممن تعدى علينا ونطلب الانتقام منه. ولكن نعمة الله تعلمنا أن نعمل خلاف الطبيعة تمامًا إذ وُضِعَت على الأخ المُذنب إليه أن يهتم قبل كل شيء برد نفس أخيه المُذنب ويذهب إليه على انفراد بالتواضع والمحبة فإنه ربما يقر بذنبه ويرجع عن طريق السوء الذي ابتدأ يتهور فيه. وإذ ذاك ينتهي الأمر إذ يُسامحه الأخ المُذنب إليه ولا يمتد الشر أكثر. ويكون له فرح لأنه قد ربح أخاه أي أرجعه عن شره إلى حالة تُناسب الشركة الروحية. أما إن عاتبه أمام الآخرين فقد يُعرضهُ هذا بالنظر لضعفه لأن يثور لِما إهدارًا لكرامته أمام الآخرين، أو على الأقل لأن يستحي من الإقرار أمامهم بخطئه، ولأن يأخذ في تبرير نفسه فيقسو قلبه ويتعسر رد نفسه.
ولنُلاحظ أن الرب يفرض إن الصعوبة هي في مُعاملة الأخ المُذنب لا المُذنب إليه. أما إذا وقعت مُخاصمة بين أخوين، وكان كل منهما يحاول أن يبرر نفسه ويستذنب الآخر فكلاهما على حالة رديئة ويستحقان توبيخ الآخرين ولكن هذا ليس هو الموضوع هنا.
«وإن لم يسمع فَخُذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة» فربما يَهَاب الأخ المُذنب بعض إخوته ويتواضع أمام الله ويقر بذنبه ولا شك بأنه يجب علينا أن نُميز مَن ومَن من إخوتنا يكونون أنسب لخدمة كهذه لأنه ليس للجميع منسوب واحد في الحكمة (انظر كورنثوس الأولى 5:6). ولا يليق بنا أن نأخذ معنا أخًا يُظن فيه أنه يُحابي بالوجوه أو يتحزب لأحد الفريقين لأن هذا مما يحرمه الثقة الأخوية من الجميع.
«وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة» إن كان المُذنب مُصممًا على طريقه ولا يخضع لأخويه اللذين زاراه برفقة الأخ المُذنب إليه وتكلما معه كما يجب، فعلى الأخ الأول أن يأتي إلى الكنيسة بدعواه. ويكون الآخران شاهدين له أمام الكنيسة أنه قد أفزع جُهده بروح المحبة ليُنهض ضمير الأخ المُذنب ويربحه.
«وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» أي يكون لك حق أن لا تُعاشره كأخٍ ما دام لا يسمع من الكنيسة. ولنُلاحظ جيدًا أن الرب لا يقول هنا ماذا يجب على الكنيسة أن تفعل في دعوى كهذه. لا شك أنها مُلتزمة بأن تعزل الأخ المُذنب المُعاند. «ألستم أنتم تُدينون الذين من داخل؟» (كورنثوس الأولى 12:5) على أن الرب لا يوضح هنا واجبات الكنيسة فإنه إنما يضع قوانين لإرشاد تلاميذه في تصرفاتهم الشخصية ويرى أن مسئوليتك الشخصية في دعوى الأخ المُعتدي عليك تنتهي عندما تبلغها للكنيسة ولا يسمع هو من الكنيسة، لأنه مهما حكمت الكنيسة بعد ذلك فليس عليك أنت أن تُعاشر الأخ المُذنب ما دام مُعاندًا للكنيسة.
يذكر الرب الكنيسة هنا باعتبارها معروفة لأنه سبق في (إصحاح 18:16) وقال انه مُزمع أن يبني كنيسته، وقد رأينا أنها مؤلفة من المؤمنين به المُعبر عنهم بحجارة حية، وكل قوة العدو لن تقوى عليها. كانت شيئًا جديدًا لم يسبق له مثيل. ومن لا يُسلم بذلك يناقض النصوص الإلهية الصريحة. ولفظة كنيسة تُعني جماعة وتظهر صفات هذه الجماعة مما ورد لنا في سفر الأعمال والرسائل في شأنها ولا ينبغي أن نبحث هنا في ماهيتها بالتفصيل لأن الرب إنما يُشير بكلامه هذا إلى وجودها وتبليغ بعض الدعاوى التأديبية إليها للفصل فيها. كان تلاميذه مُزمعين أن يجتمعوا معًا باسمه (عدد 20) بعد أن يُفارقهم. ويُسميهم وهم مُجتمعون هكذا «الكنيسة» أو الجماعة (قابل كورنثوس الأولى 23:14) وقد تم ذلك تمامًا كما نرى من يوم الخمسين فصاعدًا إذ انضم كل من آمن إلى الجماعة المُجتمعة (أعمال الرسل 42:2-47) ومن تزعزع في الإيمان ترك الاجتماع معها (عبرانيين 25:10) لأن حضوره إليها جلب عليه اضطهادًا من غير المؤمنين. فبقوله هنا«فقُل للكنيسة» يُشير إلى جماعة من تلاميذه معروفة في مكان ما بأنهم جماعة الله أو كنيسته في ذلك المكان (أعمال الرسل 23:14) كالكنيسة التي في كورنثوس أو أفسس مثلاً. ويجوز لنا أن نُسميها كنيسة محلية تمييزًا لها عن الكنيسة العامة أو جميع المُعترفين باسم المسيح في المواضع الأخرى. ونُميز أيضًا بين الكنسية كما تكلم عنها المسيح في (إصحاح 16) وكما هي موصوفة في بعض الرسائل خصوصًا في رسالة أفسس، وبين عموم المُنتسبين إلى المسيح في كل المسكونة، فالكنيسة بحسب تلك الشهادات مؤلفة فقط من أعضاء حية للمسيح، ولو أن الرب خاطب الجماعات المسيحية المحلية في مجموعها في آسيا مثلاً باعتبار أنها «الكنائس» (رؤيا 11:1) مع أن أحوالها على وجه الإطلاق أصبحت عارًا على اسم الرب كحالة المسيحيين بالاسم الآن. وإن كنا نستعمل لفظة الكنيسة عليهم عمومًا نعني بها ملكوت السماوات كما يوضحه إنجيل مَتَّى.
قد قال البعض أن الرب قصد أن يُقيم الكنيسة مَقام المجمع اليهودي من حيث ترتيبها، وأن الرسل قد رتبوها هكذا عندما أخذ المؤمنين يجتمعون معًا. وبناء على زعمهم هذا قد استنتجوا نتائج شتى وذهبوا كل واحد إلى إثبات الترتيبات الكنسية التي حسنت في عينيه. ولكن هذا الزعم غير صحيح للأسباب الآتي ذكرها:
أولاً- كانت في أيام الرب مجامع محلية لليهود في مدنهم وفي بعض المدن الأجنبية أيضًا كما لا يُخفى عند من طالع الأناجيل والأعمال. وكانوا معتادين أن يجتمعوا فيها كل سبت لقراءة التوراة ولكن المجمع اليهودي كان ترتيبًا بشريًا لأنه لم يرد ذكره في التوراة. وهذه الحقيقة تكفي وحدها لدحض الزعم بأن الرب أخذ منه شيئًا للكنيسة المسيحية. فضلاً عن ذلك أقول أن بداءة المجامع ليست معروفة ولا ترتيبها. على أنه من الأمور المؤكدة أنها إنما أُنشئت بعد سبي بابل ولم تتمكن إلا بعد زمان المكابيين 1 ويظهر أن ترتيبها كان يتغير من وقت إلى آخر كسائر الترتيبات البشرية. فكيف يتجاسر أحد على القول بأن الرب نظم الكنيسة على ترتيبها بينما لم ترد شهادات من كلمة الله عن ذلك. صحيح أن رؤساء المجامع استعملوا القطع إذ كانوا يُخرِجون بعض أشخاص خارج المجمع (يوحنا 22:9) ولكن ليس بسلطان إلهي لأن الله لم يُسلم القضاء إلا للكهنة (لاويين 3:13، 45، 46؛ أخبار الأيام الثاني 16:26-21) والحُكام (تثنية 18:21-21) في النظام الإسرائيلي. فإذًا من أراد أن يقيس على ذلك يتخذ قياسًا فاسدًا بلا أصل في كلمة الله التي لا تُشير أبدًا إلى أن الله كان يُصادق على حكم أولئك الرؤساء.
ثانيًا- الكنيسة أخذت روحيًا مقام الهيكل كرمز لها «أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ » (كورنثوس الأولى 16:3) وجميع المؤمنين هم كهنة (بطرس الأولى 5:2؛ رؤيا 5:1، 6)، قريبون من الله بدم المسيح بدون حجاب. ولا يُخفى أن الهيكل كان موضع السجود لله (يوحنا 20:4) ولم يخطر على بال يهودي أنه يقدر أن يسجد لله إلا هناك. وكان سجودهم مؤسسًا على الذبيحة التي بدونها لم يستطيعوا الاقتراب إلى الله. والكهنة لم يقدروا أن يمارسوا وظيفتهم إلا في الهيكل. وأما المجامع فلم تكن فيها مذبح ولذلك لم يكن اجتماعهم فيها للسجود البتة بل لأجل استماع كلمة الله. وكان ذلك من الأمور النافعة بدون شك ولكنه لم يكن أساسًا لترتيب الكنيسة.
ثالثًا- قد وردت شهادات كثيرة جدًا في الكتاب المقدس على ترتيب الكنيسة وعبادتها تُغنينا عن البحث في شأن المجامع اليهودية. ويتضح منها جليًا أنه إن أخذ شيء لها من النظام القديم على سبيل الرمز فلا يكون من المجمع بل من الهيكل والعبادة الكهنوتية (انظر كورنثوس الأولى 7:5؛ 13:9، 14؛ 15:10-18؛ أفسس 19:2-22) والرسالة إلى العبرانيين كلها فإنها تقرن ترتيب المسيحيين وعبادتهم كحقيقة مع المسكن والكهنوت اللاوي كرمز، لا مع المجمع مهما كان. ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام. فكل من يحاول أن يُثبت شيئًا في ترتيب الكنيسة زاعمًا أنها قامت مقام المجمع من بعض الوجوه فإنما يظهر عدم خضوعه لأقوال الله وجهله لماهية الكنيسة. راجع الشهادة الواردة في (كورنثوس الأولى 5) حيث ترى أنه كما تم في موت المسيح مدلول الفصح الوحيد الكفاري هكذا أخذ عشاء الرب الأسبوعي (أعمال الرسل 7:20؛ 42:2) موضع عيد الفصح السنوي التذكاري وكان يجب على المؤمنين في كورنثوس أن يجروا التأديبات الكنسية بالنظر إلى ذلك لأن مائدة الرب هي مركز لاجتماعنا ولعبادتنا ولأجراء كل ما يلزم من التأديب للمحافظة على طهارتها. وقد عزل الأخ المذنب من بينهم لكونهم جماعة مفدية بدم المسيح، نعم وهيكل الله أيضًا والقداسة تليق ببيته (مزمور 5:93).
«الحق كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء» (عدد 18. لا يُخفى أن هذا هو نفس القول الذي قاله الرب للرسول بطرس (19:16)، ولا يوجد أدنى ريب هنا بأنه قيل لكل جماعة محلية من المؤمنين بالمسيح كما قد رأينا في قوله «فقل للكنيسة إلخ» ويجب أن نلاحظ هنا:
أولاً- أن سلطان الرب لأجل الربط والحل مُسَلم للكنيسة. ويفرض هنا أن المؤمنين المجتمعين في مكان ما يستطيعون أن يحصلوا على معرفة أفكاره وحكمه في جميع المسائل التي يطلب منهم أن يحكموا فيها. فالواضح أنهم لا يباشرون عملاً كهذا بموجب وظيفة رسمية ولا بحسب حكمتهم البشرية التي هي جهالة في أمور الله «وأما نحن فلنا فكر المسيح» (كورنثوس الأولى 16:2) وإذا لم نؤمن بأن الكنيسة لها نور إلهي وإرشاد خاص من العلاء فقد أنكرنا حقيقتها الموضحة في الكتاب المقدس. وفضلاً عن ذلك أقول أنه إن كانت جماعة مؤمنين في مكان ما لا تقدر أن تعرف فكر المسيح في الدعاوي الواقعة في دائرة مسئوليتها حتى تحكم حكمًا صحيحًا باسم الرب فلا داعي لأن تحكم بشيء. لأنه لا يجوز مطلقًا أن نحكم بين أخوتنا أن لم نقدر أن نحكم بموجب أفكار ومشيئة سيدنا وربنا أو نقول ما نقوله باسمه. إني مُسَلَم كل التسليم بأن هذا الأمر يتطلب أن نكون روحيين سالكين مع الرب وهذا مطلوب منا في جميع تصرفاتنا سواء كانت اجتماعية أو فردية. ولكن هذه الأحكام هي مسئولتنا الدائمة باعتبارنا كنيسة الله في مكان ما. وإن لم نكن كنيسته فمن التجاسر والاختلاس أن نحاول إجراء شيء من الأفعال الكنيسة. وينتج من هذه الملاحظات أن العمل بوصفنا كنيسة والاجتماع والحكم باسم الرب ليس من الأمور الزهيدة. ومَنْ أسرع إليها بخفة أظهر أنه لا يفهم شيئًا منها. ومن اتخذ لنفسه مقامًا ممتازًا بين اخوته ليترأس عليهم فقد نسى أن الرب يحاسبه يومًا ما على عمله (يوحنا الثالثة). فلذلك ينبغي من الجهة الواحدة أن لا نجفل جنبًا من القيام بمسئولتنا ككنيسة الله في مكان ما. ومن الجهة الأخرى ينبغي لنا أن نحترس كل الاحتراس من أن نتخذ لأنفسنا ما لم يضعه الرب علينا لأنه يحب الكنيسة وقد بذل نفسه لأجلها وأقامها مقامه في العالم، فكيف يغض نظره عن سوء التصرف فيها؟ لو كانت نظامًا بشريًا كمجمع يهودي لكان من الأمور المحتملة أنه يُصادق على بعض الأشياء المُمارسة فيها كقراءة التوراة ويتغاضى عما سواها كما عمل في أيام حياته على الأرض، ولكن أمر الكنيسة ليس هكذا كما يتضح من مطالعتنا سفر الأعمال والرسائل. لأنه يغار عليها وقد جعل معها سلطان اسمه الجليل ووعد أنه يصادق على كل ما تَحكم به لمجده.
ثانيًا- السياسة المُعَبر عنها بالربط والحل تجري بمناسبة حدوث أسباب سيئة مكدرة لإزالتها وعلاجها. ويجب أن نذكر هذا. لأن الحكم يناسب المعصية. نشكر الله الذي من أجل نعمته المتفاضلة قد أنعم علينا بأشياء كثيرة جدًا لبنياننا لا دخل للربط والحل فيها فأعطانا كلمته العزيزة والروح القدس والمحبة الأخوية (رومية 5:5؛ بطرس الأولى 22:1) والوعظ والتعليم والصلاة والتبشير. ولا يخطر على بالنا أن نستعمل الربط والحل فيها. ولكن القداسة تليق ببيت الله ونحن بيته! ولا يمكن أن تَثبت الشركة الروحية أن تحفظ مما يَخل بها. فوضع الرب الربط والحل في الكنيسة لهذه الغاية.