فليراجع القارئ (أيوب 14:33-30) حيث توضيح لمعاملة الله مع الإنسان من هذا القبيل، يتكلم الله مع الإنسان مرة و مرتين ولكنهُ لا ينتبه، ثم يتخذ وسائط غير اعتيادية كالأحلام بالليل قاصداً بها أن يوقظهُ من الغفلة ويرجعهُ عن طريقهِ، ولكنهُ يستمر عَلَى عناد قلبهِ ثم يتلف الله جسدهُ بأوجاع إلى أن يتوب ويقول : «قد أخطأت وعوَّجت المستقيم» فعند ذلك يعود الرب يقيمهُ ويفرح قلبهُ. نعرف من مواضع أخر أنهُ ممكن أن التأديب يشتد حتى إلى موت جسد المؤْمن، أنظر ( أعمال الرسل 1:5-11) و( كورنثوس الأولى 5:5و11:30-34) و(عبرانيين 5:12-11) و( يوحنا الأولى 16:5و17) يجب أن نتقي الرب ونسلك بمخافتهِ يا اخوتي؛ لأنهُ ليس أقلّ غيرة عَلَى مجدهِ في الذين هم لهُ الآن مما كان في الأيام القديمة. ما أحزن حالنا إذا تمكن فينا العمى والعصيان! إلى أن لا يكون طريق لله أن يبقينا في الحياة بعد لمجدهِ، فإذ ذاك يكون موتنا أنسب من حياتنا، ليس المعنى أن موت جميع المؤمنين هو عَلَى سبيل التأديب؛ لأن الموت لا بد منهُ إن لم يأتِ الرب قبلُ، ولكنهُ أمر واضح من الكتاب أن الله بعض الأوقات يؤدّب شعبهُ حتى إلى الموت، كذلك النظام المسيحي في العالم بحيث أن الله صابر عليهِ مع جميع الإهانات التي صارت لمجدهِ بسببهِ، لكن متى كَمُل إثمهُ ينزعهُ الله بضرباتهِ مع أنهُ سينهي وجود النظام العالمي في ذلك الوقت نفسهِ ويبدئُ العالم العتيد الذي نتكلم عنهُ، ومن العلامات الدالة عَلَى قرب وقت الدينونة عموم النصارى قد فقدوا بصرهم واستعبدوا للعالم الحاضر الشرير
الفصل الثالث
(من الإصحاح 17إلى الإصحاح 21)
إن مقصد الوحي بهذا السفر يعطينا أخبار قضاة إسرائيل مع زلاتهم وسقطاتهم الشخصية، وقد انتهى تاريخهم مع شمشون الذي مع إنهُ أشهر القضاة كان أكثر اعوجاجاً منهم ولم يزل ينحط أدبياً حتى أصبح عَلَى حالة الذل والإهانة التي لا مزيد عليها، ولم يبقَ طريق لله أن ينجي قاضي إسرائيل ويحافظ عَلَى مجد اسمهِ تعالى إلاَّ أن يميتهُ مع جمهور من الأعداءِ. وأما الإصحاحات الباقية من هذا السفر فهي ملحقة فقط وتتضمن حوادث شتى ليس لها تاريخ خصوصي، فقط يقال عنها أنها حدثت في تلك الأيام التي لم يكن ملك في إسرائيل، وما يذكر فيها يوضح سوء حالة الشعب الأدبية عموماً، ومن حيث قصدنا الاختصار في الكلام عَلَى قدر الإمكان نسأَل القارئ أن يطالع هذه الإصحاحات في محلها، وهنا نقدم عليها بعض الملاحظات المختصرة فنقول.
أن الإصحاح السابع عشر يظهر امتداد عبادة الأصنام بين شعب إسرائيل، كان رجل من جبل أفرايم اسمهُ ميخا اختلس الفضة من أمهِ التي كانت قد كرستها للرب ولكن لأي عمل؟ لعمل تمثال منحوت وتمثال مسبوك الأمر المخالف عَلَى خط مستقيم لوصايا الله كما لا يخفى. فلم يكن اسم الرب منسياً بينهم، لكنهم أهملوا كلامهُ وأخذوا يضيفون طقوساً حسب استحسانهم وعبادة وثنية ونسبوا الكل لاسم الرب، وهذا طريق انحطاط شعب الله وابتعادهم عنهُ في كل جيل، بحيث أنهم لا ينكرون اسمهُ نكراناً ظاهراً، بل يخترعون طقوساً وفرائض مرتبة عَلَى حسب عقولهم المنحرفة وقلوبهم الغبية، لأن ممارسة الطقوس هينة عَلَى الإنسان إذ تجعلهُ يظن أنهُ ممكناً لهُ أن يبقى مستمراً عَلَى الإقرار باسم الرب، فيخدمهُ حسب شهوات قلبهِ التي لا تناسب النور الإلهي. فرد ميخا هذه الفضة لأمهِ فأعطتها للصائغ فعملها تمثالاً منحوتاً وتمثالاً مسبوكاً وكانا في بيت ميخا، وكان للرجل ميخا بيتاً للآلهة فعمل افوداً وترافيم وملأ يد واحد من بنيهِ فصار لهُ كاهناً. لا يقدر الإنسان أن يقف في طريق الانحطاط متى حاد عن كلمة الله؛ لأن إبليس يسوقهُ من شرٍّ إلى شرٍّ ولا يكون موقف لرجليهِ حتى يصل إلى جهنم النار. إن كانت عندك طقوس بشرية يلزمك كاهن بشري أيضاً، فلم تكن أفكار ميخا مطمئنة تماماً حتى صار لهُ كاهن من سبط لاوي ثم فرح قائلاً: الآن علمت أن الرب يحسن إليَّ؛ لأنهُ صار لي اللاوي كاهناً. كلما كان ترتيب أقرب إلى كلمة الله حسب الظاهر ولو كان عَلَى مبدأ فاسد ينغشُّ بهِ الإنسان أكثر؛ لأنهُ يظن بأن الله مضطرٌّ أن يصادق عليهِ لمجرد كونهِ منسوباً لهُ. نعم كان سبط لاوي مخصصاً لعبادة الله، ولكن حسب كلمتهِ تعالى تماماً لا حسب أفكار الناس. توهم ميخا أن وجود اللاوي كاهناً في بيتهِ يتكفل بحلول البركة عليهِ ولكنهُ إنما غش نفسهُ بأوهام باطلة كما يظهر من الإصحاح الثامن عشر؛ لأن كاهنهُ اللاوي لم يكن مفتكراً في صوالح بيت ميخا بقدر ما كان مفتكراً في صوالح نفسهِ أي في بطنهِ وشرفهِ العالمي، فإنهُ لما أتى الرجال الدانيُّون وعرضوا عليهِ أن يكون كاهناً لسبطٍ كامل خان سيدهُ الأول وأخذ الأفود والتماثيل وذهب بها طيب القلب (عدد 19و20) ولا عجب في ذلك لأنهُ كان من الرعاة الذين يرعون أنفسهم تاركين الغنم، فأصبح ميخا متكدراً محزوناً أخيراً بقدر ما كان مسروراً أولاً، وغير قادر أن يسترجع لا آلهتهُ ولا كاهنهُ من يد الدانيين (عدد 23-26)
ثم جاء بنو بليعال هؤلاءِ إلى لايش إلى شعب مستريح ومطمئن وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار (قضاة 27:18) ونصبوا هناك عبادتهم الأصنامية وأكثروا الكهنة وهكذا تقدموا بذلك إلى أن حان وقت قصاصهم فسبُوا من أوطانهم (قضاة 28:18-31) فيوضح الوحي زرع الضلال ونموّهُ أيضاً لأن الضلال يأتي بثمر. كانت عبادة الأصنام موجودة بكثرة في باقي أسباط إسرائيل، ولكنها صارت نظاماً في سبط الدانيين أولاً، وإذ ذاك أخبرنا الوحي بهذه القصة. كان محرّماً عَلَى إسرائيل أن يسجدوا لتمثال أو لشيء ما غير الله تعالى، ولكنهم عملوا ذلك وزادوهُ إهانة إذ كرّسوا كهنة لاويين ليجعلوا عبادتهم الكاذبة متعلقة باسم الرب ظاهراً مع أنها كانت شيطانية حقيقةً، ثم نرى قضاء الله العادل لم يتغاضى عن الذين تهاونوا بمجد اسمهِ؛ لأن لا جبروت الدانيين ولا نظامهم الصنمي خلصهم من القصاص الإلهي. ولا بد أن هذا القضاء نفسهِ يدرك النصارى عموماً لكونهم قد أهملوا كلمة الله وتهاونوا بمجد اسم المسيح بإضافتهم طقوساً وفرائض بشرية لا أصل لها في الكتاب ناسبين إياها لله مع أنها مخالفة لكلمتهِ بقدر ما كانت عبادة الدانيين مخالفة لها، نعم وأكثر من تلك نظراً إلى وجود نور الوحي الكامل عندنا.
ثم نقرأ في الإصحاح التاسع عشر قصة فظيعة يبان منها سوء حالة سبط بنيامين، فإنهم كانوا مفسَدين جميعاً متوغلين بفواحش ممنوع ذكرها نظير أهل سدوم وعمورة الذين أبادهم الرب بالنار والكبريت من السماءِ. إن عبادة الأصنام هي تعدٍّ عَلَى حقوق الرب، والظلم والفساد لنحو الإنسان أيضاً، وكلاهما أي التعدي عَلَى حقوق الله والظلم لنحو الإنسان ضدّ كلمة الله عَلَى حدٍّ سوى، ولكن بني إسرائيل لم يقشعرُّوا من عبادة ميخا كما اقشعروا من ظلم أهل بنيامين لنحو أخيهم الغريب الرجل اللاوي وسريتهِ؛ لأن الإنسان طبعاً يشعر بأن الظلم للبشر محرّم بينما يستخف بالتعدي عَلَى حقوق الله في عبادتهِ، فسمح الرب بحدوث ذلك العمل الفظيع في سبط بنيامين ليوقظ جميع الأسباط من غفلتهم ويبين لهم سوء الحالة التي كانوا قد وصلوا إليها. استعمل الرجل اللاوي المظلوم وسائط غير اعتيادية لا أريد أذكرها بالتفصيل لكي ينبه بها جميع الأسباط ويذكرهم أنهم شعب واحد وأن الظلم الذي صار لواحد منهم كان إهانة للجميع.
«فقام جميع الشعب كرجلٍ واحد وقالوا: لا يذهب أحد منا إلى خيمتهِ ولا يميل أحد إلى بيتهِ، والآن هذا هو الأمر الذي نعملهُ بجبعة عليها بالقرعة فنأخذ عشرة رجال من المائة من جميع أسباط إسرائيل، ومائة من الألف، وألفاً من الربوة لأجل أخذ زاد للشعب ليفعلوا عند دخولهم جبعة بنيامين بحسب كل القباحة التي فعلت بإسرائيل، فاجتمع جميع رجال إسرائيل عَلَى المدينة متحدين كرجل واحد، وأرسل أسباط إسرائيل رجالاً إلى جميع أسباط بنيامين قائلين: ما هذا الشرّ الذي صار فيكم؟ فالآن سلموا القوم بني بليعال الذين في جبعة لكي نقتلهم وننزع الشر من إسرائيل، فلم يُرِدْ بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت اخوتهم بني إسرائيل، فاجتمع بنو بنيامين من المدن إلى جبعة لكي يخرجوا لمحاربة بني إسرائيل» (قضاة 8:20-14)
حصلت منهم غيرة شديدة ولكنها كانت بشرية جسدية فقط؛ لأنهم بادروا إلى الحرب حسب حكمتهم غير طالبين الإرشاد الإلهي وغير معترفين بخطاياهم الخاصة قبل إجراء القصاص الواجب عَلَى اخوتهم المذنبين. نعم صعدوا إلى بيت إيل وسألوا الله قائلين: من منا يصعد أولاً لمحاربة بني بنيامين؟ كما في عدد 18، لكنهم فعلوا ذلك بعدما استعدُّوا وحضّروا كل شيءٍ حسب أفكارهم حينما كان الواجب أن يسألوا الرب قبل كل شيءٍ، فالرب جاوبهم حسب سؤالهم تاركاً إياهم ليجربوا حكمتهم ويكابدوا انكسارات ومشقات محزنة في إتمام العمل الذي ظهر لهم أولاً حسب حكمتهم أنهُ سهل جدًّا. مثلهم مثلنا أوقاتاً كثيرة إذ نهيئُ كل شيء لإجراء ما استنسبت حكمتنا ثم نطلب من الرب أن يرشدنا في إجرائهِ ويبارك عَلَى مشروعنا، ولكن لا بدَّ من مشقات وخيب الآمال في العمل ولو كان حسناً بذاتهِ؛ لأننا لم نطلب الإرشاد قبل كل شيءٍ من الرب، وإذ ذاك يجاوبنا الرب حسب حالتنا الروحية الدنية ويجعلنا نتعلم عدم حكمتنا غصباً عن جسارتنا وثقتنا الذاتية، ولا بد أخيراً أن يكمل مقاصده لكن ليس كما كنا ننتظر.
انكسر الجيش الوافر من الأسباط الأحد عشر، وانهزم أمام سبط بنيامين الصغير مرّة بعد أُخرى إلى أن «صعد جميع بني إسرائيل وكل الشعب وجاءُوا إلى بيت إيل وبكوا وجلسوا هناك أمام الرب وصاموا ذلك اليوم إلى المساءِ وأصعدوا محرقات وذبائح سلامة أمام الرب» (قضاة 26:20) كان الأليق بأنهم يعملون هكذا عندما بلغهم الخبر عن الشر الفظيع الحادث بينهم، إن إجراء التأْديب عَلَى اخوتنا إن أذنبوا هو من الأمور الواجبة غير أنهُ ينبغي لنا أولاً أن نتضع أمام الرب معترفين بخطايانا الخاصة ، فيكون الرب حينئذٍ معنا ويرشدنا بحكمتهِ الكاملة.
«وسأَل بنو إسرائيل الرب، وهناك تابوت عهد الله في تلك الأيام وفينحاس بن ألعازار بن هارون واقف أمامهُ في تلك الأيام قائلين: أَأَعود أيضاً للخروج لمحاربة بني بنيامين؟» (قضاة 27:20و28) هذا القول مما يؤكد لنا أن الحوادث المذكورة في هذه الإصحاحات الأخيرة حدثت قبل أيام القضاة المتقدم تاريخهم لأنها صارت في زمان كهانة فينحاس الذي عاش في أيام دخولهم إلى كنعان تحت قيادة يشوع. يكفي أن نقول أنهم صعدوا إلى بنيامين وضربوا بحد السيف جميع الرجال إلاَّ عدداً قليلاً نحو ست مائة رجل نجوا هاربين، ثم نرى في الإصحاح الأخير حزن الأسباط الآخرين عَلَى فقدان سبط واحد من إسرائيل واضطرمت الاحساسات الأخوية وحبهم لجنسهم واستعملوا الوسائط المقتضي استعمالها لحفظ سبط بنيامين من الاضمحلال.
نستفيد من هذه القصة المحزنة أولاً- أن حدوث شر بين شعب الله يجب أن يعتبر إذلالا للجميع، وثانياً- أننا لا نقدر أن نجري التأْديب عَلَى اخوتنا مهما كانوا مذنبين ما لم نتذلل نحن أمام الرب ونعترف بخطايانا، وإن بادرنا إلى ذلك حسب حكمتنا وغيرتنا البشرية لا ينتج سوى الانكسار والذل الزائد