الإصحاح الثامن
تجواله في الجليل
(ع1؛ إصحاح 23:4؛ مرقس 35:1-39؛ لوقا 42:4-44)
«ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة» (عدد 1).
قد وصلنا إلى فصل جديد من حياة المسيح بحسب إنجيل مَتَّى. وكل ما دوَّن قبله هو بمثابة مقدمة له. لأنه إنما أعد الطريق لأن يظهر المسيح نفسه لإسرائيل كملكهم إظهارًا رسميًا لكي يقبلوه أو يرفضوه.
قيل في خاتمة(إصحاح 7) «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال». لأنه في هذه الأقوال علم التلاميذ التعاليم الخاصة بمبادئ الملكوت كما سبق ورأينا. وكان هذا استعدادًا لمشاهدتهم الأعمال الآتي ذكرها والتي من شأنها أن تظهره وتبرهنه باعتباره «يهوه».
لا شك أنه مع القيام بالأعمال استمر يعلم أيضًا. ولكننا سنرى أنه بصفة خاصة أخذ من الآن فصاعدًا يجري أعمالاً في وسط إسرائيل على كيفية تؤكد لهم أنه المسيح ابن الله ملكهم حتى لا يكون لهم عذر إذا رفضوه (يوحنا 22:15-25) ولذلك أيضًا نراه في (إصحاح 10) يرسل تلاميذه لإسرائيل ليكرزوا إليهم به كملكهم مؤيدًا كرازتهم بالمعجزات. ولكننا بكل أسف نراهم رغم كل هذا يرفضونه رسميًا (إصحاح 12) ومن ثم يبتدئ من (إصحاح 12) فصل آخر من خدمته.
كانت أعماله المذكورة في (إصحاح 23:4-25) كافية لتبرهن لهم على أنه نبيِّ. فأجتمع كثيرون وراءه لكي يتعلموا وينالوا الشفاء. وأما في هذا الفصل فيقوم البرهان على أنه الملك، ومن ثم صارت المسألة العظمى الآن هي هذه: هل يقبلونه كعمانوئيل ملكهم، ابن داود الموعود به أم لا؟
شفاء الأبرص
(عدد 2-4؛ مرقس 40:1-45؛ لوقا 12:5-16)
«وإذا أبرص قد جاء وسجد له قائلاً يا سيد، إن أردت يقدر أن تُطهرني. فمد يسوع يده ولمسه قائلاً أريد فاطهر، وللوقت طهر برصه. فقال يسوع انظر أن لا تقول لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم» (عدد 2-4)
«وإذا أبرص» معلوم أن البرص المذكور في الكتاب القدس، مرض رديء جدًا، غير قابل للشفاء بالوسائط التي في متناول أيدي البشر، ومن ضُربَ به حُسِبَ نجسًا، وأُخرج خارج محلة إسرائيل، ومُنعَ عن معاشرة الناس. أولاً، لكونه مرضًا معديًا. ثانيًا، لكون المصاب به نجسًا بحسب شريعة موسى. انظر شريعة البرص في (لاويين 13، 14). وكان الكاهن الإسرائيلي قادرًا على أن يمَّيز علاماته ويحكم على الأبرص بالعزل ويفصله عن الآخرين. ولكنه لم يقدر أن يشفيه. كما أن شريعة الله المقدسة ( الناموس) تقدر أن تحكم على الخاطئ بالهلاك، ولا تقدر أن تخلصه. وأما يسوع المسيح قادرًا أن يُطهر الأبرص بكلمة واحدة كما هو قادر أن ويخلص الخاطئ المسكين أيضًا بنفس النعمة ونفس القدرة.
«جاء وسجد له»: علامة إيمانه بالرب يسوع لشفائه، وانكساره على حالته، ورغبته الملحة في الشفاء.
«أن أردت تقدر أن تطهرني»، كان هذا الأبرص المسكين مُتيقنًا أن يسوع قادر على أن يمنحه الشفاء، ولكنه تردد قليلا في أفكاره من جهة أُيريد شفاءه أم لا. ولما تقدم إليه أقر بإيمانه بقدرته، وصرح بعدم تأكده من إرادته.
«فمد يسوع يده ولمسه قائلاً، أُريد فاطهر. وللوقت طهر برصه». َجاوب الرب على تشكك الرجل في إرادته بقوله «أُريد»، وتنازل أيضًا، من لطفه، ومد يده ولمسه.
كان من لمس أبرص تنجس بحسب شريعة موسى (سفر العدد 2:5؛ 11:19) وأما سيدنا المبارك فلمس الأبرص، وعوضًا عن أن يتنجس به، طَهره.
«للوقت طهر برصه»، وبذلك تبرهن أن يسوع هو «يهوه المخلص». إله إسرائيل، حاضرًا في وسطهم في هيئة إنسان، لأنه كان معلومًا أن الله وحده هو الذي يشفي الأبرص (ملوك الثاني 7:5، ع8 حسب الحاشية)
«انظر لا تقول لأحد» نهاه عن أن ُيخبر الآخرين لأنه قصد أن أعماله هي التي تشهد له (يوحنا 36:5).
«بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى» لما كانت الشريعة قد حكمت على من طهر من البرص أن يَريِ نفسه للكاهن، ثم يقدم قربانًا لله (انظر لاويين 3:14، 4، 10)أمر المسيح الأبرص أن يفعل كذلك لأن المسيح لم يخالف الشريعة في شيء، ولا قاد الناس إلى مخالفتها،فالعمل الذي أمر به كان من واجبات كل إسرائيلي في حال كهذا.
«شهادة لهم» لأنه إن كان الكاهن الذي قد حكم على الأبرص أنه أبرص، يراه طاهرًا ويحكم عليه أنه طاهر، يكون بذلك قد صَادق رسميًا على عمل المسيح المُعجزي ويكون ذلك شهادة لهم، أي لإسرائيل، بأن إلههم حاضر في وسطهم.
«كان مرض البرص هذا رمزًا لائقًا للخطية باعتبارها نجسة، والأبرص رمزًا مناسبًا للخاطئ. ولذلك نرى في يسوع هنا نعمة «يهوه» إله إسرائيل، وقدرته أيضًا وقداسته غير القابلة للتدنس من لَمس الأدناس، وقد اقتربت جميعها في شخص يسوع إلى الخاطئ النجس لكي تُطهره من دنس خطاياه. فإن المسيح يقدر أن ينزع الخطايا بالنعمة ولا ينزع الخاطئ بالدينونة، بخلاف الناموس الذي يقدر على الثاني ولا يقدر على الأول.
شفاء غلام قائد المائة (عدد 5-13؛ لوقا 1:7-10)
«ولما دخل يسوع كفر ناحوم جاء إليه قائد مائة يطلب إليه ويقول يا سيد غلامي مطروح في البيت مفلوجًا متعذبًا جدًا. فقال يسوع، أنا آتي وأشفيه. فأجاب قائد المائة وقال ، يا سيد، أنا لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي. لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي. لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطان. لي جند تحت يدي. أقول لهذا، اذهب، فيذهب. ولآخر، إيت، فيأتي. ولعبدي، افعل هذا فيفعل». (عدد 5-9)
«قائد مائة»، كان هذا القائد أجنبي الجنس من رؤساء الفرق الرومانية المحتلة للبلاد، ولم له بحسب الطبيعة، حق في المسيح كابن داود. ولكن لما ظهرت الجودة الإلهية التامة في العالم مصحوبة بالقوة لتفريج ضيقات البشر، لم يكن ممكنًا حصرها في إسرائيل، بل كان لابد أن تتجاوز الحدود القديمة وتجري مجرى يليق بحضور الله، إله الكل.
«فقال له يسوع أنا آتي وأشفيه» (عدد 7)، يتكلم الرب هنا كمن له كل السلطان، وكل القدرة ليفعل ما يشاء.
«فأجاب قائد المائة وقال يا سيد لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي. لكن قل كلمة واحدة فيبرأ غلامي» (عدد 8 كان لهذا القائد الأممي إيمان في قلبه، بل وما ينتج عنه أيضًا من تواضع. ولذلك لم يقر بإيمانه بقدرة المسيح فقط، كما فعل ذلك الأبرص الإسرائيلي، بل وبعظمة شخصه أيضًا، ثم طلب إليه أن يقول كلمة واحدة، متأكد أنها تكفي لشفاء غلامه.
«لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطان.. الخ»، يعني أنه تحت سلطان من هو أعلى منه مرتبة، ومن ثم يعرف أن يُطيع أمره. كما له جندًا وخدامًا تحت سلطانه أيضًا، بأمره فيطيعونه طاعة كاملة. وهكذا أقر بإيمانه بأن الرب ذو سلطان مطلق وقادر أن يصدر أوامره فيطيعه كل شيء، حتى الأمراض أيضًا. فما أجمل إيمان هذا الرجل الغريب الجنس! فأنه لم يكن كاليهود محصورًا في دائرة الأفكار اليهودية الضيقة. ومن ثم لم يستحق أن يوبخ مثلهم بالثور الذي يعرف قانيه، وبالحمار معلف صاحبه بينما هم، وهم شعب الله، لا يعرفون خالقهم لأن إيمانه، ميز الخالق للكل والضابط للكل في شخص يسوع الوديع المتواضع، الذي جعل نفسه خادمًا للكل.
« فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعونه، الحق أقول لكم، لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا. وأقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في الملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك البكاء وصرير الأسنان» (عدد 10-12)
كان ابن الله قد أخلى نفسه واتخذ صورة ومركز عبد لتنفيذ مشيئة أبيه، حيث يقبل جميع الذين يجتذبهم الآب إليه. ولطالما خدم في إسرائيل ولم يجد فيهم إيمانًا كهذا الذي جده في ذلك الأممي. وهنا لأول مرة في هذه البشارة تلاقينا كلمة «إيمان». كان كثيرون منهم قد انتفعوا بقدرته، وقلما ميزوا جلال شخصه عندما حصلوا على الفرج من شدائدهم بواسطته وبهتوا من تعليمه ولكن بقوا مغلقًا عليهم في تعصبهم. تعجب يسوع من قوة إيمان ذلك القائد الأممي، وانتهز الفرصة ليُصرح لأول مرة بانضمام كثيرين من المم إلى الملكوت السماوات ليتمتعوا ببركات الله مع آباء الأمة الثلاثة المشهورين بإيمانهم، حينما يكون بنو الملكوت (أي اليهود) مطرودين منه إلى موضع العذاب. وليس من قصده أن يوضح كيفية اشتراك الأمم.
«ويتكئون مع إبراهيم.. الخ» هذا يدل على تمتعهم بالمجد السماوي لا على انضمامهم إلى الكنيسة على الأرض.
«ثم قال يسوع لقائد المائة، اذهب. وكما آمنت ليكن لك. فبرأ الغلام في تلك الساعة» (عدد 13) صار بحسب إيمانه. لأنه ليس ممكنًا للرب أن يُخيب الإيمان، ولا أن يجعل اليد التي امتدت إليه للمعونة ترجع فارغة.
الفرق في سرد الحادثة بين مَتَّى ولوقا
إذا قابلنا ما جاء هنا خاصًا بشفاء الغلام قائد المائة مع ما يقابله في (لوقا 1:7-10)، نرى أن الحادثة في لوقا مذكور بالتفصيل. ويتضح منها أن قائد المائة لم يحضر بنفسه إلى المسيح، بل أرسل وفدًا من شيوخ اليهود يطلب من المسيح عن يدهم. ثم لما كان المسيح ذاهبًا إلى بيت القائد، أرسل له أصدقاء يقر على فهمهم بعدم استحقاقه. ولكن لا يوجد في كلام مَتَّى ما يناقض ذلك لأنه يجوز القول أنه جاء بمعنى أنه جاء للذين نابوا عنه. فالوحي في مَتَّى يجعل الأهمية العظمى لإيمان الأجنبي الجنس، ولقبول الأمم ورفض اليهود وأما في لوقا، فيوضح صفات الرجل الأخرى أيضًا، كمحبته للأمة اليهودية، واعتباره لديانتهم. كما يوضح محبتهم له أيضًا. ولكنه لا يذكر شيئًا عن «ملكوت السماوات» لأن ذلك إنما يتعلق تعلقًا خاصًا بقصد الوحي في إنجيل مَتَّى.
أن كنا ُنتعب أنفسنا في محاولات لتوفيق كلام الأربعة البشيرين مع بعضهم، نصرف وقتًا كثيرًا ولا نجني سوى فوائد قليلة. ولكن إن كنا نميز قصد الوحي في كلام كل منهم، فإننا نستفيد أكثر لأننا نكون حينئذ تابعين قصد الروح القدس.
يوم آيات في كفر ناحوم
شفاء حماة بطرس
(عدد 14، 15؛ مرقس 21:1-31؛ لوقا 31:4-39)
«ولما جاء يسوع إلى بيت بطرس رأى حماته مطروحة ومحمومة. فلمس يدها فتركتها الحمى، فقامت وخدمتهم» (عدد 14، 15)
كان الإيمان في إسرائيل قليلا. ومع ذلك لم يزل الرب يخدمهم. دخل بيت بطرس وشفى حماته شفاء تامًا من الحمى التي كانت قد انتابتها حتى قامت في الحال وصارت تخدمهم.