قضاة – الإصحاح الرابع
دبورة النبية وباراق
فى كل عصر يبرزالرب دور النساء الإيجابى حتى لا يعشن فى حياة سلبية بل يقمن بدورهن وسط الجماعة ، وقد فاقت دبورة النبية والقاضية الكثير من القضاة أنفسهم .
( 1 ) سقوط إسرائيل فى الشر
عاد إسرائيل يعمل الشر فى عينى الرب فباعهم بيد يابين ملك كنعان الذى ملك فى عاصمة الكنعانيين " حاصور " وكان رئيس جيشه سيسرا ساكنا فى حروشة الأمم ، وبقى إسرائيل فى ضيق شديد لمدة عشرين عاما .
سيسرا تعنى " الخروج من الفرح " – إذ تكرر شر إسرائيل باعهم للتأديب بواسطة " سيسرا " أى بفقدان الفرح ، وهذا من أقسى درجات التأديب ، إذ يفقد الإنسان معية الرب واهب الفرح فيصير فى قلق داخلى وكآبة قلب لا ينزعها إلا عودة القلب إلى الله ليتقدم كمقدس له أو سماء تحمله فى داخله بروح الفرح والتهليل .
كان ملك كنعان أو رئيس " الضجيج "وعدم السلام ساكنا فى " حاصور " عاصمته أى كمن فى حصن ، يرسل إلى القلب ليحطم كل فرح فيه .
( 2 ) دبورة تحث باراق :
لقد عمل الله بأهود الرجل الأشول ، كما استخدم شمجر الذى لا يملك إلا منساس بقر يحارب به ، والآن يعمل بإمرأة أو كما يقول القديس أمبروسيوس بأرملة ، حتى يسند الكل رجالا ونساء ، المتزوجين والأرامل والعذارى ، فيكون لكل دوره الروحى فى حياة الجماعة المقدسة .
إن كنا نرى فى القضاة صورا متباينة لشخص السيد المسيح وعمله الخلاصى ، فإن دبورة تحمل صورة حية لكنيسة المسيح فى جوانب كثيرة منها :
أولا : من جهة الأسم تدعى " دبورة " أى نحلة ، وقد قيل عن الكنيسة كنحلة : " شفتاك يا عروس تقطران شهدا ، تحت لسانك عسل ولبن " ( نش 4 : 12 ) ، يليق بنا ( كالنحلة ) أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها ، ونجمع من كل منها مخازننا التى للحكمة ، فهى كالعسل داخل مخازن الخلايا الشمعية .
ثانيا : إسم رجلها " لفيدوث " وهو جمع مؤنث للكلمة " لفيد " أو " لبيد " وتعنى " مشرق أو مصباح أو مشعل " أما عريس الكنيسة فهو ذاك الذى قال : " أنا نور العالم " ( يو 8 : 12 ؛ 9 : 5 ) . إنه يشرق فى كنيسته لكى تستنير به ( مت 5 : 14 ) .
ثالثا : كانت دبورة " جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل فى جبل أفرايم " ( ع 5 ) . ما هذه النخلة التى دعيت بأسمها ، وكانت تجلس تحتها ليصعد إليها الرجال للقضاء ، إلا خشبة الصليب التى تحدثت عنها الكنيسة العروس ، قائلة : " تحت ظله إشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة فى حلقى " ( نش 2 : 3 ) .
كأن جلوسها تحت الصليب قد وهبها ثمرا متكاثرا ، إذ كانت تجلس على المرتفعات ( الرامة ) فوق هموم العالم وإغراءاته ، عند بيت إيل أى فى بيت الرب لتنعم بمعيته على الدوام . ما أحوجنا أن نكون كدبورة نعمل بغير إنقطاع فى دائرة الصليب ، مرتفعة قلوبنا إلى السمويات ومنطلقة إلى بيت الله الأبدى فننعم بثمر الروح المتكاثر .
رابعا : تشير دبورة إلى الكنيسة فى حث أولادها على الجهاد الروحى ضد إبليس وأعماله الشريرة ، أى الرجاسات والخطايا ، فقد أرسلت دبورة إلى باراق بن أبينوعم من قادش نفتالى تطالبه بالزحف على جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل من بنى نفتالى ومن بنى زبولون لمحاربة سيسرا جيش يابين .
يرى البعض أن باراق هو إبنها ، بينما يرى بعض الحاخامات اليهود أن باراق نفسه هو لفيدوت زوجها ، إذ أن لفيدوت كما قلنا يعنى مبرق أو مشعل . والمعنى يقترب من كلمة باراق التى تعنى برق أو بارق . وقد دعى هكذا بسبب نشاطه وسرعة حركته خاصة فى الحروب ، يتحرك كالبرق الخاطف .
يرى القديس أمبروسيوس أن دبورة نجحت فى عملها كقاضية خلال نجاحها فى حياتها العائلية ، إذ قدمت إبنها باراق رجلا ناجحا ، وسلمته لقيادة الجيش بالرغم من المخاطر التى قد تلاحقه .
دبورة قدمت إبنها قائدا للجيش لنعرف أن أرملة استطاعت أن تدرب مصارعا ، علمته كأم ، وامرته كقاضية ، بشجاعتها دربته وكنبية قدمته للنصرة ..
لقد حثت دبورة باراق – أيا كانت قرابته لها – لا لينطلق وحده وإنما ليأخذ معه عشرة آلاف رجل من بنى نفتالى ومن بنى زبولون لمحاربة سيسرا المنجذب إلى نهر قيشون ، فيدفعه الرب ليديه .
يليق بكل مؤمن أن يكون كباراق فى جهاده الروحى .
( 3 ) دبورة تقتل سيسرا :
طلب باراق من دبورة أن تذهب معه ، فقالت له : " إنى أذهب معك غير أنه لا يكون لك فخر فى الطريق التى أنت سائر فيها ، لأن الرب يبيع سيسرا بيد إمرأة " ( ع 9 ) . أرادت دبورة أن تحث باراق للخروج للحرب لكنه إذ أصر على خروجها معه قبلت ، وبروح النبوة قالت : " لأن الرب يبيع سيسرا بيد إمرأة " ، فقد ظن باراق أن دبورة تتحدث عن نفسها ، غير أنها فى الواقع غالبا ما كانت تقصد ياعيل إمرأة حابر القينى التى قتلت سيسرا فى خيمتها بالوتد .
ياعيل الأممية ترمز إلى كنيسة الأمم المنتصرة ....
يروى لنا الكتاب المقدس قصة نصرة ياعيل ( كنيسة الأمم ) على سيسرا هكذا :
أولا : " دعا باراق زبولون ونفتالى إلى قادش وصعد ومعه عشرة آلاف رجل ، وصعدت دبورة معه " ( ع 10 ) . لم نسمع فى بداية الأنطلاق عن دور قامت به ياعيل ( الأمم ) إنما قام باراق الذى يمثل آباء اليهود الذين أبرقت فيهم نبوات العهد القديم ، وإنطلق معه دبورة ( روح النبوة ) ... وكان بدء الإنطلاق مع زبولون ونفتالى ( أى القلب المتسع كمسكن لله ) ، من قادش التى تعنى ( قداسة ) . وكأن هذه البداية تمثل جهاد رجال العهد القديم خلال روح النبوة لينطلقوا للحرب خلال الحياة التقوية المقدسة .
ثانيا : يأتى الكتاب بعبارة إعتراضية تهيىء الذهن للتعرف على ياعيل زوجة حابر القينى ، إذ يقول : " وحابر القينى إنفرد من قايين من بنى حوباب حمى موسى وخيم حتى إلى بلوطة فى صنعايم التى عند قادش " ( ع 11 ) .
لعل حابر هذا يمثل بعضا من الأمم الذين بحب الناموس الطبيعى عرفوا الرب ، لكنهم لم يتخلصوا من التحالف مع الكنعانيين إذ كانوا يسلكون فى الرجاسات ، حتى انطلقت منهم " ياعيل " أى كنيسة الأمم تقتل إبليس " سيسرا " وترفض رجاساته وعباداته الوثنية .
ثالثا : " قالت دبورة لباراق : قم ، لأن هذا هو اليوم الذى دفع فيه الرب سيسرا ليدك . ألم يخرج الرب قدامك ؟! " ( ع 14 ) .
كشفت دبورة عن سر النصرة لباراق ألا وهو التمتع بالقيامة مع الرب القائم من الأموات ، محطم إبليس وجنوده ، إذ قالت له " قم " .
رابعا : " فنزل باراق من جبل تابور ووراءه عشرة آلاف رجل " ( ع 14 ) .
كان باراق على جبل تابور كمن هو فى حصنه ومأمنه ، وكأنه كان مع التلاميذ الذين رأوا الرب متجليا هناك فقالوا على لسان الرسول بطرس : " جيد يارب أن نكون ههنا " . وقد أمرهم الرب بالنزول ليحمل الصليب ويحملونه معه ، فيعلن بقيامته نصرته على سيسرا ، واهبا الغلبة لتلاميذه فيه .
خامسا : " فأزعج الرب سيسرا وكل المركبات , وكل الجيش بحد السيف أمام باراق ، فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه " ( ع 15)
لم يكن باراق يملك مركبات حربية مثل جيش سيسرا ...
وكان تعداد جيشه عشرة آلاف رجل ، أما جيش سيسرا فكان يقدره يوسيفوس بـ 300 ألفا من الرجال ، وبعشرة آلاف فارس ، ... ولكن الله كعادته لا يخلص بالإمكانيات البشرية الجبارة وإنما إذ تقدم صفوف شعبه أرعج العدو . ويقال أن العدو إذ رأى الجيش ينزل عليه بغتة أضطرب وصار فى حيرة فهربوا فكانت المركبات تصطدم معا فاضطروا إلى تركها والسير على الأقدام ، خاصة وأن يوسيفوس يقول بأن مطرا غزيرا تساقط وبردا عظيما أفقدهم التدبير فى الأمر ، فكان الإسرائيليون يلاحقونهم ، وكأنهم يترنمون مع المرتل قائلين : " هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فبإسم إلهنا نذكر " ( مز 20 : 7 ) .
هكذا غلب باراق ورجاله سيسرا وجيشه لا بكثرة العدد أو الإمكانيات وإنما بإسم رب الجنود .
سادسا : " خرجت ياعيل لأستقبال سيسرا وقالت له : مل يا سيدى ، مل إلي ، لا تخف . فمال إليها إلى الخيمة وغطته باللحاف " ( ع 18 ) .
ظن سيسرا أن إختبائه فى خيمة إمرأة ، سيبعد عنه عدوه .. حيث لا يظن أحد أنه فى ضيافتها لكونها إمرأة !
إن كانت الخيمة تمثل الجسد الذى إستضاف بشهواته إبليس ، فخلال النعمة الإلهية يعلن الإنسان جحده لعدو الخير وكل أعماله فيتقدس الجسد القاتل للشهوات والحامل لروح الرب فيه .
طلب سيسرا قليلا من الماء فأعطته لبنا مختمرا ، وكأنها قد أسكرته حتى يغط مع التعب الشديد والإرهاق فى نعاس ثقيل فتحقق خطتها .
وأثناء نومه ضربته بالوتد الخشبى فى صدغه لينفذ إلى الأرض وهو مثقل نوما فيموت ..
بمعنى آخر لتمت شهوات إبليس فينا بيد الكنيسة عروس المسيح الحاملة للصليب ( الوتد )
+ + +