وا أسفاه! على أهل الناصرة وعلى إسرائيل أجمع؛ لأن المشرق من العلاء قد افتقدهم فبعد الانتباه المؤقت إليهِ، رفضوا نورهُ البهيج اللطيف. فنرى في أول هذا الفصل أنهم تعجبوا من كلمات النعمة الخارجة من فمهِ، وأما في آخرهِ فأنهُ جاز في وسطهم ومضى. حضر ابن الله بينهم ولم يعرفوهُ. فذاك المجمع في الناصرة يمثَّل حالة إسرائيل والعالم أيضًا. كلام النعمة يؤثر في قلوبنا الصلبة إلى حين، ولكن لابدَّ من تهييج الغضب بعد ذلك إن كنا لم نقنع قبلاً باحتياجنا إلى خلاص الله الذي أعلنهُ لنا بواسطة يسوع الوديع المُتنازل أن يُخاطبنا بألفاظهِ المملوءة من النعمة.
جلس الرَّبِّ ليعطيهم الفرصة لكي يجزموا في ما سمعوهُ فأخذت أفكارهم تحتجُّ وتتردد. كانوا من الجهة الواحدة متأثرين من كلامهِ وأما من الجهة الأخرى فعثروا في شخصهِ إذ عرفوهُ كابن يُوسُف فقط. فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب، اشفِ نفسك. كم سمعنا أنهُ جرى في كفر ناحوم فأفعل ذلك هنا أيضًا في وطنك. ظهرت فيهم أفكار متخالفة، ولكن الكبرياءُ سادت على الجميع. كان قد بلغهم أنهُ أجرى آيات كثيرة في كفر ناحوم فإن كان هو من الأشخاص الشهيرين فلماذا لا يطلب أن يشتهر في وطنهِ فيكون لهم حينئذٍ نصيب في شهرتهِ. إن كان طبيبًا، فليشفِ وطنيَّهُ قبل الكل فيصير اسمٌ لمدينتهم، وبالقليل يتسلُّون بمشاهدة العجائب. آه! كم من الأفكار الرديَّة والأغراض الشخصية، تختلَّج وتتلاطم معًا في القلوب المُفتخرة المُبتعدة عن الله. وقال الحق أقول لكم أن ليس نبيٌّ مقبولاً في وطنهِ. أرادوا يعتبروهُ كطبيب لو سايرهم في شرف الوطن يعني المصالح الناتجة منهُ لأجسادهم تكون مقبولة إذا أراد أن يحضر بينهم كإنسان شهير يتنازل أن يحسن إلى المُصابين، ولكنهُ أراد أنهم بالقليل يقبلونهُ كنبيّ آتٍ إليهم بكلمة الله الصادقة التي من شأنها دائمًا وأبدًا، أن تنخس الضمائر وتحضرنا أمام الله كخطاة متدنسين. ثمَّ فكَّرهم بحقيقة معلومة جيدًا في إسرائيل، أنهم لم يقبلوا أحد الأنبياء الحقيقيين بل رفضوهم وأهانوهم. ولكنهُ لم يتكلم كثيرًا هنا عن هذا الموضوع بل بادر إلى إيضاح حقيقة أخرى أغاظتهم أكثر من ذلك لما سمعوها: وهي أن نعمة الله ليست عتيدة أن تمكث مع إسرائيل إذا رفضوها، فأنها تطلب الأمم أيضًا. كانوا في حالة سيئة من كل الأوجه في أيام إيليَّا النَّبيَّ، فلما اضطهدوا النَّبيَّ، ورفضوا كلامهُ شاء الله ، وأرسلهُ إلى الأمم فاظهر إحسان الله لبعض فقراءهم، أي لأرملة مسكينة وبيتها، وقصد الرَّبِّ بذكرهِ هذه الحادثة؛ أن يُريهم صفات النعمة الإلهية التي لابدَّ أن تُجري مجراها المُطلق بين الناس، ولا تطلب إلاَّ المُحتاجين إليها. وكذلك في أيام أليشع النَّبيَّ لا نسمع عن تطهير أبرص واحد في إسرائيل، ولكنه شفى الأممي الذي أتى إليهِ ليطلب الشفاء. كانت قوة الله في أنبيائهِ كافية لشفاء إسرائيل أيضًا، ولكنهم لم يقبلوا كلمتهُ. راجع الحادثتين المُشار إليهما فنرى أنهُ كان مطلوبًا من الأرملة ثمَّ من نعمان السرياني أن يقبلا كلمة الله. كانت الأهمية العظمى لذلك. وهكذا كان يجب على أهل الناصرة، وعلى غيرهم أيضًا أن يقبلوا كلام المسيح لكي يتمتعوا بقوتهِ ولكنهم لم يفعلوا ذلك. لم يقدر اليهود أبدًا أن يطيقوا سماع الخبر بانتشار النعمة للأمم. فامتلأُوا غضبًا وحاولوا أن يعدموا المسيح الحياة. كانت مدينتهم مبنية على حرف الجبل فأتوا بهِ إلى موضع مُناسب لقصدهم لكي يطرحوهُ إلى أسفل، ولكنهُ خرج من وسطهم ومضى إلى مواضع أخرى. التعليم بالنعمة يُهيج غضب الناس المُعتدّين ببر أنفسهم أكثر من كُلِّ ما سواهُ. ولكن النعمة إذا رُفضت من موضعٍ ما تذهب إلى جهة أخرى.
31 وَانْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي السُّبُوتِ. 32 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. 33 وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ 34 قِائِلاً:«آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!». 35 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً:«اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!». فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسْطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا. 36 فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذِهِ الْكَلِمَةُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ!». 37 وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ. (عدد 31-37).
يجب أن نلاحظ مقصد الوحي الخصوصي في هذا الإنجيل لكي نتتبع الكلام باعتبار قرائنهِ. فقد قلت سابقًا أن الروح القدس ألهم لوقا ليدرج ما يتعلق بالنعمة التي أُعلنتْ بشخص المسيح وكلامهِ. وقد رأينا في هذا الإصحاح بعض صفات النعمة بحيث أنها تناسب المساكين، والمنكسري القلب، ومع أنها افتقدت إسرائيل أولاً، لم تكن تراعيهم نظرًا إلى امتيازاتهم بل بالنظر إلى فقرهم وسوء حالتهم. وكلما رفضوها مضت في طريقها الخاصة لتطلب غيرهم. كان أهل النَّاصرة كغيرهم من الجليليين محتقرين عند أخوتهم في اليهودية من أجل اختلاطهم مع الأمم، ولكن سكان المدن المُحيطة ببحر الجليل كانوا أوطى من أهل النَّاصرة فعاد الرَّبِّ، وانحدر إليهم، ويظهر أنهُ كان لهُ القبول عندهم في الأول فكان يخدم بينهم، ثمَّ ألتزم بعد ذلك: أن يُنادي بالويل عليهم لأنهم لم يتوبوا مع أنهُ صنع بينهم أكثر قواتهِ. ولكننا نرى في هذا الفصل أن المقام الأول هو لتعليمهِ، ثمَّ بعد ذلك: نراهُ يواجه قوة الشيطان في أجساد النَّاس إذ اخرج الأرواح النجسة، واظهر انتصارهُ على رئيسهم. وهذه الأرواح عرفتهُ كقدوس الله، مع أن أهل وطنهِ لم يقبلوهُ حتى كنبي. ولما حاولت أن تشهد لهُ انتهرها لأنهُ لم يكن مُحتاجًا إلى شهادتها ولا إلى شركتها في خدمة النعمة.
وَلَمَّا قَامَ مِنَ الْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. 39 فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي الْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدُمُهُمْ. 40 وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. 41 وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ:«أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ!» فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ. (عدد 38-41).
الحادثة المذكورة هنا ليست في محلّها تاريخيًّا لأنها جرت بعد دعوة سمعان. (انظر مَتَّى 18:4، 22؛ 14:8، ولكنه ليس من مقاصد الوحي في هذا الإنجيل أن يعطينا حوادث حياة المسيح باعتبار قرائنها التاريخية فأنهُ إنما يذكرها لكي يعلن حقيقة شخصهِ، وعظم النعمة الظاهرة بهِ. ولا عجب من ذلك لأن المؤَلفين يتخذون منهجًا كهذا إذا كانت غايتهم إظهار موضوع خصوصي واستخراج بعض فوائد منهُ وليس تأليف كتاب تاريخي.
2وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ الْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ. 43 فَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضًا بِمَلَكُوتِ اللهِ، لأَنِّي لِهذَا قَدْ أُرْسِلْتُ». 44 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ الْجَلِيلِ. (عدد 42-44).
ظهرت القوة في الذي نعمتهُ لم تجد قبولاً ومشاهدة العجائب لم تفعل في الناظرين إلاَّ تحريك أفكارهم العالمية. وأما هو فبعد تكميل خدمتهِ اعتزل عنهم، ولمَّا فتشوا عليهِ ووجدوهُ قال لهم: أنهُ ينبغي أن أُبشر المدن الأُخر أيضًا بملكوت الله لأني لهذا قد أُرسلتُ. لاحظ أنهم لم يطلبوهُ من أجل ذاتهِ بل من أجل بعض أعمالهِ فقط، ولكنهُ لا يذكر هنا عدم إيمانهم بشخصهِ بل تركهم ليكرز في نواحي الجليل. لأن الأهميَّة هنا كما قد رأينا هي للكرازة المُتصفة بالنعمة. نرى أن العداوة لله، ومسيحهِ تتسلط على قلب الإنسان في هذا العالم. لا شك بأن صوت النعمة الحلو يقدر أن يسرَّهُ ويليهيهُ إلى حين ولكن السرور العقلي بكلمة الله لا يدوم بل يتحوَّل إلى البغض متى تهيَّجتْ الشهوات. مثَّل: الصلّ الأصمّ يسدُّ أذنهُ الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رُقي حكيم (مزمور 4:58. هذا العالم وأباطيلهُ ألذَّ للإنسان من بشارة الإنجيل. أهل النَّاصرة فضَّلوا شرف وطنهم وجنسهم على حضور ابن الله في وسطهم. وكفر ناحوم والمدن المُجاورة لها، ارتفعت إلى السماء من جهة امتيازاتها العظيمة إذ تردَّد ابن الله بينها مدة طويلة، ولكنها أُهبطتْ إلى الجحيم بعد ذلك لأنها لم تتُب. قال الحكيم: المُتكل على قلبهِ هو جاهل (أمثال 26:28 لأنه لا يوجد في قلب الإنسان أقل شيء يمكن لله أن يأتمنهُ. كثيرون آمنوا بيسوع إيمانًا عقليًّا لمَّا نظروا عجائبهُ، ولكنهُ لم يأتمنهم على نفسهِ لأنهُ كان يعرف ما هو الإنسان؟ وماذا فيهِ؟. لا يوجد شيءٌ صالح في ذرية آدم. فيحتاج الجميع أن يولدوا من فوق. الاحساسات الحسنة، والعزائم الجيدة لا تكفي وحدها. قد رأينا أن التعُّجب من كلام النعمة في مجمع الناصرة لم يثبت لما هاجت أعماق القلوب تكُّبرًا. فلم يلبث أن يُبدَل بالبغض القاتل. فينبغي يا أخوتي: أن نعرف شقاوتنا واحتياجنا الشديد إلى نعمة الله، ثمَّ نأتي إليهِ ونعرفهُ كما قد أعلن نفسهُ لنا بابن محبتهِ. وحينئذٍ نرى أن كلامهُ يوافقنا، وكما أنهُ يبشرنا بمغفرة خطايانا أولاً، هكذا أيضًا فيما بعد لا يزال يبنينا ويعزينا بكلمتهِ. لا نقدر أن نثبت بقوتنا فينبغي أن نستمدَّ القوة من فوق بشركتنا مع الله بواسطة كلمتهِ وبمساعدة الروح القدس. ونرى في هذا الإصحاح من أولهِ إلى آخرهِ المقام العظيم الذي لكلمة الله سواء كان لدفع تجارب إبليس أو لإعلان المسيح نفسهُ للناس كمصدر المعونة والخلاص