ستين غلوه مسافة سبعة أميال ونصف. لاحظ أن لوقا لم يذكر بعد ظهور الرب لأحدٍ. معلوم أنهُ ظهر على هيئات مختلفة موافقة لأفكار الذين ظهر لهم لكي يزيل شكوكهم ويُطمن قلوبهم. ربما كان الاثنان المُشار إليهما هنا راجعين إلى بيتهما إذ ظنَّا أن رجاءهما بالمسيح قد انقطع إلى الأبد فما بقى عليهما شيءٌ الآن يرجعا إلى بلدهما ونراهما مغلوبين من الحزن وعدم الإيمان. وكان يتكلمان أحدهما مع الآخر عن جميع هذه الحوادث. كان فيهما إخلاص النية ولكن الأفكار القديمة اليهودية ملأت قلوبهما ومنعتهما عن أقل تعزية لأن اليهود الأتقياء انتظروا بركاتهم بدون الموت وعلى الأرض الموضع الذي يسطو الموت عليهِ ولكم يخطر ببال التلاميذ بعد أن الرب مزمع أن يبدأ لهم موضعًا جديدًا عبر الموت حيث ملك الأهوال لا يدخل ليفسد بركاتهم ويُعكّر كأس تعزيتهم. فالحديث عن الموت وعملهِ لا ينفعنا مادُمنا لا نعرف الرب غالبًا عليهِ روحيًّا بالقيامة. وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسهُ وكان يمشي معهما. ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفتهِ. فكان ذاهبين من أُورشليم فترافق الرب معهما على هيئة إنسان مسافر عن أُورشليم. كانت أفكارهما مُنشغلة في ملكوت أرضي مركزهُ أُورشليم ولما خاب انتظارهما بحسب الجسد أدارا قفاهما للمدينة واتجها إلى جهة أخرى وترافق معهما يسوع لأنهُ كان مُنطلقًا إلى جهة أخرى. راجع قولهُ السابق للذين كانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال. فقال: إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسهِ مُلكًا ويرجع (إصحاح 12:19). فمن جهة إقامتهِ مُلكهُ بالفعل ينبغي لإسرائيل ولنا نحن أيضًا أن نعرفهُ على هذه الهيئة. فذهب إلى كورة بعيدة بطريق الصليب والقيامة نعم والصعود أيضًا ليأخذ لنفسهِ ملكوتًا أمجد جدًّا مما كان في أفكار ذينك التلميذين الماشيين معهُ في الطريق بكآبة القلب وعبوسة الوجه. لم يفهما بعد معنى شقّ حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل فبقى البرقع اليهودي على قلوبهما ومنعهما عن معرفة سيدهما المُقام. فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان بهِ وأنتما ماشيان عابسين. لم يزل الرب مُعلَّمًا لتلاميذهِ ونرى حكمتهُ ولطفهُ فإنهُ أعطاهما فرصة ليظهرا حالة أفكارهما المُضربة وسبب حزنهما الثقيل. ونرى هنا أيضًا أنهُ مَتَى كانت نية تلاميذهِ مُستقيمة يُبادر إلى تتميم وظيفتهِ كمُعلِّم وهذه الحقيقة عظيمة ومشحونة من التعزية لنا باعتبار جهالتنا. فأجاب أحدهما الذي اسمهُ كليوباس وقال لهُ: هل أنت متغرَّب وحدك في أُورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ نظن دائمًا أن الشيء الذي علينا وملأ أفكارنا لا بد أن يكون قد عمل هكذا مع الآخرين أيضًا فاستغربا وجود أحدٍ في نواحي أُورشليم ليس ممتلئًا مما جرى مثلهما. فقال لهما: وما هي؟ لم يقُل إنهُ لا يعرفها بل كمُعلّم تركهما يُخبرانهِ بها بحسب اختباراتهما المُحزنة. نعم كان هو تغرَّب وحدهُ في أُورشليم وفي إسرائيل والعالم أيضًا واختبر ما جرى ولكن على خلاف اختبار الآخرين. كان الجميع حتى أحباؤهُ نظروا إلى الحوادث نظرًا بشريًّا من الخارج وجزموا فيها كل واحد بحسب حالة قلبهِ وأما هو فاجتاز في وسطها وعرف حقيقتها مع الله.
فقالا المختصَّة بيسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبيًا مُقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب: كيف أسلمهُ رؤساء الكهنة وحُكامنا لقضاء الموت وصلبوهُ ونحن كنا نرجو أنهُ هو المزمع أن يفدي إسرائيل. فأظهرا أفكارهما تمامًا بكلام مُختصر فحواهُ أن التلاميذ جميعًا بقوا على رجاءهم بأن المسيح لا يموت بل يظهر قوتهُ بخلاص إسرائيل من أعداءهم مع أنهُ سبق وقال لهم مرة بعد أخرى أنهُ ينبغي لهُ أن يُرفض ويُهان ويموت ويقوم أيضًا. وهذه هي الأفكار التي أمسكت أعينهما عن معرفتهِ. ولكن مع هذا كلهِ اليوم لهُ ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض نساءٍ منا حيَّرننا إذ كنَّ باكرًا عند القبر ولما لم يجدنَ جسدهُ أتينَ قائلات: إنهنَّ رأينَ منظر ملائكة قالوا: أنهُ حيٌّ. فإذًا كلام الملائكة الذي يُنبههم على كلام السيد نفسهِ بل إنما أضاف حيرةً إلى حزنهم. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضًا النساء وأما هم فلم يروهُ. فالقوم المُشار إليهم هم بطرس ويوحنا ولكن شهادتهما لم تثبت إلاَّ أن القبر فارغ وهذه الحقيقة سلبية لا إيجابية ولها عدَّة أوجه والوجه الأقرب لهم في الأول أن بعض الأعداء أتوا بالليل ونقلوا الجسد. (انظر يوحنا 13:20-15) مع إننا نعلم أن عملاً كهذا كان بعيدًا جدًّا عن أفكار الأعداء. مَتَى اضطربت قلوبنا تتوه أفكارنا وكأننا نستعدُّ أن نقبل بسرعةٍ أي خبر كان إلاَّ الصحيح وأما أفكار الله فتعلو عن أفكارنا القاصرة إلى هذا المقدار حتى لا يُمكننا أن نقبلها إلاَّ بالإيمان.
25 فَقَالَ لَهُمَا:«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! 26 أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» 27 ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. (عدد 25-27).
كان فيهما إيمان بالنبوات القديمة ولكنهما لم يقدرا أن يفهماها بعد لأن فحواها هو الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعد ذلك. فوبخهما الرب على عدم معرفتها ولكنهُ يُمارس التوبيخات لأحبائهِ لإنهاضهم من الغفلة وتنبيه قلوبهم لقبول الحق. أَما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجدهِ؟ لاحظ قولهُ ينبغي لأنهُ يُشير بهِ إلى مشورة الله ومقاصدهِ المُعلنة في الكتب المقدسة التي ينبغي أن يكون المسيح موضوعها ومركزها. إذا جعلنا بركاتنا غرضًا وبحثنا فيها نغضُّ النظر عن مجد الله بالمسيح لأن الله مُفتكر في موت المسيح ودخولهِ إلى مجدهِ الخاص. ونرى هنا إلى أي مقدار اختلفت أفكار التلاميذ عن أفكار الله المُعلنة في كتب الأنبياء. لا شك بأنهُ يفدي إسرائيل بعد ولكن بطريق يفوق أفكارهم بما لا يوصف لأنهم هم أيضًا سيقبلونهُ كآتٍ من السماء بقوة ومجد كثير. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأُمور المختصَّة بهِ من شأنها أن ترفع قلوبهما الضيقة عما يختصُّ بإسرائيل. وهذا هو قانون لنا أيضًا للحصول على الفرج من ضيقاتنا والتعزية في أحزاننا فإنهُ ينبغي لنا أن ننظر إلى مقاصد الله في المسيح ونتتبع أمجادهُ المُتنوعة لأن الأمور المختصَّة بهِ ترفعنا إلى حيث هو وفيما نتأمل فيها نجد بركاتنا الروحية ونتمتع بها في الشركة مع الآب ومع ابنهِ يسوع المسيح. فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مُستترة مع المسيح في الله. مَتَى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معهُ في المجد (كولوسي 1:3-4).
[28 ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. 29 فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ:«امْكُثْ مَعَنَا، لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. 30 فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، 31 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا. (عدد 28-31).