الأصحاح الأول
إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2 كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3 رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4 لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ. (عدد 1-4).
إن الروح القدس في إنجيل لوقا يُخبر عن حياة ربنا يسوع المسيح كابن الإنسان حاضرًا بنعمة لا تُوصف بين الناس ومُظهرًا قوة يهوه إسرائيل لمباركة شعبهِ والعالم أجمع أيضًا. وكان في أول خدمتهِ مُقتصرًا على دائرة نسبتهِ إلى بني إسرائيل حسب مواعيد الله القديمة لهم، وأما في أخرها كما يوضحها هذا الإنجيل فيُصرح بمبادئ وحقائق روحية تناسب الإنسان على أي حال كان. فيمتاز هذا الإنجيل بأنهُ يُقدم لنا يسوع المسيح ذاتهُ ليس باعتبار مجدهِ الرسمي كإنجيل مَتَّى ولا باعتبار خدمتهِ النبوية كإنجيل مرقس ولا بإعلان لاهوتهِ كإنجيل يوحنا مع أنهُ هو هو في جميع الأناجيل كما لا يُخفى عند القارئ المسيحي. فكل واحد من الأربعة البشيرين قد أُلهم من الله أن يدرج من أقوال السيد وأعمالهِ ما يوافق المقصد الإلهي في إنجيلهِ. فشاءَ الله أن يفيدنا فوائد جزيلة مُتنوعة بما أخبرنا بهِ عن حياة ابنهِ العزيز على الأرض وخدمتهِ المُتصفة بالحنو واللطف للبشر. فبحسب إنجيل لوقا نرى صورة حياتهِ كما كان يظهر بين الناس وقتئذٍ إذ جال بينهم من يوم إلى أخر بكمال الاتضاع واللطف نحو الجميع.
كان كثيرون من المسيحيين قد أخذوا بتأليف قصةٍ فيما تعلق بحياة المسيح على ما سمعوهُ من أفواه الذين لازموهُ كخدام في مدة خدمتهِ ولكن تالفاتهم إنما كانت من المشروعات البشرية ولو كانت نيتهم صالحة ومُخلصة فإذ ذاك كانت حاجة إلى تأليف قصةٍ بإلهام من الله الذي قاد عبدهُ لوقا إلى هذا العمل. وكان المذكور إناءً مُناسبًا إذ كانت لهُ معرفة مُدققة بكل شيء من الأول ولكن مُجرد المعرفة وحدها لا تكفي لكي تجعل لوقا أو غيرهُ إناءً للوحي مع أنها كانت من الصفات اللازمة لهُ لأجل ذلك. ربما كانت هذه المعرفة نفسها موجودة في أُناس آخرين ولم يستحسن الله أن يستخدمهم لهذه الخدمة. رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبَّعتُ كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمتَ بهِ. فكان لهُ غرض أو مُحرّك شخصي أي رغبتهُ في إفادة هذا الأخ المسيحي ولكن ذلك لا يُناقض كونهُ قد أُقتيد وسيق من الروح القدس ليكتب هكذا فإن الله استخدمهُ كما استخدم سائر كتبة العهد الجديد لإدراج حقّهِ على هيئة ثابتة بدون زيادة ولا نقص فيها حتى أن كل ما كُتب هو كلمة الله نفسها التي يجب أن نقيس عليها كل ما يتعلق بالتعليم والسلوك. يوجد فرق بين مَنْ أُستخدم كإناءِ الوحي وبين مَنْ يُستَخدَم في الخدمة المسيحية الاعتيادية لأجل إيضاح الحق وتخصيصهِ للآخرين لأجل خيرهم بحيث أن مَنْ كَتَبَ بالوحي كان مُقتادًا ومسوقًا من روح الله حتى أنهُ لم يدرج شيئًا من ذاتهِ. ربما قادهُ الله إلى ذكر بعض الأغراض والمُحرّكات التي ملأَت قلبهُ في كتاباتهِ كما عمل لوقا هنا وكما نرى في بطرس وبولس ويهوذا أيضًا (انظر بطرس الثانية 13:1؛ كورنثوس الثانية1:2-4؛ تيموثاوس الأولى14:3؛ يهوذا 3) وشهادات أخرى كثيرة ولكن ذلك لا يخلُّ بكونهم قد أُلهموا إلهامًا كاملاً فإن الله جعل فيهم هذه الرغبة الشديدة في إفادة الآخرين ثم استخدمهم لكتابة ما يُكمل هذه الحاجة، نعم، ويفيد كنيستهُ في كل الأجيال. نرى أن بولس قدَّ نصيحة لتيموثاوس من جهة صحتهِ (تيموثاوس الأولى 23:5) وأوصاهُ أن يُحضر معهُ الرداء والكُتب والرقوق عندما يأتي إلى بولس (تيموثاوس الثانية 13:4) ولكننَّا لا نقدر أن نعدَّ كلامهُ من التنوُّهات الزهيدة التي لا أهمَّية لها إلاَّ في ذلك الوقت لأن الله قَصَد أن يُظهر لنا اعتناءهُ الحلو بعبدهِ تيموثاوس ويُعطينا لمحةً من جهة حياتهِ اليومية وقد أُدرج ذلك من الوحي لإفادتنا فلا يجوز لنا أن نقول أنهُ لو لم يُدرج لما كنا قد خسرنا شيئًا. وأما من جهة خدمتنا المسيحية الاعتيادية فلا شكَّ أن الله يعيننا على البحث في كلمتهِ واستخدامها لبُنيان الآخرين ولكننَّا لسنا آنية الوحي لأننَّا إنما نستعمل الحق الذي قد أُعلن ونخدم فيهِ كل واحد منا بحسب النعمة المُعطاة لهُ ولا بدَّ أن يظهر في خدمتنا جانب من الضعف والقصورات البشرية ولا نقدر أن نقول عن أقوالنا أنها الحق المحض لا زيادة فيها ولا نقص. يجب أن نُلاحظ هذه المُلاحظة جيدًا لأن كثيرين قد أنكروا الوحي الكامل مُعترضين عليهِ اعتراضات كثيرة وأما غيرهم فيقرُّون بهِ وفي الوقت نفسهِ يُحاولون أن يُعظموا شأن الخدمة المسيحيَّة زاعمين أنها إذا كانت خالصة وروحية لا تفرق عن كلمات الوحي نفسهِ بحيث أن الروح الواحد الذي استخدم لوقا وبطرس وبولس مثلاً يستخدمنا نحن أيضًا. ولكن قولاً كهذا خطاءٌ عظيم وبالحقيقة يضع شأن الوحي مُعظمًا خدمتنا نحن التي يجب أن نقرَّ بأنها ناقصة ولا يليق بنا أن نجعلها قياسًا للتعليم والسلوك لا شكَّ بأن الروح هو واحد ولكنهُ شاءَ أن يستخدم البعض لإعلان حقائق الله على نوع خصوصي وبعد إدراجها صارت محفوظة لإيمان الكنيسة في كل الأجيال. كان ثاوفيلس قد تعلَّم التعليم المسيحي وكتب إليهِ لوقا لكي يُثبتهُ في الإيمان كقولهِ. لنعرف صحة الكلام عُلّمتَ بهِ. ليُعطينا الرب أن نستفيد أيضًا من درس مضمون هذا الإنجيل.
كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. 6 وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. 7 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. (عدد 5-7).
فرقة أبيَّا مذكورة في (أيام الأخبار الأول 10:24). وهي واحدة من الأربعة والعشرين فرقة التي انقسم الكهنة إليها في زمان داود المَلِك وكان زكريا وامرأتهُ من عائلة هارون والوحي يشهد لتقواهما، غير أن الله لم يكن قد أرزقهما بنين تلك البركة التي كانت مرغوبة عند جميع اليهود الأتقياء. كان قصدهُ أن يُعطيهما ولدًا ولكنهُ شاءَ أن يعمل بطريق تمتحن إيمانها كما عمل مع إبراهيم وغيرهِ من المؤمنين السالفين.
8 فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، 9 حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. 10 وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. 11 فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. 12 فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. 13 فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. 14 وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ، 15 لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. 16 وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. 17 وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا». (عدد 8-17).
طالما طلب زكريا ولدًا من الله ولم يحصل على إجابة طلبتهِ لأن الله كثيرًا ما يُجرب إيماننا إذ يتمهل علينا ونحن نُصلي بلجاجة وبذلك يُنقي قلوبنا ويُدربنا على الخضوع لمشيئتهِ ويعدُّنا لقبول البركة المطلوبة من يديهِ بشكرٍ. ولهُ السلطان أيضًا أن يختار الوقت والظروف التي بها يُجيب طلباتنا. فلما كان زكريا يُكمل واجباتهِ الكهنوتية غير مفتكر في تلك الطلبة ظهر لهُ كلاك الرب وبشَّرهُ أنها قد سُمعتْ ووصف لهُ صفات الولد العتيد أن يُعطى لهُ وخدمتهُ أيضًا التي تعينتْ لهُ من قِبل الرب. كان ينبغي أن يُفرَز ويتقدس للرب من بطن أُمهِ كنذير ثم يتكلف بخدمة غير مُعتادة كخدمة إيليا النبي الشهير لكي يحسن أحوال شعب الله استعدادًا لقبولهم الرب المُزمع أن يحضر في وسطهم.
فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ:«كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» 19 فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ:«أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. 20 وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ». (عدد 18-20).
لم يكن زكريا يستطيع أن يسلك في خطوات أبيهِ إبراهيم الذي صدَّق وعد الله حالاً بدون تردُّد فإنهُ أخذ ينظر إلى المصاعب التي من شأنها أن تمنع تتميم ما قيل من الملاك.
كان يجب عليهِ أن يخضع لكلام الله مُتيقنًا أن ما وعد بهِ هو قادر أن يفعلهُ أيضًا (رومية 21:4). إن كان الله يتنازل من لُطفهِ ليُكلمنا فعلينا أن نقبل ولا نسأل. كيف أعلم هذا؟ فاستوجب تأديبًا ولسانهُ الذي نطق بكلام عدم الإيمان ضُرِب بالصمت فظلَّ صامتًا إلى أن الله حلَّهُ واستخدمهُ لتسبيحهِ.
21 وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ. 22 فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا. 23 وَلَمَّا كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ. 24 وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: 25 «هكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ». (عدد 21-25)
كان تأديب زكريا علامةً للشعب أن الرب افتقدهُ فإنهُ لم يقدر أن يُخبرهم عن سبب إبطائهِ. وأما أليصابات فتصرفت كما يليق بامرأة تقية لأن العُقر كان عارًا على الإسرائيليين الذين وعدهم الله بأنهُ يُباركهم بكثرة النسل فاعتزلت لكي تكون مخفيةً عند الله إلى حين تتميم كلام الملاك ويكون حينئذٍ نزع عارها ظاهرًا للجميع ويكون ذلك لمجد الله أكثر مما لو صرفت وقتها بين الناس تُحدثهم عما جرى معها خفيةً. ولنا مثال جميل في ما عملت أليصابات التقية لأن الله يُجري أمورًا كثيرة بينهُ وبين نفوس أتقيائهِ في الخفاء فالأليق بنا أن نُحافظ على السكوت قدام الناس فتكون صلواتنا واختباراتنا في مخادعنا وأما الأجوبة الحسنة فتكون علانيةً. ننمو روحيًا من مُداومتنا على الشركة مع الله في الخفاء ثم يكون نموَّنا ظاهرًا للجميع.
وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، 27 إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. 28 فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ:«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». 29 فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ:«مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» 30 فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. 31 وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. 32 هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، 33 وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ». (عدد 26-33).
الله يُجري أعمالهُ بالترتيب الكامل والإتقان التام خلاف الإنسان الذي يتعب في ضبط أعمالهِ وتراهُ دائمًا مُجتهدًا مضطربًا كأنهُ حامل ثقلاً فوق طاقتهِ. وأما الله القدير الحكيم فيتقدم لإنشاء أعظم الأعمال بغاية الهدوء كما يليق بجلالتهِ. كان الوقت قد حان الوقت لتجسُّد ابنهِ فنرى أن كل شيء كان مُعدًّا لتلك الحادثة العظيمة.
كان بعنايتهِ قد هيَّأ العذراء المغبوطة بالنعمة فكانت في الحالة المُناسبة لتنفيذ مقاصد الله بواسطتها. كانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمهُ يوسف، كان الله قد اختارها لتكون الإناء الذي يتم بهِ وعدهُ القديم وفي الوقت المُعيَّن أرسل جبرائيل الملاك ليُبلغها مشورة الله. كانت زيارات الملائكة معروفة عند اليهود لأن الله استخدمهم كثيرًا لخدمتهِ في أثناء النظام القديم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لكِ أيتها المُنعم عليها. الرب معكِ. مُباركة أنتِ في النساء. قابل هذا مع كلام الملاك لجدعون (قضاة 12:6) وأيضًا مع كلام الملاك الذي ظهر لدانيال الوارد في (دانيال 11:10، 19). فترى أن الملائكة كانوا غالبًا يُظهرون مقصد إرساليتهم بكلام تحيَّتهم فإن الملاك الذي ظهر لجدعون سلَّم عليهِ كجبار بأس بحيث أن الله كان قاصدًا أن يستخدمهُ لضرب أعدائهِ وأما الذي ظهر لدانيال النبي فسلَّم عليهِ كالرجل المحبوب بحيث أنهُ كان مُتذللاً وحزينًا من جهة سوء حالة شعب الله فكان الله قاصدًا أن يُعلن لهُ مقاصدهُ فيهم. وأما تحية جبرائيل لمريم فتُناسب البشارة التي أُستخدم لتبليغها لها بحيث أن الله أنعمَ عليها نعمة خصوصية إذ اختارها أن تكون أمَّ المسيح بالجسد وكان ذلك بركة عظيمة جدًا كما لا يُخفى. فلما رأتهُ اضطربت من كلامهِ وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحيَّة. كان الملاك قد سلم عليها بكلام غير معتاد أن يُسمع يدل على أنها مُزمعة أن تكون مباركة، وممتازة بين النساء، ولكنهُ كان مُبهمًا غير مفصَّل فتحيَّرتْ من جهة معناهُ وخافت أيضًا. فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدتِ نعمة عند الله وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينهُ يسوع. كان الله مُزمعًا أن يستخدمها بطريقة عجيبة جدًا لأجل إجراء مقاصدهِ الأزلية، ولكن لم يكن شيءٌ من الفضل لها شخصيًا لأنها إنما كانت من الجنس البشري الساقط فلم تستحقُّ شيئًا في ذاتها من قبل الله دون غيرها، ولكنها وجدت نعمةً عند الله. انظر ما قيل عن نوح. وأما نوح فوجد نعمةً في عيني الرب (تكوين 8:6). ثم تعَّين لها اسم الابن المُزمعة أن تلدهُ، وأما معنى يسوع فهو مخلّص. وهذا اسمهُ الشخصي كالمولود من مريم. لا يُخفى أن لهُ أسماء وألقابًا أخرى، ولكنها تدلُّ على أمجادهِ الإلهية، والوظائف التي أتخذها. هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيهِ الرب الإله كرسي داود أبيهِ. ويملك على بيت داود إلى الأبد ولا يكون لملكهِ نهاية. يجب أن نلاحظ أن هذا الكلام إنما يصفهُ باعتبار مجدهِ وعظمتهِ كملك فقط. كان سليمان مثلاً عظيمًا، ولكنه كان منتسبًا إلى داود وأما يسوع فيكون عظيمًا فينتسب إلى العلي والرب يعطيهِ كرسي داود الذي كان أباه بحسب الجسد على أن قرينة الكلام تدل على أن لهُ نسبة أعظم من تلك. وأما من جهة ملكهِ المذكور هنا فهو على بيت يعقوب فقط، وقولهُ عنهُ أنهُ يكون إلى الأبد، وبلا نهاية يعني أنهُ يدوم ما دام بيت يعقوب موجودًا على الأرض في حالة يحتاج إلى الحكم. لايُخفى أن بيت يعقوب ليس هو في السماء بل على الأرض. فإنما يتم هذا الكلام في مدة المُلك في الألف سنة. المسيح الآن ليس بمالكٍ على بيت يعقوب ولكنهُ سيملك عليهِ حقيقةً فيما بعد. غير أننا لا نقدر أن نبحث في هذا الموضوع هنا لأن قرائن الكلام لا تقتضي ذلك.