ثانيًا- نعرف الآب بواسطة الابن ونصرخ يا أبا الآب، فأقنوم الآب قد أعلن نفسهُ لنا ويمكننا أن نعرفهُ.
ثالثًا- السلطان المطلق في السماء والأرض قد دُفع إلى يد الابن لأنهُ ابن الإنسان. ونرى أنهُ كان يمارسهُ وهو على الأرض استعمل سلطانهُ في الأرض لا في السماء. كان يأمر الأمراض والرياح والعناصر والشياطين فأطاعتهُ بكلمةٍ. وكان أيضًا يعلن الآب بموجب هذا السلطان إذ كان يغفر الخطايا وينير أذهان البعض كما قد رأينا. وهنا يشير إلى ممارسة سلطانهِ في أعمال كهذه بقولهِ: من أراد الابن أن يُعلن لهُ. فالإرادة تقتضي سلطانًا. ثمَّ بعد ارتفاعهِ إلى السماء أخذ يمارس سلطانهُ على كل الكون. الذي هو في يمين الله إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة لهُ (بطرس الأولى 22:3؛ انظر أيضًا مَتَّى 18:27؛ وأفسس 20:1-23).وشهادات أخرى كثيرة على أن دائرة ممارسة سلطانهِ قد اتسعت عند ارتفاعهِ إلى مقامهِ في السماء، ولكن السلطان نفسهُ دُفع إليهِ كإنسان لما كان على الأرض. وأما الأرض فلم تزل متمردة للآن غير أنهُ مهتمٌ بها في بعض الطرق إذ يجري أعمال العناية الإلهية، ويحكم رأسًا في الكنيسة ويستمرُّ على عمل النعمة إذ يُعلن الآب للبعض ثمَّ مَنَّى تم جمع الورثة العتيدين أن يملكوا معهُ يرجع أيضًا بالقوة ويطرح العدو من مركزهِ الحالي ويحبسهُ ويسحق أيضًا كل قوة وكل مقاوم لهُ على الأرض كما في السماء وآخر الكل يُدين الأبالسة والأموات ثمَّ يُسلّم وكالتهُ الأرضية لله الآب إذ لا يكون عدو بعد ليسحقهُ. هذا من جهة ممارسة سلطانهِ على الأرض فقط في النظامات والتدابير المُتعلقة بالبشر في العالم. وأما سلطانهُ المطلق على كل الكون كراس الكنيسة فيمارسهُ إلى الأبد لأن ذلك ليس يختصُّ بالمكان والزمان. وأُخضع كل شيء تحت قدميهِ وإياهُ جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسدهُ ملءُ الذي يملأُ الكل في الكل (أفسس 22:1، 23). لا يوجد في تسلُّطهِ المُطلق على كل شيء مع الكنيسة شيء من الوكالة الوقتية التي يُتممها على الأرض ويُسلّمها متى تمَّت. فلذلك ينبغي أن نفرح بأن أسماءنا كُتبت في السماء إذ قد تعينَّا سابقًا للتبني في يسوع المسيح.
23 وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ! 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكًا أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا». (عدد 23، 24).
لم يكن الوقت قد حضر بعد لتتميم سرّ الله العظيم علانيةً أمام الجميع (انظر أفسس 10:3-21) إذ كان تلاميذهُ بالفقر والإهانة كسيدهم ولكن مع ذلك لهم تطويب عظيم جدًّا فأنهم عاينوا ابن الله في الجسد وتبعوهُ وقت تجاربهِ. كثيرون من الأتقياء القدماء اشتهوا أن ينظروا هذا المنظر ولم ينظروا لأنهم عاشوا وماتوا بالإيمان، ولم ينالوا تتميم المواعيد من جهة حضور المسيح (عبرانيين 13:11، 39، 40؛ بطرس الأولى 10:1-12). ولكنهُ كان عسرًا على التلاميذ أن يدركوا قيمة البركات الروحية التي لنا الآن في السماويات في المسيح يسوع. لا يُخفى أن فينا صفة غريبة جدًّا بحيث نطلب شيئًا مستقبلاً ونستكبرهُ، ولكن إذا حصلنا عليهِ نستزهدهُ وذلك يصدق فينا حتى في أمور الجسد لأن الإنسان الذي وضع قلبهُ على جمع المال من مدة ثلاثين سنة مثلاً ما كاد وقتئذٍ ينتظر مبلغًا، وحسب أنهُ إذا تيسَّر لهُ مقدار عظيم كخمسين ألف ليرا مثلاً، يكون ذلك مبلغًا باهظًا جدًّا ولا بدَّ أن يكتفي بهِ بغاية الشكر ويصنع خيرًا، ولكن عند حصولهِ عليهِ لا يحسبهُ شيئًا بالنسبة إلى ما يشتهيهِ الآن لأن طمع القلب يزداد مع ازدياد المال الذي هو كقوت لهُ. وهكذا أيضًا من جهة امتلاكنا البركات الروحية كازدياد المعرفة وما شاكلها فأنهُ يصعب علينا أن نبقى منتبهين ومعتبرين قيمتها كما يجب. كان إسرائيل وقت جوعهم يتمنون لقمة خبز مما أكلوهُ كعبيد في أرض مصر وها الله أعطاهم المنَّ من السماء ليس يومًا واحدًا بل أربعين سنة. ولكنهم بعد حين حسبوهُ طعامًا سخيفًا وكرهتهُ نفوسهم وتذمروا على الله وعلى عبدهِ موسى. كذلك الغلاطيون أيضًا، فأنهم فرحوا في الأول بتعليم النعمة، ولو أمكن لأعطوا أعينهم للرسول الذي بشرهم بهِ ثمَّ تقلبوا بسرعةٍ وأبدلوا التعليم الصافي السماوي بالخرنوب الوخيم الذي قدَّمهُ لهم معلمو الناموس، وحسبوا بولس كعدو لأنهُ كلَّمهم بالحق. كان اليهود جميعًا ينتظرون المسيح حسب المواعيد، ولكن لما حضر أكثرهم عثروا فيهِ. والذين قبلوهُ استصعبوا إتباعهُ في الإهانة وكثيرون من تلاميذهِ ارتدوا ولم يسلكوا وراءهُ إلى النهاية. وكثيرًا ما تحوَّل النور إلى ظلام في قلوب الذين ذاقوا الموهبة السماوية، فلذلك استمرَّ الرَّبُّ يحرض التلاميذ على الثبوت والانتباه لقيمة الجوهرة التي كانت بين أيديهم. يا أخوتي، لا يمكن أن ننمو في أمور الله ونبقى محافظين على قيمتها بدون ما نسلك مع المسيح ونجد فيهِ سرور قلوبنا كل يوم. إذا تساهلنا مع الشهوات الجسدية في سلوكنا أو انتفخا روحيًّا بسبب معرفتنا أو تقوانا لا يلبث أن نتهاون بالحقائق العظمى، وعلى التوالي تصير كطعام سخيف تكرههُ نفوسنا والشيءُ الذي حسبناهُ كنزًا ثمينًا أمس لا يُحسب عندنا غدًا إلاَّ كالتراب. فلننظر كيف نسمع لأن من لهُ يعطى ويزداد وأما من ليس لهُ فالذي يظنهُ لهُ يؤخذ منهُ.
25: وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 26 فَقَالَ لَهُ:«مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» 27 فَأَجَابَ وَقَالَ:«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». 28 فَقَالَ لَهُ:«بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا». (عدد 25-28.
هذه الحادثة ليست مقترنة مع تاريخ خصوصي، ولكن المُحتمل أنها جرت في سفر الرَّبِّ الأخير نحو أورشليم وربما في أورشليم ذاتها. ومعنى ناموسي رجل فاهم الناموس وممارس تعليم الآخرين. ويتضح أن المُشار إليهِ هنا كان من مذهب الفريسيين لأنهُ سأل الرَّبِّ، ماذا يعمل ليرث الحياة الأبدية؟ فأن الفريسيين امتازوا عن غيرهم باعتقادهم بالقيامة والحياة الأبدية. فالحياة الأبدية لنا الآن بمعرفتنا الآب كالله الحقيقي وحدهُ ويسوع المسيح الذي أرسلهُ (يوحنا 3:17)، وأما الناموسيون فإنما تباحثوا في هذه المسألة كغيرها للمجادلة كعقيدة عقليَّة أو لاهوتية. كان الحياة الأبدية واقفًا أمامهم ولم يعرفوهُ. افتخروا بمعرفتهم الدقيقة في المسائل الناموسيَّة وقلوبهم مبتعدة عن الله وناشفة كيبوسة الصيف. كانوا قد قسموا الشريعة إلى عدَّة أقسام حاسبين أن بعض الأفعال أفضل من الآخر، وأن الذي يتزيَّن بالأفضل يرث الحياة الأبدية، ولكن وقع اختلاف بين المعلّمين أنفسهم من جهة ما هو الجزء الأفضل، ولكنهُ لا يهمنا هنا أن نبحث في ذلك لأن الموضوع بسيط. كان سؤال الناموسي مركَّبًا على الغلط بحيث أنهُ قرن الحياة الأبدية مع عمل الإنسان، ولكن الرَّبُّ لم يُغلَّطهُ صريحًا في ذلك. فقال لهُ: ما هو مكتوب في الناموس، كيف تقرأ؟ لم يكن الناموسي عرض سؤالهُ على الرَّبِّ بإخلاص نيتهُ لأنهُ قام يُجرّبهُ. فالرَّبُّ الكامل الحكمة أخذ يمتحنهُ. فأجاب وقال: تحبُّ الرَّبِّ إلهك، من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. لا يُخفى أن هذا فحوى الناموس، وعرف الفريسيون أن يجاوبوا مسألة حرفية كهذه كما جاوبوا الملك عن الموضع الذي ينبغي أن يولد فيهِ المسيح حسب النبوات. فقال لهُ: بالصواب أجبتَ. أفعل هذا فتحيا. لاحظ أن الرَّبِّ لم يقل لهُ: أفعل هذا فترث الحياة الأبدية؛ لأنها هبة الله في يسوع المسيح (رومية 13:6)، ولا نقدر أن نمتلكها بأعمالنا، ولكن الله عرض على إسرائيل أنهم يحيون إذا حفظوا الشريعة على أننا نعلم أنهم لم يحصلوا على ذلك لأنهم خالفوا الشريعة من الأول، وجلبوا على أنفسهم لعنتها لا بركتها.9 وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، قَاَلَ لِيَسُوعَ: «وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟» 30 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. 31 فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 32 وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 33 وَلكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِرًا جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، 34 فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُق وَاعْتَنَى بِهِ. 35 وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. 36 فَأَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟» 37 فَقَالَ: «الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا». (عدد 29-37).
ينقسم الناموس إلى قسمين باعتبار مطاليبهِ من الإنسان وهما المحبة لله والمحبة للقريب. فالقسم الأول: لا يتعب أفكار الناس كثيرًا لأنهم قد ابتعدوا عن الله إلى هذا المقدار حتى فقدوا معرفتهُ، ولا يعرفون ما هي المحبة لهُ، وأن قرُّوا بوجودهِ. فبدل المحبة يمارسون بعد الطقوس الدينية في الأوقات المعيَّنة ويتوهمون في جهالتهم أن لهم فضلاً عظيمًا عند الله بسبب عبادتهم الجسدية بقطع النظر عن حالة قلوبهم المبتعدة عنهُ المنصَّبة وراء أصنامها أيضًا. فيتخلصون من القسم الأول بغاية السهولة. وأما الثاني: فيتبعهم قليلاً بحيث أن أبناء جنسهم قريبون منهم، وكل واحد يشعر بأنهُ لا يحبُّ قريبهُ مثل نفسهِ. وإن قال: أحد أنهُ يفعل ذلك يوجد شهود كثيرون يكذبونهُ بحيث أن أعمالهُ اليومية تبرهن أنهُ يحب ذاتهُ ويطلب صوالح نفسهِ ويفضَّلها دائمًا على الآخرين. فجواب الرَّبُّ البسيط للناموسي: أفعل هذا فتحيا. أقلق ضميرهُ من جهة المحبة للقريب، ولكنهُ لم يقرَّ بقصوراتهِ وبأنهُ محكوم عليهِ كمذنب من نفس الشريعة التي افتخر بها بل بادر إلى أن يبدل الأمر بمسألة أخرى على الأمل بأنهُ يتخلص من شكوى الناموس عليهِ. قال ليسوع: ومن هو قريبي؟ لو كان يمارس المحبة لقريبهُ لعرف من هو؛ لأن المحبَّ يعرف المحبوب، ولا توجد مسألة أبسط من هذه، فبالحقيقة الله قد جعل جميع البشر أقرباءنا من جهة وجوب المحبة، ثمَّ يجب أن نظهرها لهم بحسب احتياجاتهم ومناسبة الظروف في وقتٍ ما. نعلم أن الله أفرز إسرائيل عن الأمم بغاية الاعتناء لكي لا يتعلموا من طرقهم الردية، ولو حافظوا على الشريعة لكان من النوادر حضور أجنبي بينهم، ولكنهُ لا يُخفى أنهم اختلطوا مع الأمم وصاروا مثلهم في الشرّ. وعدا ذلك لم يكونوا من الأول أحبوا بعضهم بعضًا كما شهد عليهم جميع الأنبياء، ومع ذلك كلهِ لم يزالوا يتوهمون أنهم يحفظون شريعتهم كما يفعل أناس أمثالهم إلى هذا اليوم. لا شك بأنهُ كان للناموسي جواب لهذه المسألة، من هو قريبي؟ مع أنهُ عرضها للرَّبِّ ظانًا أنهُ يتمكن من الفرار من النور الذي ابتدأ يتعب أفكارهُ. كان كعادة الناموسيين في كل حين قد فسَّر كلام الناموس بطرق تناسب مرامهُ لأن الإنسان دائمًا يخالف الشريعة مع أنهُ يحاول أن يخلّص نفسهُ بها وبما أنهُ يعرف أنها ضدَّهُ يغيّرها بتفاسيرهِ ويخفض مطاليبها. فالرَّبُّ بجوابهِ أعطاهُ مثلاً أو حادثة جرت حقيقةً لكي يلزمهُ بأن يجزم في من هو قريبهُ؟ رجل إسرائيلي وقع في مصيبة وبقى بين حيٌ وميتٍ. وحدث ذلك الظلم لهُ في أرض إسرائيل نفسها واضطجع بأوجاعهِ على جانب الطريق السلطانية بمشاهدة المارّين. فعرض أن كاهنًا نزل في تلك الطريق فرآهُ وجاز مقابلهُ. لأن الخدمة الكهنوتية بحسب الشريعة تعلقت بالهيكل والمذبح. وكذلك لاويٌ أيضًا إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابلهُ. نعلم أنهُ كان مطلوبًا من اللاويين أن يساعدوا الكهنة في بعض أشياء من متعلقات خدمتهم ويمارسوا تعليم الشعب في مدنهم وقراهم. ولكن قلما انتفع إسرائيل من كهنتهم ومعلّميهم. وعدا ذلك الجريح المسكين لم يكن محتاجًا إلى تقديم ذبيحة عن يد كاهن أو إلى تعليم اللاوي، إذ كان على أشرّ حال يمكن أن يكون أحد عليها، وهو في قيد الوجود بعد فاحتاج إلى الشفقة والمحبة التي أمرت بها الشريعة، ولم تقدر أن تحصّلها من القلوب القاسية. ولكن سامريًّا مسافرًا جاء إليهِ ولما رأهُ تحنَّن. لا شك بأن أُناسًا إسرائيليين كانوا قد أظهروا شفقةً لأبناء جنسهم أوقاتًا كثيرة لأن ذلك يصير بعض الأوقات حتى بين البرابرة فإذًا للرَّبِّ مقصد خصوصي بتحويلهِ الكلام إلى سامري مسافر ولا يعسر علينا أن نرى الرَّبِّ ذاتهُ في هذه الصورة البديعة وأن الذي وقع بين لصوص عبارة عن إسرائيل بل الإنسان الساقط مطلقًا لأن الأبالسة قد عرُّوهُ وجرحوهُ ولا يقدر جميع الكهنة واللاويين في أورشليم أن يساعدوهُ بممارسة وظائفهم الرسمية. وأما الغريب المسافر فهو حرٌ في محبتهِ، أن يصنع خيرًا وقادر أيضًا أن يساعد كل واحد بحسب احتياجهِ كما قد رأينا في تاريخ حياتهِ في هذا الإنجيل، لأنهُ تحنَّن عليهم، ولهُ القدرة مثل محبتهِ. لا أقدر أن أشرح بتفصيل على هذه الحادثة العظيمة التي تصوّر لنا أعمال المسيح الحبيَّة للإنسان الساقط لأن الموضوع واسع وغني جدًّا، ولا يمكن أن نغلط في كلامنا المبني عليهِ، أو نبالغ فيهِ أكثر من اللائق ما دمنا ننسب كل الفضل لنعمة الله الظاهرة بالمسيح يسوع الذي افتقدنا كالمشرق من العلاء. فإنما أقول بالاختصار:أولاً- أن أصل أعمالهِ هو المحبة لأنهُ نظر إلينا في مذلَّتنا وتحنَّن.
ثانيًا- يعالج داءنا الثقيل بكل ما يلزم كما قيل هنا. فتقدم وضمد جراحاتهِ وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا. فكل ما نحتاج إليهِ كخطاة معرَّين ومجرَّحين يعطينا إياهُ المسيح مجانًا.
ثالثًا- يبدل مقامهُ بمقامنا، نوعًا كم قيل: وأركبه على دابتهِ. لم يكن أقل قوة في الجريح ليشفي ذاتهُ أو ينتقل من الموضع الذي وقع فيهِ. وقد تم ذلك في المسيح من عدَّة أوجه كما نعلم فأنهُ أنهضنا من مضجعنا في الخطية وعواقبها ومنحنا القوة الروحية. فأتخذ مقامنا لكي يعطينا مقامهُ. نزل من السماء لكي يأخذنا معهُ إليها. صار فقيرًا لكي نستغني بفقرهِ. تألَّم بدلاً عنا لكي لا نتألم نحن. أنحدر إلى القبر وقام منهُ لكي لا تبقى للقبر قوة علينا.