الأصحاح الثالث عشر
1 وَكَانَ حَاضِرًا فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2 فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3 كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ. 4 أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5 كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». (عدد 1-5).
معلوم أن اليهود تباحثوا معًا في كثير من المسائل المُتعلقة بسياسة الله وأعمال عنايتهِ وهذا نفسهُ موضوع المُباحثة التي وقعت بين أيوب وأصحابهِ. ويتضح أن الحاضرين فهموا كلام الرب السابق من حيثيَّة إشارتهِ إلى مُعاملات الله معهم كأُمة فبادر البعض إلى عرض حادثة عليهِ مما جرى ويا ترى هل كانت تلك الحادثة بسبب شرور أولئك الجليليين شخصيًّا أو جزءًا من مُعاملات الله العامة معهم كأُمة. فجاوبهم الرب أنها ليست استثنائية شخصيَّة لأن الذين كابدوا مثل هذا لم يكونوا خطاة أكثر من الآخرين فإذًا ينبغي أن يعتبر قتلهم وخلط دمهم مع ذبائحهم من العلامات الدالة على أن الله في الطريق مع الأُمة كلها إلى القضاء فلا بد أن يهلك الجميع إن لم يتوبوا. ثم يُذكرهم بما أصاب ثمانية عشر إذ وقع عليهم برج من أبراج أُورشليم ويقول أن حادثتهم كحادثة الجليليين تمامًا. نعم لما كانت أحوال إسرائيل مستقيمة كان الله مُعتادًا أن يُظهر غيظهُ بطرق مخصوصة على أفراد آثمة وأما الآن فما بقى موضع لذلك في أُمة مُنحطة مُتمردة على وجه العموم. وأيضًا لو انتبهوا انتباهًا قليلاً لَميَّزوا أمرًا يدلهم صريحًا على يد الله في الحادثتين فإن الوالي الوثني ذبح الجليليين وهم مُقتربون إلى مذبح إلههم وأحد أبراج المدينة المقدسة سقط على الآخرين وهم مُطمئنون.
6: وَقَالَ هذَا الْمَثَلَ:«كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَرًا وَلَمْ يَجِدْ. 7 فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَرًا فِي هذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟ 8 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ، اتْرُكْهَا هذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. 9 فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَرًا، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا». (عدد 6-9).
شجرة التين عبارة عن إسرائيل كأُمة في أرض كنعان يُطلب منهم ثمر الطاعة لله والمحافظة على إيمانهم. والثلاث سنين: عبارة عن الوقت الكافي لإظهار الثمر المطلوب أي كل وقتهم الذي قضوهُ في أرضهم تحت عناية الله وفلاحتهِ فطالما طلب ثمرًا منهم ولم يجد، والكرام: هو المسيح مدة حياتهِ يخدم إسرائيل، ويعلمهم بقصد أن ينبههم فالله بسياستهِ لهم حكم بإن الوقت قد حان لإقراضهم. راجع قول يوحنا: والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر… إلخ (إصحاح 9:3). إن كانت الأمة لا تأتي بالثمر لماذا تبطل أرض الرب بعد. ثمَّ قول الكرام: يا سيد، أتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً فإن صنعت ثمرًا، وإلاَّ ففيما بعد تقطعها. يشير إلى خدمة المسيح والوسائط التي استعملها لكي يأتي بهم إلى التوبة بواستطها. سبق الله واعتنى بهم بواسطة عبيدهِ القدماء، وآخر الكل أرسل لهم ابنهُ الذي أفرغ كل الوسائط معهم بدون نتيجة، وأخيرًا جرت سياسة الله مجراها وقطعتهم كما نعلم.
10: وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ، 11 وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. 12 فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا:«يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ!». 13 وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ. 14 فَأَجابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ، وَقَالَ لِلْجَمْعِ:«هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ!» 15 فَأَجَابَهُ الرَّبُّ وَقَالَ:«يَا مُرَائِي! أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ 16 وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ إِبْراهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟» 17 وَإِذْ قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ. (عدد 10-17).
كان يسوع في طريقهِ إلى أورشليم لكي يهان ويموت، وكان الله في الطريق مع شعبهِ للقضاء أيضًا، ولكن النعمة الإلهية كانت تمّهل خطواتهِ كقاضٍ وتستغنم كل فرصة لإظهار الرحمة للشعب البائس لأن الله يحب أن يسرع لممارسة المحبة ويتباطئ عن إجراء الدينونة. كانت هذه المرأة من بنات إبراهيم الذي دُعي خليل الله، ولكن من زمان طويل منحنية بضعفٍ مثل: الأمة الإسرائيلية تمامًا. فحضر الطبيب الصالح وبادر كعادتهِ إلى علاجها بكلمتهِ الشافية. وأما رؤساؤهم المراؤن المتكبرون فاغتاظوا من حضورهِ واتخذوا شريعتهم من جهة حفظ السبت علَّةً لرفض خدمة الطبيب. كانوا يحافظون على صوالحهم الشخصية بغاية الاعتناء، ولكنهم لم يبالوا كثيرًا بحالة الشعب. كانت بهائمهم أفضل عندهم من شفاء إحدى بنات إبراهيم بل من شفاء الأمة أيضًا المنحنية بالضعف المزمن. سكت المعاندون وأخجلوا في وقتهِ رغمًا عن ريائهم، ولكنهم لم يقتنعوا. لم يزل البسطاء يفرحون بأعمال الرحمة، ولكن يوجد فرق كبير بين فرحهم بنوال الشفاء لأجسادهم من يد المسيح، وبين خضوعهم لهُ كابن الله ومخلصهم من خطاياهم.
18:فَقَالَ:«مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ؟ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ 19 يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ، فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً، وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا». 20 وَقَالَ أَيْضًا:«بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ 21 يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ. (عدد 18-21).
معلوم أن المثلين المُدرجين في هذا الفصل موجودين أيضًا في (مَتَّى إصحاح 13) ضمن الأمثال التي تشير إلى هيئات ملكوت السماوات المختلفة مدة غياب الملك، وأما هنا فنراهما في قرينة أخرى. ولا شك بأن الرَّبَّ نطق بهما في وقت آخر خلاف الوقت المذكور في إنجيل مَتَّى. فقال: ماذا يشبه ملكوت الله؟ وبماذا أُشبههُ؟ فقد قلت آنفًا أن ملكوت الله: عبارة عن سلطانهِ وأعمالهِ في وقت حضور المسيح، وفي هذا الوقت أيضًا. قرائن الكلام في موضعٍ ما تدلُّنا دائمًا على ما هو المقصود بهِ لأنهُ يشير بعض الأوقات إلى حضور المسيح في إسرائيل، وأخرى إلى النظام المسيحي في العالم في الوقت الحاضر، ولكن في هذا نظر بحيث يُشار إليهِ باعتبار وجهيهِ أي وجههِ الخارجي ووجههِ الداخلي. ويشبه حبة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانهِ فنمت وصارت شجرة كبيرة وتآوت طيور السماء في أغصانها. فينبغي أن نلاحظ قرائن الكلام بحيث أن الرَّبَّ عدَّة مرار في هذا الإنجيل سبق وتكلم عن أبطال النظام القديم وإبدالهِ بنظام آخر وقد رأينا أنهُ يصف للمنتسبين إليهِ كتلاميذ كيف يجب أن يسلكوا؟ وأنذرهم في (إصحاح 12) عن مشاكلة العالم ، والتغافل عن نسبتهم لسيدهم ثمَّ في أول هذا الإصحاح يتكلم صريحًا عن إجراء الدينونة الصارمة على إسرائيل. فإذًا في هذا الفصل يعود إلى موضوع النظام الجديد الذي يصبح تلاميذهُ فيهِ بعد قطع التينة الإسرائيلية ولكن وا أسفاه! على الإنسان فأنهُ في كرامة لا يبيت بل يشبه البهائم التي تباد (مزمور 12:49). إن كان إسرائيل اسأوا التصرُّف وافسدوا طريقهم وصارت امتيازاتهم علَّة دينونة أزيد فهكذا سيفعل أيضًا الذين ينتسبون للمسيح كتلاميذ مدة غيابهِ. لاشك أن ملكوت الله كان على حالة جيدة في الأول غير مختلط مع المبادئ العالمية، ولكنهُ أُسلم إلى أيدي الناس فانحطَّ كما انحطَّ النظام القديم قبلهُ. نما وصار نظامًا عالميًّا يعبَّر عنهُ بشجرة كبيرة: يعني أن هذا العمل حدث بعد تأسيس الملكوت بين الناس وتسليمهِ إلى مسئوليتهم. الله أنشأه بحالة الجودة، ولكنهُ تحوَّل إلى هيئة غير لائقة بواسطة البشر لأن الله دائمًا يبدأ نظاماتهِ على حالة جيدة، وإنما تنحرف وتفسد من سوء عمل شعبهِ المنتسب إليهِ. كما قال أيضًا: بماذا أشبه ملكوت الله؟ يشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع. هذا نفس الكلام حرفيًّا الوارد في مَتَّى، ويشير إلى الفساد في الديانة، المعروف بالرياء، سبق الرَّبُّ وقال لتلاميذهِ: أولاً تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء (إصحاح 1:12) وقد رأينا أن الرياء كان يسري كالسهمّ في أبدان إسرائيل ورؤسائهم فاغاظوا الله بهِ أكثر من كل ما سواهُ فأنهم اقتربوا إليهِ بالفم وقلبهم مُبتعد عنهُ. فخمير الفريسيين لم يُقطع من بين البشر وقت تشتيت اليهود وخراب نظامهم ومدينتهم؛ لأنهُ لم يلبث أن دخل بين المسيحيين وبقى يعمل في نظامهم حتى صار متصفًا بالرياء في الداخل ومشاكلة العالم من الخارج.