الاعتراف به كابن داود. وشفاء الأعميين (عدد 27-31)
«وفيما يسوع مجتاز من هناك 1 تبعه أعميان يصرخان ويقولان ارحمنا يا ابن داود2 . فلما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان. فقال لهما أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا نعم يا سيد. حينئذ لمس أعينهما قائلا بحسب إيمانكم ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلاً انظر لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها» (عدد 27-31)
اعترف الأعميان به كابن داود، وآمنا بقدرته، فمنحهما البصر. لم يعمل هذا العمل أمام الناس، بل في البيت. ثم أوصاهم هما أن لا يُخبرا أحدًا: وإذا راجعنا عدة حوادث أخرى، حيث أوصى الرب الذين انتفعوا من قدرته أن يكتموا الخبر بما جرى، نرى أنه إنما عمل ذلك احتراسًا من تهيج غيرة الرؤساء وحسدهم. فأنهم صاروا يرقبونه لكي يتخذوا فرصة ليتكلموا ضده ويمنعوا الشعب عن الاستماع له.
لما كان في أرض الجرجسيين، لم يسمح للرجل الذي شفاه من جنونه أن يكون معه، بل أرجعه إلى بيته وأهله ليُخبرهم كم صنع الرب ورحمه، لأنه لم يكن هناك رؤساء دينيون. وأما في إسرائيل فاقتضى الأمر أن يحترس من الذين لقبهم يوحنا المعمدان «بأولاد الأفاعي»، وشبههم المسيح بالكلاب والذئاب الخاطفة. وأما الأعميان المذكوران فخالفا أمره ولا شك أنهما أخطأ في ذلك حتى ولو كان الذي حملهما عن المخالفة هو التعبير عن شكرهما للمسيح «لأن الاستماع أفضل من الذبيحة» (صموئيل الأول 22:15).
شفاء الأخرس المجنون (عدد 32-34)
«وفيما هما خارجان إذا إنسان أخرس مجنون قدموه إليه. فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس. فتعجب الجموع قائلين، لم يظهر مثل هذا في إسرائيل. أما الفريسيون فقالوا «برئيس الشياطين يُخرج الشياطين» (عدد 32-34)
وردت شهادة جميلة عن بركات ملك إسرائيل في إشعياء النبي حيث يقول «حينئذ تتفتح عيون العُمي، وآذان الصُم تتفتح. حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس» (إشعياء 5:35، 6)، ولما حضر المسيح وسط إسرائيل أظهر بنفس القوة التي ستُجري البركة التامة للأرض في المستقبل لذلك يُقال لأعماله العجيبة التي عملها وقتئذ «قوات الدهر الآتي» (عبرانيين 5:6)، لأنها متصفة بنفس القوة التي سيُظهرها في زمان المُلك. كانت خدمته مصحوبة بالقوة ولم يكن ممكنًا أن تجري في المجاري القديمة.
«فتعجب الجموع قائلين لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل» كان الله قد أفتقد شعبه، وعمل بينهم أعمالاً برهنت حقيقة حضوره في وسطهم، فقالوا «لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل»، أي في كل تاريخهم الماضي كأمة. فإنه لم يفعل مثله لا موسى ولا إيليا ولا اليشع ولا غيرهم. على أن أولئك الجموع الذين تعجبوا من عمل المسيح وشهدوا له هذه الشهادة الحسنة، كان من عادتهم أن يتأثروا إلى حين فقط بمشاهدة عمل الله، ويميلوا إلى الخضوع له. وتراهم في بعض الأوقات، كما في هذه الحادثة وكأنهم قد تخلصوا من سطوة رؤسائهم. ولكن عندما جاء الامتحان الأعظم، في حادثة الصليب، نراهم قد خضعوا في الحال لرؤسائهم، وقالوا لبيلاطس عن يسوع «ليس هذا بل باراباس» (إصحاح 15:27-23).
«أما الفريسيون فقالوا برئيس الشياطين يُخرج شياطين» (عدد 34). كانت مصالح هؤلاء الرؤساء الزمنية وشرفهم ومراكزهم مرتبطة بالطقوس والترتيبات العتيقة فقاوموه، مع أنهم لو عرفوا حالتهم وحالة إسرائيل لفرحوا بهذا الافتقاد الإلهي، وارتضوا أن يصنع الله خيرًا بالطرق التي استنسبها هو. ولكنهم لم يعرفوا ذلك. وفي الواقع لم تهمهم حالة إسرائيل المنحطة ماداموا يحظون بمركزهم وشرفهم، ويحصلون على معاشهم، ولو بأكل الأرامل. فلم يُريدوا أن يقبلوا تغييرًا في الترتيب القائم، مادام ذلك لا يؤول إلى رفعة الرؤساء الدينيين.
ولكن إن كان الله ينظر بعين العطف إلى حالة شعبه ليفتقدهم، فمن المستحيل أن عمله هذا يرضي الرؤساء، لأنه إنما يُراعي خير شعبه، بينما يُراعي الرؤساء خير أنفسهم. ومن هنا ينشأ الخلاف بينهم وبينه، وتبدأ مقاومتهم له فيفترون على عمله ويقاومونه، ولكنه يُجري عمله رغمًا عنهم.
«برئيس الشياطين يُخرج الشياطين». لقد أقروا بالقوة، ولكنهم نسبوها للشيطان، ولكن الرب لم يَرُدْ عليهم، بل استمر في خدمته لخراف بيت إسرائيل الضالة.
استمرار التجوال والتمهيد لإرسالية الإثني عشر
(عدد 35-38؛ مرقس 6:6)
«وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يُعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت. ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. ولما رأى الجموع تحنن عليهم إذ كانوا منزعجين ومُنطرحين كغنم لا راعي لها. حينئذ قال لتلاميذه، الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده» (عدد 35-38.
«منزعجين ومنطرحين»، أي أنهم كانوا على أسوأ حال، إذ تركهم رُعاتَهُم وأهملوا أمرهم.
«كغنم لا راعي لها، كان هو الراعي الصالح الذي يرثي لحالة شعبه ويُشفق على غنم مرعاه. ولم يدع مقاومة رُعاتَهُم العالميين تُبرد محبته، أو قصده عن تكميل خدمته لهم. فإنه كثيرًا ما كلَّ الأنبياء الحقيقيون، كإيليا وإرميا مثلاً من خدمتهم، وقطعوا الأمل من جهة إسرائيل بسب مقاومة الأنبياء الكذبة. وأما يسوع فقد عرف محبة الله لشعبه، وأفكاره الصالحة من نحوهم. لذلك رغم مقاومة الرؤساء له، اجتهد أكثر في خدمته.
«حينئذ قال لتلاميذه، الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة لحصاده». متى كان شعب الله على ذلك المنوال من الإهمال وسوء الحال، فلا يُلزمنا أن نيأس، بل ينبغي أن نكون قربيين من الله، واثقين به من جهتهم. فإننا نُريد خيرهم، ولكننا عُرضة لأن ننظر إلى قوة العدو. ونمتلئ خوفًا. انظر مثلاً اهتمام الرسول بولس بالغلاطيين وهم واقعون تحت تأثير المعلمين الكذبة، وبذله كل الجهد لإرجاعهم إلى حق الإنجيل بعدما فقدوه. فأنه بينما كان ينظر إلى قوة العدو وسطوة الشر عليهم، خاف عليهم لئلا يكون قد تعب فيهم عبثًا. ولكن لما تَقُوى، بالنظر إلى الرب، وصارت له شركة معه في أفكاره من جهتهم، صار يثق بهم «في الرب» وتعزى.
وكذلك أيضًا في حثه لتيموثاوس، في رسالته الثانية له. فإنه إذ كان يخاطبه عن سوء حالة الكنيسة، أخذ في الوقت نفسه يستبعد عنه روح الفشل ويشجعه على زيادة الاجتهاد في خدمته (تيموثاوس الثانية 6:1، 7). هذا لأن الإيمان يعرف جيدًا أن الله لا يرجع عن مقاصده من جهة شعبه. وإن اضطرب البحر اضطرابًا عظيمًا، ولاطمتنا الأمواج، فليس هذا صدفة بالنسبة إلى الله. لأنه لما قصد أن يُباركنا، عَرَفَ ما هي قوته، وما هي قوة العدو أيضًا. وأنه لا يمكنه أن يُبارك نفسًا واحدة وينقذها من مخالب الأسد إلا عنوة. فيجب علينا إذن أن نُبقي في بالنا دائمًا هذه المسألة البسيطة، وهي أن المحاربة ليست بيننا وبين إبليس، بل بين الله وإبليس «هل تُسلب من الجبار غنيمته؟ وهل يُفلت سبي المنصور؟ فإنه هكذا قال الرب، حتى سبي الجبار يُسلب، وغنيمة العاتي تُفلت» (إشعياء 24:49، 25).
ولما سكب الرسول بولس أحزانه في قلب ابنه العزيز تيموثاوس، وأخبره أن جميع الذين في آسيا قد ارتدوا عنه، عاد وقال له «فتقوَ أنت يا ابني في بالنعمة التي في المسيح يسوع، وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أُناسًا أُمناء يكونون أكفاء أن يُعلموا آخرين أيضًا. فاشترك أنتَ في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح» (تيموثاوس الثانية 1:2-3). ثم لما أخبره بالأزمنة الصعبة (إصحاح 3) عاد وقال له «أنا أُناشدك إذًا أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته. اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ. انتهر. عظ. بكل أناة وتعليم» (إصحاح 1:4، 2). وهذا الإيمان هو عين ما نراه في الرب نفسه كإنسان وقت خدمته إسرائيل. وما كان أجمل لطفه لتلاميذه إذ أشركهم معه في اهتمامه بحالة الشعب، وأخبرهم باحتياج الحصاد إلى فعلة، حين قال لهم «اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده»
كان هو نفسه «رب الحصاد»، أو المالك للحقل، على أنه كان يشتغل كفاعل فيه. وقصد أن يقيم
آخرين فعلة أيضًا، ولكن إجابة للصلاة. ولنلاحظ أنه لم يقل اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسلكم أنتم إلى حصاده، مع أنه كان مزمعًا أن يرسلهم. لأنه ليس من العلامات الحسنة فينا أن نقدم أنفسنا للخدمة الجهارية. وإذا تطوعنا لها بدون دعوة خصوصية لنا من الرب، ربما نجد صعوبات غير منتظرة، نظير ذلك الكاتب التسرع المذكور في (إصحاح 19:8، 20)
كما أنه إذا دعا الرب أحدنا لخدمته، فلا يصح أن نتردد كما فعل ذلك التلميذ الذي دعاه الرب (إصحاح 21:8، 22)، ولكنه رأى أن أباه لا يزال على قيد الحياة وطلب من الرب أن يعفيه من اتباعه، حتى يدفن أباه أو بعبارة أخرى إلى أجل غير مُسمى.
وإذا سأل القارئ العزيز، إذن، ما هي العلامات الحسنة التي ينتظر توفرها فينا إن كنا مدعوين حقًا من الرب للخدمة؟ فأقول، إن أحسن علامة تظهر فينا، هي أن تكون لنا شركة مع الرب في أفكاره من جهة شعبه، وفي محبته لهم، وفي عطفه أيضًا على النفوس الهالكة. ثم نواظب على الطلب إليه أن يُقيم فعلة لحصاده بحسب إرادته وحكمته. ومن ثم فلابد من جواب مفرح من عنده. ولا فرق عندنا إن كان يرسلنا نحن أو يُرسل غيرنا من إخوتنا. لأننا مُسَلِمُون الأمر لأرادته وراضون به. حتى مجرد اهتمامنا بهذه الحاجة يبرهن على أن الرب مُزمع أن يفتقد حصاده، إذ يكون قد سبق وافتكر فيه، وإذ ذاك جعل في قلوبنا أن نطلب إليه من جهته.