الأصحاح التاسع عشر
1 ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. 2 وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيًّا، 3 وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. 4 فَرَكَضَ مُتَقَدِّمًا وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. (عدد 1-4).
قد رأينا شقاوة حالة العميان ولجاجتهم وأجابتها وأما هنا فنرى إنسانًا إسرائيليًا أخر إذ كان رئيسًا للعشارين كان غنيًا، ولكن الغنى المحصل بخيانة الوطن لم يكن مكرمًا حتى عند الفريسيين المحبين للمال، ونرى في زكا بداءة عمل النعمة إذا ابتدأ الآب يعمل فيهِ حتى يأتي بهِ إلى المسيح، وطلب أن يرى يسوع مَنْ هو. سبق الرب وقال: من يطلب يجد. فابتدأ هذا الرجل يطلب في وقت مقبول إذ كان يسوع خارجًا عن المدينة مجتازًا في كطريقهِ، ولم يقدر من الجمع لأنهُ لم يقدر من الجمع لأنهُ كان قصير القامة. الله يحث الإنسان على الطلب ثم يجعل بعض صعوبات في طريقهِ لامتحان إيمانهِ فإن كان العمل من الله فلابد أن الإيمان يتقوى بما كان من شأنه أن يصده عن الاجتهاد. كان الجمع قد انتهر الأعمى ليسكت ونرى هنا انه منع زكا القصير القامة عن مشاهدة يسوع. فركض متقدمًا وصعد إلى جميزة لكي يراهُ. قابل هذا مع حادثة الأربعة الرجال الذين صعدوا على سطح البيت وثقبوا سقفهُ لكي يقربوا عليلهم إلى يسوع (إصحاح 18:5) كل شيء يمرن إيماننا يزيدهُ إذا صبرنا، ويقال لذلك تزكية الإيمان (بطرس الأولى 7:1) ويقال عنها أنها اثمن من الذهب الفاني فلما ركض زكا متقدمًا وصعد إلى جميزة لم يكن عملهُ من الأعمال المستظرفة في أعين الناس وربما ضحكوا عليهِ لما التفتوا إلى رجل غني على هيئة كهذه ولكن مع ذلك كان عملهُ اثمن عند الله من الغنى الوافر المكنوز في بيتهِ؛ لانه كان مزمعًا أن يمر من هناك. ما أعجب الطريق الذي سلكهُ الرب من أول خدمتهِ إلى آخرها وكم من الاحتياجات البشرية اعترضت لهُ في سبيلهِ العجيب وكان يقدر أن يُجيب كل واحد كحاجتهِ تمامًا سواء كان بالكلام أو بالعمل. لم يغلط في شيء ولم يصرف أحدًا بدون الجواب المُناسب لهُ. يليق بنا أن نقول مَنْ مثلك يا رب مخلص الناس! وربما صعود زكا إلى الجميزة كان أظرف المناظر التي شوهدت في جميع الذين اقتربوا إلى يسوع أو طلبوا أن يروا مَنْ هو. فإنهُ سبقهُ في طريقهِ وانتظر حتى وصل إلى حيث كان.
5: فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ:«يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». 6 فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا. (عدد 5، 6).
فميَّز الرَّبَّ حالاً أن زكا أحد المُجتذبين إليهِ من الآب وألتفت إليهِ في الوقت المناسب ودعاهُ باسمهِ وأخبرهُ بأنهُ عازم أن يمكث كضيف في بيتهِ. فكان الجواب لإيمانهِ أكثر مما كان يمكن لهُ أن ينتظر. فأسرع ونزل وقبلهُ فرحًا. صعد إلى الجميزة بقصد أن يرى يسوع من هو وها هو نازل منها بسرعةٍ ليقبلهُ كضيف مكرَّم.
7: فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُل خَاطِئٍ». 8 فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ:«هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». 9 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، 10 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ». (عدد 7-10).
حصل التذمر من المعتدّين ببر أنفسهم بحسب عادتهم حين دخل يسوع إلى بيت ذلك العشَّار الشهير، ولكن الرعي الأمين يفتش على الخراف الضالة ونرى هنا فرح الخروف الضالّ بعد وجدانهِ كما قيل سابقًا عن زكا أنهُ أسرع ونزل وقبلهُ فرحان ثمَّ في هذا الفصل مسرورًا بحضور الرَّبِّ في منزلهِ بل في قلبهِ أيضًا فلم يلتفت إلى تذمرات الجموع من الخارج بل بادر
إلى تقديم أفخر ما يوجد عندهُ للسيد، ولكن فرحهُ تعاظم كنهر فائض. فوقف زكا وقال للرَّبِّ: ها أنا يارب أُعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحدٍ أرد أربعة أضعاف. أثمرت النعمة في زكا حالاً وأي ثمر. ما عاد يعتبر المال الموجود عندهُ إلاَّ كواسطة لمجد الرَّبِّ. وأخذ يصنع لنفسهِ أصدقاء من مال الظلم بدون تعليم صريح (راجع لوقا 9:16). إذ أعطى نصف أموالهِ للمساكين ولما تذكر عوائد العشَّارين المستخدمين تحت يدهِ شعر ضميرهُ بالظلم الذي يمارسونهُ غالبًا عند جمع العشَّار من الناس وصار حالاً يحسب كمسروق كل شيء محصَّل بالوشاية وعزم أن يردُّ للمظلوم أربعة أضعاف، انظر شريعة موسى في شأن السرقة (خروج 1:22). دخول النور ينبه ضمائرنا على الظلم الذي ارتكبناهُ ويحملنا على إصلاحهِ على قدر ما يمكننا كما أنهُ يفرح قلوبنا ويجعلنا كرماء في العطاء أيضًا. غير أن النعمة لا تأتينا على سبيل الطلب كما أننا لم نرَ أن الرَّبَّ وبخ زكا على الظلم ولا أمرهُ بأن يعطي شيئًا للفقراء ومع ذلك حضورهُ في البيت فعل عجائب في قلب زكا وضميرهِ أيضًا. لو أعطى عطية للفقراء وسكت عن الوشاية لم يكن في ذلك برهانًا لدخول نور الله الفاحص في ضميرهِ. يحدث بعض الأوقات أن الإنسان المنتبه يشعر بظلمهِ السابق ويضطرب قليلاً ويخاف أن يقرَّ بهِ، ولكن لكي يسكن ضميرهُ المضطرب يعطي هدية للفقراء كأن قليلاً من الإحسان يعادل الظلم ويكفر عنهُ. ولكن ذلك ليس ما يدلُّ على عمل إلهي في الذي يعمل هكذا بل إنما يظهر أن النور قد أحدث فيهِ قلق الضمير فقط. فقال لهُ يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضًا ابن إبراهيم. فالخلاص قد دخل البيت بدخول المسيح وقد حصل عليهِ زكا بقبولهِ المسيح ثمَّ ابتدأ يظهر الإثمار الدالَّة على حقيقة ما جرى كما قد رأينا ثمَّ صرح له الرَّبُّ أن الخلاص حصل لبيتهِ بناءَ على أن زكا تبرهن أنهُ ابن إبراهيم. يعني كان فيهِ إيمان صحيح مبرهن كإيمان أبي المؤمنين. لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك. هذا هو الجواب للمتذمرين فأنهُ كان يتمم إرساليتهُ بذهابهِ إلى بيت زكَّا وهذا يطابق مضمون (إصحاح 15).
11:وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ. 12 فَقَالَ:«إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكًا وَيَرْجعَ. 13 فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ. 14 وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا. 15 وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولئِكَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ. 16 فَجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. 17 فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ! لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدْنٍ. 18 ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. 19 فَقَالَ لِهذَا أَيْضًا: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدْنٍ. 20 ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعًا فِي مِنْدِيل، 21 لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. 22 فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، 23 فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِبًا؟ 24 ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ الْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ الْعَشَرَةُ الأَمْنَاءُ. 25 فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ! 26 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. 27 أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي». (عدد 11-27).
هذا المثل يشبه مثل الوزنات المذكور في (مَتَّى 14:25) ولكنه ليس إياهُ بعينهِ بل يختلف عنهُ في عدَّة أمور كما يتضح لمن يُقابلهما. كان جميع تلاميذهِ يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال يعني أن سيدهم عند وصولهِ إلى أُورشليم يتخذ قُدرتهُ العظيمة ويُكلَّل بتاج داود أبيهِ بحسب الجسد. فقال هذا المثل لينزع هذا الظن من بالهم ويُنبههم على أنهُ مزمع أن يغيب عنهم إلى حين وفي مدة غيابهِ تحدث أمور خلاف أفكارهم تمامًا. فقال: إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسهِ مُلكًا ويرجع. أقول:
أولاً- أن المسيح نفسهُ هو هذا الإنسان الشريف والكورة البعيدة هنا هي عبارة عن السماء التي كان مُزمعًا أن يذهب إليها. وعند ارتفاعهِ أخذ مُلكًا يعني السلطان المُطلق على السماء والأرض ولكنهُ قاصد أن يرجع أيضًا لكي يُحاسب عبيدهُ ويُعاقب أعدائَهُ.
ثانيًا- عبيهُ العشرة عبارة عن تلاميذ مدة غيابهِ إن كانوا حقيقيين أو بالاسم فقط كما سنرى. وأعطاهم عشرة أُمناء. لا يخفى أن المنا ضرب من العملة العبرانية يُعادل نحو خمس مئة وستين غرشًا وهو عبارة هنا عن عطايا المسيح لتلاميذهِ. ونرى هنا أنهُ يُعطيهم جميعًا سويةً أي منا واحدًا لكل واحد لأن المقصود بذلك إظهار المسئولية المسيحية التي تتوجب على جميع المُعترفين باسمهِ وقت غيابهِ. وأما في مثل الوزنات في (مَتَّى 15:25) فقيل: أنهُ أعطى واحدًا خمس وزنات وآخر وزنتين وآخر وزنة كل واحد على قدر طاقتهِ. حيث قصدهُ أن يُظهر اختلاف المواهب. وأما هنا فيُعطي لكل منهم منا واحدًا. وقال لهم: تاجروا حتى آتي. يعني كونوا أُمناء في ما أعطيتكم.