17 فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ» وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ «جُلْجُثَةُ»، 18 حَيْثُ صَلَبُوهُ، وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ. (عدد 17، 18.
يوحنا لا يذكر كثيرًا من حوادث صلب المسيح فإنهُ يرينا بالاختصار تتميم مشورة الله فيهِ مع أنهُ يُظهر إثم اليهود وارتدادهم عن إيمانهم القديم بغاية الوضوح وهذا يوافق منهج الوحي في إنجيلهِ. فبادروا لإجراء الحكم الذي حصلوا عليهِ بمكرهم وعملوا كل ما أمكنهم ليزيدوا العار والإهانة ناسين في وقتهِ أنهم أهانوا أنفسهم ليس أمام الله فقط بل أمام الناس أيضًا لأنهم صلبوا ملكهم بين لصيَّن.
19 وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا:«يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ». 20 فَقَرَأَ هذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَالّلاَتِينِيَّةِ. 21 فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلاَطُسَ: «لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ، بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ: أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ!». 22 أَجَابَ بِيلاَطُسُ:«مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ». (عدد 19-22).
الوالي كتب العنوان عن قصد ليغيظ اليهود ويفكرهم بأن ليس لهم الآن ملك بأن ليس لهم الآن ملك إلاَّ قيصر فاستأُوا الأمر لأن العنوان قال صريحًا ورسميًّا أن يسوع الناصري هو ملك اليهود ولأجل ازدياد المعلوميَّة كتبهُ الوالي في ثلاث لغات فلما اعترضوا عليهِ طالبين تغييرهُ أجابهم بإهانة قائلاً: ما كتبت قد كتبت. يعني أنهُ لا يُغيرهُ. كان إبليس إله هذا الدهر مستوليًّا تمامًا على اليهود ورؤساءهم فأغاظهُ ذاك العنوان لأنهُ أظهر شيئًا من أمجاد يسوع ولو كان مُعلَّقًا على الصليب وأراد أن ينسخهُ ولكن الله كان فوق مكر اليهود وظلم الأُمم وأبقى تلك الأحرف كما هي شهادة لهم وموضوع افتخار لنا. ويتضح ذلك أكثر جليًّا إذا نظرنا إلى أعمال الوالي إذ تساهل معهم وأذعن أن لهم في طلباتهم الأخرى وأما هذه الطلبة مع أنها كانت صغيرة جدًّا بحسب الظاهر بالنسبة إلى تلك فرفضها بالجفاء.
23 ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْمًا. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضًا. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. 24 فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ:«اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». هذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ. (عدد 23، 24).
كان أربعة عساكر رومانيين مأمورين بإجراء الصلب فلما تمموا مأموريتهم كانت ثياب المصلوبين لهم بحسب قوانين الدولة. وأما الوحي فلا ينسب لهم شيئًا من القساوة بل إنما يذكر ما عملوا بثياب يسوع لكي يُرينا أن يد الله كانت تُرتب جميع الحوادث المختصة بموت ابنهِ بتدقيق حتى من جهة القميص الذي قدَّم لهم الفرصة ليُتمموا النبوة المذكورة إلى آخر حرف من أحرفها. (انظر مزمور 18:22). فالمقصد بوصف القميص الوارد هنا إنما هو لإظهار الحقيقة إنهُ لم يكن للعساكر أن يقسموهُ فلذلك اتفقوا معًا أن يقترعوا عليهِ لمَنْ يكون. والبشير يقول صريحًا أن ذلك جرى لكي يتم قول الكتاب الذي يقتبسهُ. فإذًا لا توجد معاني أخرى سرّية لهذه العبارة.
25 وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. 26 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ:«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». 27 ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:«هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ. (عدد 25-27).
رأينا في (إنجيل لوقا 44:23-49) أن معارف يسوع والنساء كانوا واقفين من بعيدٍ ينظرون ما جرى مع سيدهم واستمرَّ الأعداء يظهرون البُغض والإهانة لهُ حتى حلَّ الظلام على الأرض فحينئذٍ دخلهم الخوف فتركوا موضع الصلب راجعين إلى المدينة. وإذا قابلنا ذلك مع ما ورد هنا يتضح أن أُمَّ يسوع وأُختها ومريم المجدلية والبعض من أحبَّاءهِ اقتربوا إلى الصليب لأن الظلام الذي أرعب الأعداء أعطى فرصة للأحباء للاقتراب إلى محبوبهم فكان يوحنا نفسهُ واقفًا هناك. فرآهُ يسوع وقال لأُمهِ: يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ المذكور: هوذا أُمُّك. لما كان الرب في خدمتهِ لم يقدر أن يُصادق على نسبتهِ إلى أُمهِ بحسب الجسد. لأنهُ كان منفرزًا انفرازًا كاملاً لله أبيهِ وتصرَّف في خدمتهِ كالابن الوحيد مع الآب والمُرسَل منهُ كما قال مرَّةً لتلاميذهِ. طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عملهُ (إصحاح 34:4). وقد رأينا أن أُمهُ اعترضت لهُ في أول خدمتهِ وهو رفضها قائلاً: ما لي ولكِ يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد (إصحاح 4:2) راجع أيضًا (مَتَّى 46:12-50). قابل هذا مع كلام موسى إذ مدح لاوي أي بعض اللاويين لأجل أمانتهم في خدمتهم قائلاً عنهُ: الذي قال عن أبيهِ وأُمهِ: لم أرهما وبإخوتهِ لم يعترف وأولادهُ لم يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك (تثنية 9:33). معلوم أنهُ يشير هنا إلى ما جرى في وقت صنع العجل الذهبي. فالشيء الممدوح في المشار إليهم أنهم راعوا مجد الله وحفظوا كلامهُ بغضّ النظر عن أقرب النسب البشرية مع أن حفظها واجب علينا في محلها. فكان الرب نذيرًا لله وقت خدمتهِ، كما قال سابقًا للآب: أنا مجَّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتهُ (إصحاح 4:17). ولكن بعد تكميل عمل الصليب نظر إلى أُمهِ وأسلمها إلى التلميذ الذي كان يُحبُّهُ. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصتهِ. لا نعلم ماذا كانت حالة مريم أم يسوع وقتئذٍ ولكن المُرجح أنهُ لم يبقَ لها بيت لا في الناصرة ولا في كفر ناحوم لذلك أوصى يوحنا بأن يقبلها عندهُ ويُعاملها كأُمهِ ففعل ذلك حالاً. قد رأينا في (إصحاح 2:7-9) ذِكرًا للذين تسمُّوا إخوة الرب وأنهم لم يكونوا يؤمنون بهِ في ذلك الوقت. إذ كانت أفكارهم عالمية بل اعترضوا للرب من جهة خدمتهِ. ولكنهُ يتضح أيضًا أنهم آمنوا بهِ بعد ذلك لأننا نراهم مذكورين ضمن المؤمنين بين الصعود ويوم الخمسين (أعمال الرسل 14:1). فلا يجوز أن نسأل لماذا لم يستودع الرب أُمهُ لأحدهم ؟ لأننا لسنا نعرف كيف كانت أحوالهم؟ وإنما نعلم ما ذُكر هنا وهذا يكفينا ويبرهن أيضًا أن الذي كان الله وابن الله كان إنسانًا أيضًا واهتَّم بما وجب عليهِ من هذا القبيل في الوقت المناسب.
28 بَعْدَ هذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ:«أَنَا عَطْشَانُ». 29 وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعًا مَمْلُوًّا خَّلاً، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. 30 فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ:«قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. (عدد 28-30).
يوحنا لا يذكر صراخ المسيح على الصليب لأنهُ إنما يدرج ما يظهر ارتفاعهُ فوق الحوادث العجيبة التي جرت ويُرينا إياهُ متمّمًا كل شيء بتدقيق طاعةٍ للذي أرسلهُ. ويشير إلى عملهِ الإلهي هنا بقولهِ: رأى يسوع أن كل شيء قد كمل. وكان هادئًا غاية الهدوء وتذكر عملاً آخر يجب أن يصنعهُ بحسب النبوات، فقال: أنا عطشان. لا شك بأنهُ كان عطشانًا بالحقيقة فإنهُ كان قد اجتاز في وسط الآلام متروكًا من الله وشاربًا كأس غضبهِ فلا عجب أنهُ عطش ولكنهُ إنما نطق باحتياجهِ لكي يتم الكتاب. وفي عطشي يسقونني خلاً (مزمور 21:69). وكان إناءٌ موضوعًا مملوًا خلاً. فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدَّموها إلى فمهِ. قد قيل أن الإناء المذكور هنا كان لأجل العساكر الرومانيين وأن المشروب فيهِ كان مزيجًا من الماء والخلّ بحيث أنهُ يروي العطش أكثر من الماء وحدهُ ولا يظهر أنهم عملوا العمل المذكور هنا على سبيل الإهانة. فلما أخذ يسوع الخلَّ قال قد أُكمل ونكَّس رأسهُ وأسلم الروح. فالمقصد الخصوصي هنا إظهار مجد ذات المسيح بحيث لما أكمل كل شيء بحسب مشيئة الآب صادق على عمل نفسهِ إذ قال: قد أُكمل. راجع أيضًا (إصحاح 4:17). ثم نكَّس رأسهُ وأسلم الروح كمن لهُ سلطان على ذلك كما سبق وقال عن وضعهِ نفسهُ (إصحاح 18:10).
31 ثُمَّ إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادٌ، فَلِكَيْ لاَ تَبْقَى الأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي السَّبْتِ، لأَنَّ يَوْمَ ذلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيمًا، سَأَلَ الْيَهُودُ بِيلاَطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا. 32 فَأَتَى الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ الأَوَّلِ وَالآخَرِ الْمَصْلُوبِ مَعَهُ. 33 وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. 34 لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. 35 وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. 36 لأَنَّ هذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ:«عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ». 37 وَأَيْضًا يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ:«سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ». (عدد 31-37).
لم يزالوا اليهود يحافظون على طقوسهم الجسدية ونرى هنا بُغضهم الشديد لابن الله وتتميمهم قتلهُ لم يقدر أن ينسبهم طهارة سبتهم القادم الذي حسبوهُ يومًا عظيمًا لعلاقتهِ مع الفصح. فالرؤساء في المدينة هم الذين دخلوا إلى بيلاطس وطلبوا منهُ أن تكسر سيقان المصلوبين لكي يموتوا سريعًا لأنهُ حدث بعض الأوقات أن مَنْ يُصلَب يبقى حيًّا في عذاب شديد مدة يومين أو ثلاثة أيام. كانت الشريعة قد أمرتهم بأنهُ إذا علَّقوا أحدًا على خشبه أن يُنزلوا جسدهُ قبل غروب الشمس لكي لا تتنجس أرضهم. فبادر أولئك الرؤساء إلى تتميم المفروض عليهم زاعمين أن أرضهم مقدَّسة بعد مع أنهم كانوا قد دنسوها من زمان طويل. فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معهُ. لما صدر الأمر من الوالي أتى عساكر لإجراءهِ ويظهر أنهم ميَّزوا يسوع عن الآخرين بحيث لم يكسروا سيقانهم بترتيب. وأما يسوع فلما جاءوا إليهِ لم يكسروا ساقيهِ لأنهم رأوهُ قد مات. رأينا آنفًا أنهُ لم يمت من فروغ قوتهِ بل من نفسهِ أسلم الروح لأنهُ لم يبق لهُ عمل آخر مما تعيَّن لهُ من أبيهِ. فأسلم روحهُ طاعةً لهُ. وحينئذٍ لم يكن سبب يوجب كسر ساقيهِ.لكنَّ واحدًا من العسكر طعن جنبيهُ بحربةٍ وللوقت خرج دم وماء. لم يكن الوالي قد أمر بعمل كهذا ولكن العسكري الذي تبرّع عليهِ عملهُ من بُغض غريزي في قلبهِ نحو ابن الله. فكأنهُ كان قد تشرَّب من روح رؤساء الكهنة الذين اضطهدوا يسوع مدة حياتهِ ولم يقدروا أن يسكتوا عنهُ حتى بعد موتهِ. ولا يخفى أن هذا مثال محزن لحالة قلوب كل البشر نحو يسوع المسيح لأن إهانة أجساد الموتى من أفعال التوحُّش. ولكن إذا كان ذلك العمل التبريري يمثّل لنا رداءة البشر وبُغضهم الغريزي لابن الله يعلن لنا أيضًا محبة الله العجيبة الفائقة الوصف لأنهُ ردَّ جوابًا عظيمًا لطعن الحربة إذ خرج دم وماء من الجنب المجروح. ولذلك اعتبارٌ عظيم لأن يوحنا يقول. والذي عاين شهد وشهادتهُ حقٌ وهو يعلم أنهُ يقول الحق لتؤمنوا أنتم. وهو الذي أعطانا شرحًا مُفصَّلاً على تلك الحادثة العجيبة، حيث يقول: هذا هو الذي أتى بماء ودمٍ يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم (انظر يوحنا الأولى 6:5) مع قرائنهِ. فلنتمعن قليلاً في هذا الموضوع. فأقول: