7 لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. 8 وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: 9 أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. 10 وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. 11 وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. (عدد 7-11).
فكان فقدانهم المسيح بحسب الجسد ربحًا عظيمًا لهم ولنا أيضًا. لأنهُ مزمع أن يعطيهم شيئًا أنسب لخيرهم من حضورهِ الشخصي. لأنهُ إن لم انطلق لا يأتيكم المُعزّي. ولكن إن ذهبت أرسلهُ إليكم. لم يكن من الأمور الممكنة أن الروح القدس يأتي حتى بعد موت المسيح وقيامتهِ وتمجيدهِ (راجع إصحاح 38:7، 39). كان قد عمل في العالم من بداءة الخليقة ولم يظهر شيء صالح في أحد إلاَّ بهِ ومع ذلك لم يأتِ قبل يوم الخمسين كما أن الأقنوم الثاني عمل سابقًا ولم يأتِ حتى وقت تجسدهِ. فكان أتيان الروح القدس متوقفًا:
أولاً- على تكميل عمل الكفارة بالمسيح على الصليب.
ثانيًا- على ارتفاعهِ كإنسان إلى المجد.
ولكن توجد علاقة تامة بين هذين الشيئين بحيث أن المجد في السماء يقابل الصليب على الأرض وهو جواب الله العادل للمسيح نظرًا إلى احتمالهِ الصليب تمجيدًا لهُ وكفارةً لنا. كما قال آنفًا مشيرًا إلى موتهِ وتمجيدهِ. إن كان الله قد تمَّجد فيهِ فأن الله سيمجدهُ في ذاتهِ ويمجدهُ سريعًا (إصحاح 32:13). كان الروح قد حلَّ عليهِ شخصيًّا، ولكنهُ لم يمنحهُ للآخرين حتى بعد تمجيدهِ الله بالموت وتمجيد الله إياهُ إذ رفّعهُ وجعلهُ رأسًا فوق كل شيء لأجل الكنيسة، فحينئذٍ كان لهُ حق أن يرسل الأقنوم الثالث إرسالية خصوصية إلى المؤمنين بهِ على الأرض ليمكث معهم ويعوّض لهم عن فقدانهم المسيح الحيّ. لاحظ هنا أن الرب هو الذي يرسلهُ خصوصًا للتلاميذ كقولهِ: إن ذهبت أُرسلهُ إليكم. سنرى بعد قليل أن لهُ عملاً مع العالم متى جاء، ولكنهُ يرسلهُ للتلاميذ. فيمتاز وقتنا الحاضر بشيئين أعني حضور المسيح كإنسان ممَّجد في السماء، وحضور الروح القدس على نوع خصوصي في الأرض. وإذا عرفنا ذلك روحيًّا نكون أكثر غبطةً مما كان التلاميذ وقت مرافقتهم المسيح على الأرض. مع أن ذلك كان بركة سامية جدًّا ، كان ملوك وأبرار يشتهون أن يتمتعوا بها. فما أعظم نصيبنا الحاضر. على أنهُ يجب علينا أن نتأسف أسفًا شديدًا لتباطوءنا في الإيمان وقلَّة تمتُّعنا بهِ. ولكنهُ لنا إن كنا للمسيح الذي أعطانا هذه العطية مجانًا. لاحظ جيدًا أن مجيء المُعزّي توقف على ذهاب المسيح، وليس على شيء في التلاميذ إلاَّ ضعفهم وحزنهم واحتياجهم إلى التعزية. ولما أتى بقى، خلاف المسيح الذي أتى وذهب. وكان حضورهُ هنا محصورًا في موضع واحدًا كما كان معهم في تلك العلّية مثلاً، وأما الروح القدس فيحلُّ في جميع المؤمنين اجتماعيًّا وشخصيًّا، ويفعل فيهم بطرق فعالة إلهية. هذا تعليم كلمة الله ولا يجوز أن نضيف إليهِ أو نحذف منهُ شيئًا. كثيرون يقرُّون شفاهيًّا بلاهوت الروح القدس ولزوم عملهِ، ومع ذلك يحسبون الإقرار بحضورهِ وسكناهُ فينا كتعليم غريب. ونرى أن البعض يستمرُّون على طلب حلولهِ كأنهُ لم يأتِ بعد أو وإن أتى مرةً عاد وذهب. وغيرهم يحسبون حضورهُ محصورًا عند بعض أشخاص رسميين وذلك فقط متى مارسوا بعض واجباتهم الرسمية. ولكن هذا كلهُ من الأفكار البشرية، وليس من كلمة الله.
ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيةٍ وعلى برٍ وعلى دينونةٍ. سبق قولهُ أن العالم لا يقبل ولا يرى الروح القدس وهذا صحيح، ومع ذلك لهُ عمل مع العالم إذ يبكتهم على ثلاثة أشياء. وأما معنى لفظة تبكيت بحسب الأصل اليوناني: فهو الاستذناب والتخطيئة أو التغليط. فالعالم مُذنب ومخطئ وغلطان من جهة عملهم مع المسيح. فالروح القدس يعاملهم باعتبار هذا الموضوع، لأن الله من وقت رفضهم ابنهُ وإهانتهم إياهُ يجري جميع معاملاتهِ بالنظر إلى تلك الحادثة الغريبة. أما على خطيةٍ، فلأنهم لا يؤمنون بي. كان الجميع خطاة بدون شك ولكن برهان خطيتهم القاطع هو عدم إيمانهم بالمسيح حين أتى إليهم بالنعمة. كان في العالم وكُوّن العالم بهِ، ولم يعرفهُ العالم. إلى خاصتهِ جاء وخاصتهُ لم تقبلهُ (إصحاح 10:1؛ راجع أيضًا إصحاح 14:3-21) وترى أن حضور ابن الله كالنور الحقيقي في الأرض جعل العالم أجمع تحت المسئولية بأن يقبلوهُ. لا شك بأن الذين عاينوا أعمالهُ ورفضوهُ كانوا أذنب أشخاصًا من الآخرين، وهكذا قال لهم الرب عدَّة مرار في هذا الإنجيل، ولكن مع ذلك كان يجب على القليل أن جميع الخلائق العاقلين يعرفون خالقهم لما حضر، فتبرهن أنهم جميعًا أبلد من الثور والحمار (انظر إشعياء 3:1). وبالحقيقة الله بمعاملاتهِ مع إسرائيل من الأول إلى الآخر كان يمتحن قسمًا من الجنس الساقط لكي يظهر ما هو شكلهم جميعًا. ونتيجة الامتحان أن الجميع قد فسدوا معًا وهم كالظلمة الكثيفة التي لا تدرك النور. هذا وصف الجنس كلهُ يهودًا كانوا أم أممًا، ولا يوجد فرق. فكأن الروح القدس يخاطب جميع البشر إلى الآن قائلاً: كان ابن الله حاضرًا في وسطكم مرَّةً فلماذا لم تؤمنوا بهِ. نعلم أن لهُ عدَّة معاملات مع الناس كل واحد وحدهُ بحسب مقدار النور المعطى لهُ، ولكن شكواهُ العظيمة على العالم أنهم لم يؤمنوا بابن الله. فلم يزل ذات العالم الذي نعرفهُ عديم الإيمان.
وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. فاستذنابهُ العالم على خطيةٍ كما مرَّ ذكرهُ يجري باعتبار ما يحتاجون إليهِ كانوا مذنبين، لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله فاحتاجوا إلى برّ ليؤهلهم للوقوف أمامهُ بدون أن تدركهم الدينونة العادلة، ولا يمكنهم بعد أن يجدوا برًّا إلاَّ في الذي أهانوهُ ورفضوهُ من الأرض. ومعنى قولهِ: فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. أنا مرفوض من العالم وذاهب بطريقي المعيَّنة إلى أبي وأنتم لا ترونني بعد كمسيح حيّ على الأرض. فيخاطب التلاميذ خاصة مع أن كلامهُ يشير إلى حقيقة عظيمة تعنيهم وإسرائيل والعالم أيضًا لأنهم قد فقدوهُ إلى الأبد من جهة حالتهِ التي كان عليها قبل الموت. فلا يمكن أن نعرفهُ هكذا الآن (انظر كورنثوس الثانية 16:5). ليس هو الآن حيًّا على الأرض في وسط إسرائيل ولا معلَّقًا على الخشبة ولا مضطجعًا في القبر لأنهُ قد انتقل إلى حالة أخرى لم يسبق لها نظير لإنسان قبل يعني حالة إنسان مقام من الأموات بجسد متغير، نعم، وقد ذهب إلى أبيهِ وقد صار برَّ الله لأجل المؤمنين بهِ (انظر رومية 21:3-26؛ كورنثوس الثانية 21:5). معلوم أن العالم يعتدُّون ببرّ أنفسهم ولا يخضعون لبرّ الله إذ يفضلونهُ على المسيح ونرى هنا أن الروح القدس يغلطهم في شأن هذا الموضوع. هم قتلوا المسيح ظلمًا، وأما الله فأقامهُ من الأموات بالحق والعدل وأصعدهُ إلى يمينهِ فلا يمكن أن نجد برًّا مقبولاً إلاَّ فيهِ. لاحظ أن هذا الكلام الذي نحن في صددهِ الآن لا يصف لنا عمل الروح القدس في قلوب وضمائر الذين يأتي بهم إلى التوبة والإيمان لأننا نعلم أنهُ ينبه ويحيي إلى خلاف ذلك من أفعالهِ المنتهية بالخلاص. فالموضوع الخصوصي هو التبكيت والعمل المعبَّر عنهُ بهذه اللفظة إنما يجري نحو البشر بصفتهم كالعالم. و لا يزال يعاملهم من جهة هذه الأشياء الثلاثة وإن لم يخلص أحد منهم. مثلاً اليهود والكفرة بين النصارى لا يقدرون أن يتخلصوا من المسألة العظيمة من هو المسيح؟ وماذا حصل لهُ في العالم؟ وأين هو الآن؟ نرى أن يسوع انفرد مرةً مع تلاميذهِ وسألهم قائلاً من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان (انظر مَتَّى 13:16-17) فأقرُّوا بجوابهم أنهُ لا يوجد في إسرائيل إيمان بشخصهِ بل آراء متنوعة فقط. ثمَّ قال لهم: وأنتم من تقولون أني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحيّ. وأما الروح القدس فكأنهُ يعيد نفس هذا السؤال للعالم ويبكتهم أيضًا على عدم إيمانهم بهِ وسوء معاملتهم إياهُ حين حضر إليهم. هذا عملهُ مع جميع الناس الذين يبلغهم أقل مقدار من نور الإنجيل. وأما الوثنيون الذين لم يسمعوا شيئًا عنهُ فهم محكوم عليهم بموجب شهادة أعمال الخليقة لوجود الله وقوتهِ السرمدية (رومية 18:1-32).
وأما على دينونةٍ فلأن رئيس هذا العالم قد دين. هذا على ما ينبغي أن يخافوا منهُ. فيبكتهم الروح:
أولاً- على ما عملوا.
ثانيًا- على ما يحتاجون إليهِ.
ثالثًا- على ما يجب أن يملأهم خوفًا ويردَّهم عن الخطية.
وأما الدينونة فليست من الحقائق المُعلنة حديثًا لأن الإنسان ابتدأ حياتهُ بعد السقوط بسماعهِ كلام الله من جهة الدينونة. كان الشيطان قد أغواهُ وقادهُ إلى التعدي. وخطيتهُ حوَّلت الخالق الحنون إلى قاض. ومن تلك الساعة إلى الآن حيثما نظر بين البشر لم ينظر إلاَّ خطاياهم. لم يزالوا ينقادون اختياريًّا وراء المُغوي العظيم حتى أنهُ قادهم أخيرًا إلى رفض ابن الله. كان الله قد حكم على آدم بمكابدة الأتعاب والمشقَّات وطردهُ من الجنَّة إلى حيث ينبت الشوك والحسك وأما البشر فحكموا على الله حين ظهر في الجسد وطردوهُ من الأرض. وكان إبليس الفاعل فيهم في ذلك ولكنهم طاوعوهُ باختيارهم والرضى التام فكمل أثمهُ وأثمهم سويةً. فدينونتهُ هي دينونتهم أيضًا. لاحظ أنهُ لم يلقَّب رئيس هذا العالم قبل صلب المسيح. كان قد أدَّعى وقت التجربة أن ممالك العالم لهُ ولكنهُ لم يكتسب هذا اللقب حتى برهن قوتهُ ونفوذهُ على البشر باهاجتهم على ابن الله. وأما القول عنهُ أنهُ: قد دين، فيعني أن الله قد أصدر الحكم عليهِ. نعلم من مواضع كثيرة أن الحكم لم يجر بعد، ولكنهُ قد خرج فسيجري في الوقت المعين كما نرى في سفر الرؤيا. في جميع الرسائل يتكلم الوحي عنهُ كعامل في العالم بل بين القديسين أيضًا ويلقبهُ إله هذا الدهر ورئيس سلطان الهواء إلى أنهُ يذكر صريحًا إجراء حكمهِ:
أولاً- بطردهِ من السماء.
ثانيًا- بطرحهِ في النار.
نعلم أنهُ قد أعمى عيون الغير المؤمنين إلى هذا المقدار حتى أنهم لا يعرفون أن رئيسهم قد دين وأن الدينونة ستجرى فعلاً فيهِ وفيهم عن قريبٍ. ومع عماهم واستخفافهم لا يزال الروح القدس يبكتهم من جهة الدينونة ويقرن دينونتهم مع دينونة إبليس (انظر مَتَّى 41:25؛ رؤيا إصحاح 20) مع شهادات أخرى. قال الرب سابقًا. الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا (إصحاح 31:12) حيث يشير إلى انتصارهِ هو على إبليس بواسطة موتهِ. فيطرح خارجًا حتى الآن من جهة إيماننا لأنهُ عدو مغلوب لمن فيهِ إيمان حيث فغلبهُ بدم المسيح وبكلمة شهادتنا. ثمَّ في هذا الموضع يعلن لنا حقيقة أخرى أي صدور الحكم عليهِ.
لولا حضور الروح القدس كمبُكت في العالم لكان الناس قد نسوا دينونة الله من زمان طويل لأنهم يعملون جهدهم لينّسوها. ولا يُخفى أن إبليس يعمل بمعظم الخداع ليقتلع هذا الفكر من قلوبهم، ولكنهُ باقٍ فيهم على نوعٍ ما رغمًا عنهُ وعنهم غير أنهم يستهزأون بسرعة مجيئها ويتهاونون بالنبوات المُنبئة بذلك (انظر بطرس الثانية إصحاح 3) وترى حالة أفكار العالم الآن تمامًا، لا يمكنهم أن ينكروا حقيقة الدينونة، ولكنهم يؤخرون إجراءها لوقت مستقبل بعيد جدًّا حتى لا يبقى لها فعل في ضمائرهم. ونعلم أنهم بعد اختطاف الكنيسة يتهورون في الكفر المحض كأن الله قد ترك الأرض ولا ينظر ولا يطالب. أخيرًا أقول للقارئ المسيحي أننا كنا جميعًا من العالم في الأصل واختبرنا حالة الناس إذ كنا مثلهم، ولكنهُ ينبغي أن نشكر فضل نعمة الله في كل حين لأن الروح القدس عمل معنا ونبهنا إذ بكَّتنا على ما عملنا وعلى ما احتجنا إليهِ وعلى ما يجب أن نخاف ونهرب منهُ وليس ذلك فقط بل أحيانا روحيًّا أيضًا وألزمنا بأن نهرب من الغضب الآتي ونلتجئ إلى المسيح لأجل الخلاص المؤبد.