الأصحاح الثانى
آدم فى الفردوس
( 1 ) تقديس اليوم السابع
" فأكملت السموات والأرض وكل جندها ، وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل ، فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل ، وبارك الله فى اليوم السابع وقدسه ، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمله الله خالقا " ( تك 2 : 1 – 3 ) .
ماذا يعنى " استراح فى اليوم السابع " ؟ بلا شك الراحة هنا لا تعنى التوقف عن العمل ، وإنما استراح براحة خليقته ، وكما يقول القديس أغسطينوس : [ راحة الله تعنى راحة الذين يستريحون فى الله ] . راحته كأب سماوى أن يجد محبوبيه ينعمون بالراحة الداخلية الحقة ، إننا نستريح عندما نصنع أعمالا صالحة ، كمثال لذلك كتب عن الله أنه " استراح فى اليوم السابع " وذلك عندما صنع كل أعماله وإذا بها حسنة جدا ، إنه لم يتعب ولا احتاج إلى راحة ، كما أنه لم يترك عمله حتى الآن ، إذ يقول ربنا يسوع المسيح بصراحة : " أبى يعمل حتى الآن " ( يو 5 : 17 ) .
ويبقى الله فى راحته مادام الإنسان أيضا يستريح فى حضن أبيه السماوى . لهذا رأى كثير من الآباء أن وصية " حفظ السبت " والتى تعنى فى العبرية " الراحة " إنما هى رمز للثبوت فى السيد المسيح بكونه " راحة الآب " ، فيه يجد لذته من جهتنا ، وكأن السيد المسيح هو : " سبتنا الحقيقى ".
هذا ويلاحظ أن الكتاب المقدس لم يقل عن اليوم السابع : " وكان مساء وكان صباح يوما سابعا " ، وكما يقول القديس أغسطينوس : [ لا نجد فى السبت مساء ، لأن راحتنا بلا نهاية ، إذ يضع المساء نهاية ] .
( 2 ) آدم فى الفردوس
إن كان الله قد خلق للأنسان المسكونة كلها من أرض وجلد وفضاء وكواكب ... إنما ليلمس فيها أبوة الله ورعايته الفائقة ، وقد كشف عن هذه الأبوة بالحديث بعد ذلك فى شىء من التفصيل عن خلق الأنسان وإقامة جنة عدن شرقا لأجله .
يروى الجنة نهر قيل عنه : " وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس " ( تك 2 : 10 ) .
إن كانت شجرة الحياة تشير إلى السيد المسيح واهب الحياة ، فإن النهر الذى يسقى الجنة هو الروح القدس الذى يفيض على أرضنا خلال مياة الروح القدس فيحول قفرنا إلى جنة تفرح قلب الله . تحدث السيد المسيح عن هذا النهر ، قائلا : " من آمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى " ( يو 7 : 38 ) .
( 3 ) وصية الله لآدم
" وأخذ الرب الإله آدم ووضعه فى جنة عدن ليعملها ويحفظها " ( تك 2 : 15 )
قبل أن يقدم الله لآدم وصية الحب والطاعة ، وضعه فى جنة عدن ليعمل ويحفظ الجنة ، قدس الله العمل فأقام أكمل خليقته الأرضية لكى يعمل ، ووهبه الحكمة لكى يحفظ الجنة ، وكأن الله أقام وكيلا له على عمل يديه ليمارس العمل ببهجة قلب وبتعقل !
إذ وهبه الله هذه العطية ، عطية العمل فى الجنة وحفظها ، قدم له وصية : " من جميع شجر الجنة تأكل أكلا ، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت " ( تك 2 : 16 ، 17 ) .
ربما يتساءل البعض : هل من حاجة لهذه الوصية ؟ نجيب بأن الوصية تكرم من شأن الأنسان إذ تعلن حرية إرادته ؛ فقد أراد الله أن يتعامل معه على مستوى فائق ، ظن البعض أن الجزاء صعب للغاية ولا يتناسب مع الوصية بعد الأكل من ثمرة معينة ، لكن يجيب الدارسون على ذلك بالآتى :
أولا : أن الجزاء ليس بسبب نوع الوصية إنما بسبب الفكر الداخلى الذى قابل محبة الله الفائقة ورعايته للإنسان بالجحود .
ثانيا : بشاعة العقوبة تتناسب مع عطية الحرية الإنسانية وتقدير الله للإنسان .
ثالثا : بشاعة العقوبة تبرز قوة الخلاص الذى يقدمه الله للإنسان ببذل الأبن الوحيد الجنس .
رابعا : العجيب أن العقوبة سقطت بثقلها على الأرض والحية ، فلم يلعن الله آدم ولا حواء لكنه لعن الحية بسبب مخادعتها للإنسان ، وللأرض بسبب الساكن فيها ! الله فى محبته أبرز مرارة الخطية ، لكنه لم يلعن الإنسان .. أى حب أعظم من هذا ؟! .
( 4 ) خلق حواء
" وقال الرب الإله : ليس جيدا أن يكون آدم وحده ، فأصنع له معينا نظيره " ( تك 2 : 18 ) إن كان خلق العالم ككل قد احتاج إلى ملايين السنين ، لكن الوحى سجله فى اصحاح واحد باختصار شديد لكى يبقى الكتاب المقدس كله يعلن اهتمام الله بالإنسان على وجه الخصوص ، مركز العالم فى عينى الله .
جاء تعبير " معينا نظيره " يكشف عن مفهوم الحياة الزوجية ، علاقة آدم بحواء ، أو الرجل بالمرأة ، فالزوجة معينة لرجلها ، كما أن الرجل معين لزوجته ، وهى نظيره لا تتشامخ عليه ولا هى أقل منه !
جاءت قصة خلق حواء تحمل رمزا لخلق الكنيسة عروس المسيح ، التى من أجلها أخلى العريس ذاته ليلتصق بها وينطلق بها إلى سمواته ، وقد جاءت كتابات الكنيسة الأولى تحمل فيضا من الحديث عن خلق حواء وعلاقتها بالكنيسة عروس المسيح ؛ من كلمات القديس أغسطينوس فى هذا الشأن :
[ متى خلقت حواء ؟ عندما نام آدم !
متى فاضت أسرار الكنيسة من جنب السيد المسيح ؟ عندما نام على الصليب ]
أخيرا بعد أن تحدث عن خلق حواء والتصاقها بالحب مع آدم ، قال : " وكان كلاهما عريانين آدم وحواء وهما لا يخجلان " ( تك 2 : 25 ) . كانا عريانين جسديا ، ومستورين روحيا لهذا لم يجدا ما يخجلهما ، لأن ما يخجل الأنسان ليس جسده بل الفساد الذى دب فيه بسبب الخطية ، لهذا يرى بعض الآباء فى الدخول إلى جرن المعمودية عراة عودة إلى الفردوس حيث كان الإنسان فى نقاوة قلبه عريانا حسب الجسد ولا يخجل .