تسلمت الكنيسة المسيحية من يدى الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم ، وقد احتل هذا السفر مركزا خاصا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزى يعلن عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته ، أو بين الله والنفس البشرية كعضو فى الكنيسة .
ربما يتسآل البعض : لماذا استخدم الوحى هذا الأسلوب الرمزى الغزلى فى التعبير عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته ؟
( 1 ) اعتاد الله أن يتحدث معنا خلال الوحى بذات الأسلوب الذى نتعامل به فى حياتنا البشرية ، فهو لا يحدثنا فقط باللغات البشرية بل ويستخدم أيضا تعبيراتنا ، حتى لا يكون الوحى غريبا عنا .
نذكر على سبيل المثال أن الوحى يتحدث عن الله بأنه حزن ، وغضب ، أو ندم ، .... مع أن الله كلى الحب لن يحزن لأنه لا يتألم ، ولا يغضب إذ هو محب ، ولا يندم لأن المستقبل حاضر أمامه وليس شىء مخفى عنه . لكنه متى تحدث الكتاب عن غضب الله إنما يود أن يعلن لنا أننا فى سقطاتنا نلقى بأنفسنا تحت عدل الله ، وما يعلنه الوحى كغضب إلهى إنما هو ثمر طبيعى لخطايانا ، نتيجة هروبنا من دائرة محبته .
وعندما يتحدث الكتاب المقدس عن كرسى الله أو عرشه ، فهل أقام الله له كرسيا أو عرشا محدودا يجلس عليه ؟ ألم تكتب هذه كلها لكى نتفهم ملكوت الله ومجده وبهاءه حسب لغتنا وتعبيراتنا البشرية ؟!
على نفس النمط يحدثنا الوحى عن أعمق ما فى حياتنا الروحية ، ألا وهو اتحادنا بالله خلال الحب الروحى السرى ، فيستعير ألفاظنا البشرية فى دلائل الحب بين العروسين ، لا لتفهم علاقتنا به على مستوى الحب الجسدانى ، وإنما كرموز تحمل فى أعماقها أسرار حب لا ينطق به .
( 2 ) هذا المفهوم للحب الإلهى كحب زوجى روحى يربط النفس بالله ليس غريبا عن الكتاب المقدس ، فقد استخدمه أنبياء العهد القديم كما استخدمه رجال العهد الجديد أيضا ، كما سنرى ذلك عند حديثنا عن " العرس السماوى " .
( 3 ) عبارات هذا السفر لا يمكن أن تنطبق على الحب الجسدانى ، ولا تتفق مع القائلين أنه نشيد تغنى به سليمان حين تزوج بأبنة فرعون أو ما يشبه ذلك ، نذكر على سبيل المثال : " ليقبلنى بقبلات فمه ، لأن حبك أطيب من الخمر " ( 1 : 1 ) ... هكذا تناجى العروس عريسها ، لكنها تطلب قبلات آخر " فمه " ..... مع أنها تعلن له " حبك " أطيب من الخمر ، كيف يمكن لعروس أن تطلب من عريسها أن يقبلها آخر بينما تستعذب حب العريس نفسه ؟ يستحيل أن ينطبق هذا على الحب الجسدانى ، لكنه هو مناجاة الكنيسة للسيد المسيح عريسها ، فتطلب قبلات فم الآب ، أى تدابيره الخلاصية . والتى تحققت خلال حب الأبن العملى ، كقول الكتاب : " الأبن الوحيد الذى فى حضن الآب هو خبر " ...
كاتب السفر :
كتب هذا السفر سليمان الحكيم ، الذى وضع أناشيد كثيرة ( 1 مل 4 : 32 ) .
وقد لقب " نشيد الأناشيد " ، وذلك لأن تكرار كلمة " نشيد " تشير إلى أفضليته على غيره من الأناشيد ، كالقول : " ملك الملوك " ، و " رب الأرباب " و " قدس الأقداس " .....
سمات السفر :
إن كان سليمان قد كتب سفر الجامعة مدركا حقيقة الحياة الأرضية أنها " باطل الأباطيل " فإنه إذ تلامس مع الحياة السماوية وجدها " نشيد الأناشيد " .
فى سفر الجامعة يعلن الحكيم أنه لا شبع للنفس خلال كثرة المعرفة ، أما فى سفر نشيد الأناشيد فتشبع النفس وتستريح تماما بالحب الإلهى ، ولا تكون بعد فى عوز .
فى سفر الجامعة يتحدث عن كل ما هو تحت الشمس وإذا ليس فيه جديد ، أما فى النشيد فإذ تدخل النفس إلى أحضان الله ترى كل شىء جديدا .
كان هذا السفر يقرأ فى اليوم الثامن من الأحتفال بعيد الفصح عند اليهود ، بكونه نشيد الحب الأبدى المقدم لله ، أو الذى يربط الله بالمؤمنين الذين ينعمون بالخلاص خلال الدم ، فاليوم الثامن يشير إلى ما بعد أيام الأسبوع ( 7 أيام ) ، أى يشير إلى الحياة الجديدة ، أو الحياة الأخرى التى تنعم بها خلال المسيح فصحنا الحقيقى ، وكأن النشيد يحمل نبوة عن الفصح الحقيقى الذى ينقذنا من الموت ويدخل بنا إلى حجاله " سماء السموات " ، عروسا عفيفة ، متحدة به اتحادا أبديا .
سفر نشيد الأناشيد فى الحقيقة هو سيمفونية رائعة ، تطرب بها النفس المنطلقة من عبودية هذا العالم ، متحررة من سلطان فرعون الحقيقى " الشيطان " ، متكئة على صدر ربها ، تدخل أورشليم السمائية فى حرية مجد أولاد الله ، لهذا لا يتحدث هذا السفر عن وصايا أو تعاليم ، بل عن سر الحب الأبدى والحياة مع العريس السماوى .... هو سيمفونية القلب المتحد مع مخلصه ! هو نشيد فريد من نوعه وفى معانيه ، يترنم به من تقدس بدم الحمل ، داخلا بدالة الحب إلى قدس الأقداس السمائى بغير كلفة أو روتين أو رسميات ... حتى يستقر فى حضن الآب ، مرتفعا فوق كل فكر مادى جسدانى إلى الفكر الروحى الحق ، كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص : " نشيد الأناشيد فى الحقيقة هو أغنية الحب الإلهى ، مسجلة برموز غزلية ، تحمل معان سماوية ، أكثر عمقا مما يحمله ظاهرها ، يترنم بها الناضجون روحيا ، الذين عبروا اهتمامات العالم والجسد وانطلقوا سالكين بالروح ، لذلك يسميه العلامة أوريجانوس " سفر البالغين " .
وأخطر ما نخشاه أن يجد الجسدانيون الأرضيون سبيلا إلى هذا السفر ! أنها مجازفة قاتلة للجسدانى الذى لا عهد له أن يسمع أو يتعامل بلغة الحب فى طهارة .... ونصيحتى لكل انسان مازال فى ظلمة الجسد وتتحكم فيه الطبائع البشرية أن يبتعد عن قراءة هذا السفر .
سفر العرس السماوى :
سفر نشيد الأناشيد هو سفر العرس السماوى ، فيه تتحقق إرادة الله الأزلية نحو الأنسان ، ... هو نبوة لسر الزفاف الأسخاتولوجى ( الآخروى ) ، فيه تزف الكنيسة الواحدة ، الممتدة من آدم إلى آخر الدهور ، عروسا مقدسة .
هذا العرس تطلع إليه يوحنا المعمدان حين قال : " من له العروس فهو العريس " ( يو 3 : 19 ) ، وهو غاية كرازة الرسل ، إذ يقول الرسول " فإنى أغار عليكم غيرة الله ، لأنى خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح " ( 2 كو 11 : 2 ) ، " هذا السر عظيم ، ولكننى أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة " .
المسيح فى سفر النشيد :
يليق بنا فى دراستنا للكتاب المقدس بوجه عام ، ولهذا السفر بوجه خاص ألا نقف عند الحرف واللفظ ، بل ندخل إلى الأعماق ، لنلتقى مع الله الكلمة نفسه ، نرى يسوعنا واضحا ، حيا ، يريد الأتحاد بنا لنعيش به ومعه إلى الأبد .
يليق بنا فى دراسة الكتاب المقدس ألا نقف عند مادة الألوان ، بل ننظر شكل الملك الذى تعبر عنه مفاهيم الذهن الطاهرة خلال الكلمات ، فالألوان هنا هى الكلمات الحاملة لمعان غامضة مثل ( ما جاء فى هذا السفر من كلمات ) : " الفم ، القبلات ، المر ، الخمر ، ... وما أشبه ذلك " أما الشكل الذى عبرت عنه هذه الكلمات فهو : هالة الكمال والطوباوية ، الأتحاد مع الله ، عقال الشر ، المجازاة عما هو بحق صالح وجميل " .
شخصيات السفر :
العريس : هو السيد المسيح الذى يخطب الكنيسة عروسا مقدسة له ( أف 5 : 27 ) .
العروس : وهى الكنيسة الجامعة ، أو المؤمن كعضو حى فيها ، وتسمى " شولميث " .
العذارى : فى رأى العلامة أوريجانوس هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد العمق الروحى ، لكنهم أحرزوا بعض التقدم فى طريق الخلاص .
بنات أورشليم : ويمثلن الأمة اليهودية التى كان يليق بها أن تكرز بالمسيا المخلص .
أصدقاء العريس وهم الملائكة الذين بلغوا الأنسان الكامل ( أف 4 : 13 ) .
الأخت الصغيرة : وهى تمثل البشرية المحتاجة من يخدمها ويرعاها فى المسيح يسوع .
والآن هلموا نقترب من سفر الأسرار الكنسية ، سفر البتولية ، سفر الحب الروحى بين العريس وعروسه الكنيسة .