إرميا - الإصحاح التاسع
مرثاة على الجميع
رأينا فى الإصحاح السابق كيف كاد قلب إرميا النبى أن يتمزق بسبب ما سيحل على شعبه من تأديبات قاسية مع إصرار الشعب على عدم التوبة . وها هو هنا يدعو إلى إقامة مرثاة على شعبه بسبب ما بلغ إليه من شكلية فى عبادته وحرفية فى حفظه للشريعة بلا ثمر روحى :
( 1 ) بكاء النبى الدائم
" يا ليت راسي ماء وعينيّ ينبوع دموع فابكي نهارا وليلا قتلى بنت شعبي " ع 1 .
لم يكن أمام إرميا النبى الذى توجعت أحشاؤه فى داخله ، وكادت جدران قلبه أن تنهار إلا أن يبكى بمرارة ، ويود أن يبقى باكيا بغير توقف حتى يعمل روح الله لتبكيت الشعب واعترافهم بخطاياهم فيعودون إلى الرب .
كان بكاء الرجال علانية أمام الآخرين معيب ، ففى أفضل وضع يحسب علامة عن الضعف . لكن إرميا قبل أن ينسب إليه الضعف من أجل خلاص شعبه .
" يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين ،
فاترك شعبي وانطلق من عندهم ،
لانهم جميعا زناة جماعة خائنين " ع 2 .
فى رقة شديدة حمل إرميا النبى أخطاء شعبه فى قلبه وفكره وكل أحاسيسه ، فتفجرت فيه ينابيع دموع لا تتوقف وتنهدات داخلية مرة . كان فى هذا رمزا للسيد المسيح ، العبد المتألم ، الذى حمل أحزاننا ، لكن شتان ما بين إرميا النبى والسيد المسيح .
( 2 ) عدم مبالاتهم بحالهم
إن كان النبى قد كرس حياته للدموع من أجلهم لأنهم كانوا يجرون من شر إلى شر فى خيانة لعريس نفوسهم ، فإنهم من جانبهم لم يبالوا بدموعه ، بل حسبوه إنسانا متشائما يحطم نفسيتهم ، يستحق الطرد ، بل والموت ، وذلك لأنهم لم يدركوا ما هم عليه . ويقدم لنا النبى علتين لعدم مبالاتهم ، هما :
أولا : انشغلوا بالمكر :
" يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب لا للحق ،
قووا في الارض.
لانهم خرجوا من شر الى شر واياي لم يعرفوا يقول الرب " ع 3 .
إذ تحولت ألسنتهم إلى أداة للحرب ، لا لحساب الحق بل للكذب ، ظنوا أنهم أقوياء ، فانطلقوا فى الخبث من شر إلى شر ، ودخلوا فى دوامة الخطية ، ولم يجدوا فرصة للوقوف إلى حين ومراجعة النفس .
يكمل النبى حديثه عن خطورة المكر :
" احترزوا كل واحد من صاحبه ،
وعلى كل اخ لا تتكلوا لان كل اخ يعقب عقبا وكل صاحب يسعى في الوشاية .
ويختل الانسان صاحبه ولا يتكلمون بالحق.
علّموا السنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الافتراء " ع 4 ، 5 .
يدهش إرميا النبى من الإنسان الذى فى شره يرفض الصداقة مع الحق ، هذه التى تقدم له الراحة بلا تعب داخلى ، بينما يبذل كل الجهد ليتعلم الأفتراء . وكما يقول الأب غريغوريوس ( الكبير ) : [ إنهم يتعبون لكى يخطئوا . وبينما يرفضون أن يعيشوا بالبساطة ، إذا بهم يطلبون بالأتعاب أن يموتوا ] .
إنهم يرفضوا السكنى فى الله والوجود فى أحضانه ، ليستقروا فى قلب إبليس الكذاب والمخادع ، بهذا فقدوا معرفة الرب ، إذ قيل :
" مسكنك في وسط المكر.
بالمكر ابوا ان يعرفوني يقول الرب " ع 6
ماذا يعنى فقدانهم معرفة الرب ؟
عدم إدراكهم أن الله محب حتى فى تأديباته ، أما الأشرار فمبغضون حتى فى قبلاتهم .
" لذلك هكذا قال رب الجنود :
هانذا انقيهم وامتحنهم.
لاني ماذا أعمل من أجل بنت شعبى ؟
لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش .
بفمه يكلم صاحبه بسلام ،
وفى قلبه يضع له كمينا " ع 7 ، 8 .
+ تحتمل جراحات الأعداء بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرا .. فقدوا معرفتهم للرب بلسانهم الغاش ، الذى يكلم صاحبه بالسلام وهو يخطط له فى قلبه لهلاكه ، الأمر الذى تجسم بصورة بشعة فى يهوذا الذى كان تلميذا للرب ، وملتصقا به حسب الجسد ، لكنه لم يعرفه كرب ومخلص ، فأسلمه بقبلة غاشة .
+ لم يكن أحد مجرما فى حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذى تقدم باحترام مملوء خداعا وتكريما فاسدا مقدما قبلة حب غاشة ، هذا الذى قال له الرب : " يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان ؟! لو 22 : 48 ... الأب يوسف
ثانيا : صاروا فى فراغ :
" على الجبال ارفع بكاء ومرثاة ،
على مراعي البرية ندبا ،
لانها احترقت ،
فلا انسان عابر ،
ولا يسمع صوت الماشية.من طير السموات الى البهائم هربت مضت.
واجعل اورشليم رجما ومأوى بنات آوى ،
ومدن يهوذا اجعلها خرابا بلا ساكن " ع 10 ، 11 .
السبب الثانى لعدم مبالاتهم بحالهم هو الدخول إلى حالة فراغ داخلى . فالنفس لا تشبع من الله خالقها ، وتحمله كسماء وعرش له . تفقد تقديرها لخلاصها ، ولا تدرك حقيقة مركزها ، فتعيش كمرعى احترق ، يصير خرابا لا يعبره إنسان ولا يسمع فيه صوت ماشية ، ولا يهيم فيه طير . إنما يسكنه بنات آوى .
لقد صعد إرميا على الجبال ، أى على شريعة الله ومن هناك تطلع إلى البرية ، فوجد مراعيها قد أحترقت بنيران الشهوات وحل بها الخراب ، فرفع صوته وبكى ، مقدما مرثاته على شعبه الذين دخلوا فى فراغ .
الشرير تتحول أورشليمه إلى رجم ( ع 11 ) ، عوض أن يكون قلبه مدينة الله المقدسة ، يصير أشبه بمكان مهجور دنس ، يشتم فيه رائحة الموت .
عوض أن تكون مرعى للغنم ، أى حظيرة الخراف المقدسة التى تضم شعب الله ، تصير مأوى لبنات آوى ( ع 11 ) ، وهى حيوانات أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب ، تتسم بالوحشية مع المكر والخداع .
وتصير مدن يهوذا خرابا ، تحطم مواهب الإنسان وقدراته .
ثالثا : رفضهم الشريعة :
" من هو الانسان الحكيم الذي يفهم هذه ؟
والذي كلمه فم الرب فيخبر بها.
لماذا بادت الارض واحترقت كبرية بلا عابر ؟
فقال الرب : على تركهم شريعتي التي جعلتها امامهم ،
ولم يسمعوا لصوتي ولم يسلكوا بها " ع 12 ، 13 .
من يرفض كلمة الله النارية التى تحرق أشواك الخطية ، وتلهب القلب ، بنيران الحب الإلهى ، وتجعل منه خادما لله بنار سماوية ، تشتعل فيه نيران الشهوات ، فتحوله إلى برية خربة ! .
( 3 ) الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون
لا يقف إرميا النبى وحده يرثى هذا الشعب ، وإنما يطلب الله منهم أن يدعو النادبات والحكيمات ليرفعن مرثاة ويذرفن الدموع عليهم :
" هكذا قال رب الجنود :
تأملوا وادعوا النادبات فيأتين ،
وارسلوا الى الحكيمات فيقبلن ،
ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة ،
فتذرف اعيننا دموعا وتفيض اجفاننا ماء " ع 17 ، 18 .
يريد الله كل إنسان أن يأتى ويرثى صهيون ويبكى عليها . لعله يقول إن كانت عيوننا قد جفت وقلوبنا قد غلظت فلنلجأ إلى إخوتنا الروحيين ليسندوننا ، نتعلم منهم حياة التوبة ونطلب صلواتهم عنا . إن أمكننا أن ندعو كل الخليقة لكى تسندنا بالصلاة إلى الله الذى يعيننا بفيض نعمته .
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم :
+ أيتها التلال نوحى ، أيتها الجبال اندبى !
لندعو كا الخليقة لتشاركنا بالوجدان بسبب خطايانا ... لنلجأ إلى الملك الذى هو من فوق . لندعوه فيعيننا .
فإن كنا لا نطلب عونا من السماء لا تكون لنا تعزية نهائيا فيما نحن قد سقطنا فيه .
" بل اسمعن ايتها النساء كلمة الرب ولتقبل آذانكنّ كلمة فمه ،
وعلّمن بناتكنّ الرثاية والمرأة صاحبتها الندب.
لان الموت طلع الى كوانا ،
دخل قصورنا ،
ليقطع الاطفال من خارج ،
والشبان من الساحات " ع 20 ، 21 .
أما علة الرثاء فهو إدراكنا أن الموت قد دخل إلى أعماقنا من خلال كوى الحواس ، النظر ، السمع ، التذوق ، الشم ، اللمس .... ليحطم قصورنا الداخلية المقامة لملكوت السموات .
يدخل الموت إلى قلوبنا ، يقتل الأطفال الذين يلعبون فى الخارج ، أى يبيد الأشواق المقدسة للشركة مع إلهنا ، أو البدايات الطيبة للحياة الفاضلة فى الرب التى لم تتأصل بعد فينا ، كما يقتل الشبان من الساحات ، أى يهلك حتى الأقوياء الذين كان يلزمهم أن يحاربوا روحيا فى الساحات .
( 4 ) الله واهب الحكمة والمعرفة
لئلا يظن الإنسان أن التوبة هى عمله الذاتى أو أنه بحكمته ومعرفته ينمو روحيا أكد الرب :
" لا يفتخرنّ الحكيم بحكمته ،
ولا يفتخر الجبار بجبروته ،
ولا يفتخر الغني بغناه ،
بل بهذا ليفتخرنّ المفتخر :
بانه يفهم ويعرفني اني انا الرب ،
الصانع رحمة وقضاء وعدلا في الارض " ع 23 ، 24 .
جاء هذا الحديث إجابة على التساؤل الذى وجه ضد كلمات إرميا النبى : ماذا ينقصنا ونحن نقتنى الحكمة والقوة والغنى ؟
هذه التسبحة تمجد حكمة الله وفهمه ومعرفته ، الأمور التى يحسبها غير الروحيين غباوة وجهالة ، متكلين على حكمتهم البشرية وخبرتهم الشخصية ومعرفتهم العقلية البحتة خارج دائرة الإيمان والأعلان الإلهى .
( 5 ) الدينونة بلا محاباة
الله خالق الكل يدين الجميع بغير محاباة ، إذ قيل :
" ها ايام تأتي يقول الرب واعاقب كل مختون واغلف.
مصر ويهوذا وادوم وبني عمون وموآب ،
وكل مقصوصي الشعر مستديرا الساكنين في البرية ،
لان كل الامم غلف وكل بيت اسرائيل غلف القلوب " ع 25 ، 26 .
الخلفية وراء هذا النص هى العقيدة التى فى ذهن اليهود أن ختان الجسد يفصل بين من ينتسب للحق ومن ينتسب للباطل .
الآن الكل بحاجة إلى المخلص .
+ + +