ربما استمرَّت خدمة يوحنا الجهارية نحو ستة أشهر فالوحي لا يعطينا تاريخها بالتفصيل بل يقتصر على مضمون كرازتهِ وفعلها في البعض. ونقدر أن نحسب هذا كالقسم الأول من خدمتهِ، وأما القسم الثاني فهو شهادتهُ الخصوصية لذات المسيح كمن هو أقوى منهُ، ومن حضر إلى بيدرهِ الإسرائيلي لينقيهُ. فلما أزداد التأثير من كرازتهِ أخذ الشعب يظنون، ربما يكون يوحنا مسيحهم نفسهُ. فصارت مُتناسبة للخادم أن يعظم شأن سيدهِ، وللمرسل أن يشهد للذي أرسلهُ. لاحظ أن شهادتهُ هنا هي مثل ما ورد في مَتَّى (إصحاح 3)، وأما الكلام الوارد عن ذلك في إنجيل يوحنا فأوسع وأوضح. ونرى هنا أيضًا أن لوقا يذكر حبس يوحنا (عدد 19، 20) في سياق الكلام فقط لأنهُ لم يُحبس حتى بعد تعميدهِ يسوع المسيح. فالداعي لذكرهِ هنا أن يظهر سوء حالة إسرائيل، وأن كرازة يوحنا كانت مرفوضة من حكامهم ولم تقدر أن تصلح الأمة، ولا أن تُهيئ الطريق الملكية تمامًا لأقدام السيد الآتي. غير أن الرَّبِّ قد حضر حسب المواعيد فلا بدَّ من إظهارهِ لإسرائيل. سنرى أنهُ يُرفض أيضًا مثل عبدهِ المرسل أمام وجههِ، ولكنهُ طلبهم بالنعمة، وسنراهُ سالكًا سبيل نعمتهِ في وسط شعبهِ المتمرد والعديم الشكر والبصيرة.
21 وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، 22 وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ». (عدد 21، 22).
قد وصلنا إلى بداية حياة المسيح الجهارية على الأرض. كاد السراج المُنير ينطفئ، ولكن النور الحقيقي عتيد أن يُشرق. ولما اعتمد جميع الشعب أي جميع الذين أصغوا لصوت يوحنا، ونعلم من مواضع غير هذا، من هم؟ وما هي صفاتهم؟ فأنهم كانوا على وجه الأجمال الخطاة والعشارين والزناة أي أُناسًا ليس لهم شيءٌ من برّ أنفسهم. جاء يوحنا في طريق البر: يعني أنهُ طلب البرّ العملي من إسرائيل، فجميع الذين انتبهوا اعترفوا بخطاياهم وابتدأوا يأتون بالأثمار اللأئقة بالتوبة. فهؤلاء صاروا الآن الخراف من بيت إسرائيل التي شاء المسيح أن ينضمَّ إليها لكي يقودها ويسمعها صوتهُ كراعيها الخاص الحنون. وكان هؤلاء قد دخلوا من باب المعمودية للتوبة، الباب الوحيد الممكن لهم الدخول منهُ، فمن ثمَّ أخذوا يسلكون في الطريق المرضيَّة لله؛ لأن الإصغاء لكلمتهِ يرضيهِ، فصاروا مفرزين على نوعٍ ما عن الجانب الأكبر من الأُمة المتمردة المُتقدمة نحو الغضب الآتي بخطوات سرية. فلما حان الوقت المعيَّن ليسوع أن يُظهر ذاتهُ لإسرائيل، ويتخذ مقامًا جهاريَّا في وسط الناس؛ كان ينبغي لهُ أن يختار أيًّا من الفريقين يرافقهم في الطريق، فلم يستطع أن يُظهر نفسهُ كواحد من الذين رفضوا معمودية عبدهِ المُرسل أمام وجههِ ليهيئ لهُ طريقًا. فمن تنازُلهِ طلب المعمودية من يوحنا؛ لكي ينضمَّ جهارًا مع التائبين. معلوم أنهُ لم يكن مُحتاجًا إلى التوبة بل إنما اعتمد من باب اللياقة باعتبار حالة إسرائيل ونسبتهِ إليهم. البشير لوقا لا يذكر امتناع يوحنا عن تعميد سيدهِ، حين طلبهُ بل إنما يذكر اعتمادهُ كإحدى الحوادث التي تمت حين تقدَّم ليأخذ مقامهُ بين الناس. وأما مَتَّى فيذكر ذلك لأنهُ كان مما يُعظم شأن شخص المسيح رسميًّا. ثمَّ بعد اعتمادهِ نراهُ في حالة الاتكال على الله كإنسان إذ كان يُصلِّي. فأن الصلاة تليق بالبشر باعتبار ضعفهم واحتياجهم إلى المعونة من قبل الله. فالسيد مزمع أن يترافق مع بقيتهِ التائبة، ولكنهُ لا يفعل ذلك كملك في جبروتهِ، بل كإنسان إسرائيلي بالحق لا غشَّ فيهِ، وفي أثناء ذلك انفتحت السماء ونزل عليهِ الروح القدس بهيئة جسميَّة مثل حمامة. فحلول الروح القدس على يسوع كان بالنظر إلى خدمتهِ. يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحهُ الله بالروح القدس والقوة؟ الذي جال يصنع خيرًا، ويشفي كل مُتسلط عليهِم إبليس؛ لأن الله كان معهُ (أعمال الرسل 38:10؛ انظر أيضًا مَتَّى 28:12). فأظهر كمالهُ كإنسان إذ كان يستمدُّ من الله القوة والحكمة لأجراء خدمتهِ. كان لهُ مقام منذ الأزل في مجد اللاهوت، وكان معادلاً لله بدون خُلْسَةٍ، ولكنهُ شاء وأخذ مقامًا آخر أي مقام خليقتهِ. لم يكفَّ عن أن يكون الله، ولكنه كان ينبغي أن يتصرف كما يليق بالمقام الآخر الذي وُجد فيهِ. وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيبُ، بك سررتُ. فنرى في حادثة معمودية المسيح إعلانًا صريحًا للثالوث أي الآب والابن والروح القدس. ولا يُخفى القارئ المسيحي، أن هذا التعليم من العقائد الأساسية لإيماننا المسيحي. نعم، أننا لا نقدر أن ندركهُ بالعقل، ولكننا قد قبلناهُ بإيمان في القلب، كما هو مطلوب منا في أقوال الوحي، فلا يجوز أن نجعلهُ موضوع بحث عقلي كأنهُ في قبضة عقل الإنسان؛ لأنهُ ليس كذلك، فمن أراد أن يقبلهُ فليقبلهُ بالإيمان مستندًا على كلام الله لا على حكمة الناس، ولا يجوز أيضًا أن نتحاجج مع الناس كأننا نريد أن نقنعهم رغمًا عنهم؛ لأن المحاجَّات إنما تسبّب الخصام والهدم ولا ينتج منها الإيمان في القلب. لا يقدر إنسان يأخذ شيئًا أن لم يكن قد أُعطيَّ من السماء (يوحنا 27:3). فالآب شهد بصوت مسموع من السماء لنسبة يسوع إليهِ كابنهِ الحبيب. يُقال هنا: «أنت ابني … إلخ» على سبيل المُخاطبة لأن الكلام متجه ليسوع، وأما في مَتَّى فيقال: «هذا هو ابني الحبيب … إلخ». لأنهُ وارد هناك كشهادة جهاريَّة من الآب لإسرائيل عن هذا الشخص الجليل الواقف في وسطهم، كإنسان مع أنهُ كان أعظم جدًا من الإنسان بمجدهِ الذاتي.
23 وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي، 24 بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، بْنِ مَلْكِي، بْنِ يَنَّا، بْنِ يُوسُفَ، 25 بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ عَامُوصَ، بْنِ نَاحُومَ، بْنِ حَسْلِي، بْنِ نَجَّايِ، 26 بْنِ مَآثَ، بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ شِمْعِي، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يَهُوذَا، 27 بْنِ يُوحَنَّا، بْنِ رِيسَا، بْنِ زَرُبَّابِلَ، بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ، بْنِ نِيرِي، 28 بْنِ مَلْكِي، بْنِ أَدِّي، بْنِ قُصَمَ، بْنِ أَلْمُودَامَ، بْنِ عِيرِ، 29 بْنِ يُوسِي، بْنِ أَلِيعَازَرَ، بْنِ يُورِيمَ، بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، 30 بْنِ شِمْعُونَ، بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يُونَانَ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31 بْنِ مَلَيَا، بْنِ مَيْنَانَ، بْنِ مَتَّاثَا، بْنِ نَاثَانَ، بْنِ دَاوُدَ، 32 بْنِ يَسَّى، بْنِ عُوبِيدَ، بْنِ بُوعَزَ، بْنِ سَلْمُونَ، بْنِ نَحْشُونَ، 33 بْنِ عَمِّينَادَابَ، بْنِ أَرَامَ، بْنِ حَصْرُونَ، بْنِ فَارِصَ، بْنِ يَهُوذَا، 34 بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَاقَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، 35 بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، 36 بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَامِ، بْنِ نُوحِ، بْنِ لاَمَكَ، 37 بْنِ مَتُوشَالَحَ، بْنِ أَخْنُوخَ، بْنِ يَارِدَ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ، بْنِ قِينَانَ، 38 بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ. (عدد 23-38.
الأنساب البشرية لا تخصُّنا بتةً كقديسين مدعوين بالدعوة السماوية (انظر تيموثاوس الأولى 4:1؛ تيطس 9:3) لأنها إنما تتعلق بالترتيبات والنظامات التي تجري في الأرض فلذلك لا نرى في إنجيل يوحنَّا أقلَّ إشارة إلى نسبة الرَّبِّ الإسرائيلية، وأما البشير مَتَّى فيدرج نسبة الرَّبِّ كابن داود بن إبراهيم، كالوارث الحقيقي يطلب كرسي أبيهِ ليملك على شعبهِ. والنسبة هناك ليوسف، وأما النسبة المُدرجة هنا فلمريم التي كانت ابنة هالي. نعلم أن يوسف لم يكن ابن هالي بل ابن يعقوب. وقد ذكر في بعض كتب اليهود أن يسوع كان ابن مريم بنت هالي، وقد نسبوها للعذاب الأبدي لأنها ولدت يسوع. فمن كل الأوجه يتضح أن نسبتهُ المذكورة هنا هي لمريم. فكان يجوز حسب الشريعة انتساب ابن مريم لهالي أبيها. وأما معنى قولهِ: وهو على ما كان يُظنُّ ابن يوسف بن هالي، فهو أن يسوع كان ابن يوسف حسبما كان يظنون فيهِ لأنهُ رُبّيَّ عند يوسف، ولكنهُ كان بالحقيقة ابن هالي، لأن قولهُ على ما كان يظنُّ يستلزم جملة استدراكية لإظهار الحقيقة ونزع الظنّ. لا يجوز أن نستغرق الوقت في الشرح على هذا الموضوع؛ لأنهُ لم يسمع اعتراض صحيح حتى من أفواه اليهود على هذه النسبة. لاحظ الفرق بين مَتَّى ولوقا بحيث أن مَتَّى حصل على مطلوبهِ بإيصالهِ نسبة يسوع إلى إبراهيم، وأما لوقا فيتاثرها إلى آدم نفسهِ الذي كان ابن الله من جهة الخليقة. والمقصد بهذا أن يظهر المقام الشريف الذي تعيَّن لهُ من جهة الرئاسة. فلما ظهر ابن الله كإنسانٍ صار هو الإنسان الثاني وآدم الأخير ونراه في هذا الإنجيل موصوفًا ليس كابن داود فقط بل كابن الإنسان أيضًا أي الإنسان الحقيقي المُزمع أن يُمجد الله تمامًا في الموضع نفسهِ الذي كان الأول قد أخطأ وسقط فيهِ.