الأصحاح الثالث والعشرون
1 فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، 2 وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ:«إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». 3 فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ قِائِلاً:«أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ وَقَالَ:«أَنْتَ تَقُولُ». 4 فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ:«إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هذَا الإِنْسَانِ». 5 فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئًا مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا». 6 فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ الْجَلِيلِ، سَأَلَ:«هَلِ الرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» 7 وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْكَ الأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. (عدد 1-7).
لا يخفى أن اليهود كانوا تحت سيادة الدولة الرومانية التي تركتهم على الحريّة في ممارسة طقوس ديانتهم ولكنها لم تُسلم لهم الحكم في الدعاوي السياسية بحبس الرعية وإعدامهم الحياة. لذلك حكم مجمعهم لا ينفعهم بل إنما يُظهر بُغض قلوبهم ضد المسيح. ولكن رئيس هذا العالم كان هناك عاملاً واليهود والأُمم تحت سُلطانهِ. معلوم أن العالم المُرتَّب تحت رياسة إبليس يسدُّ احتياجات البشر من جهة السياسة والديانة يعني أنهُ نظام كامل بحسب مرغوب قلب الإنسان الساقط المُبتعد عن الله. وأما الديانة المقبولة عند الإنسان فهي أبعد عن الله دائمًا من السياسة يعني رؤساء الديانة يضطهدون الحق أكثر من أرباب السياسة وإذا حصل اضطهاد نرى غالبًا إن الذين يُهيجونهُ هم رؤساء الدين. ويستعملون طرق خبث وخداع يندر استعمالها من الحكام السياسيين ونرى مثال ذلك هنا بحيث غيَّروا الشكوى على المسيح لما قدَّموهُ إلى محكمة بيلاطس الوالي.
كانوا قد حكموا عليهِ أمام مجمعهم لأجل التجديف ولكنهم عرفوا أن الوالي الروماني لا يتداخل في مسائلهم الدينية فقالوا لهُ: إننا وجدنا هذا يُفسد الأُمة ويمنع أن تُعطى جزيةً لقيصر قائلاً: أنهُ هو مسيحٌ ملكٌ. فعملوا حسابهم بفطنةٍ إذ ظنوا أن الوالي لا بد أن يخاف إذا سمع بوجود رجل يهودي يدَّعي بأنهُ ملك. لم يكن أقل أساس لما نسبوهُ إليهِ من جهة قيصر لأنهُ لم يمنع أحدًا عن دفع الجزية لهُ بل بالعكس فإنهُ قال لهم صريحًا: أن يعطوا ما لقيصر لقيصر. وأما القول الثاني: بأنهُ هو مسيحٌ وملكٌ فكان فيهِ شيءٌ من الحق غير أنهم لم يوضحوهُ بل تركوهُ على نوع من الإبهام. لو قالوا صريحًا: المسيح ملك اليهود لفهم الوالي حالاً أنهُ إنما زعمٌ ديني لا مدخل لهُ في الدعاوي المُنوطة بهِ كحاكم. فسألهُ بيلاطس قائلاً: أنت ملك اليهود؟ فأجابهُ وقال: أنت تقول. نرى أن الوالي الوثني تصرَّف في فحص هذه الدعوى أحسن من رؤساء الكهنة فإنهُ سأل سؤالات باستقامة بقصد أن يقف على حقيقتها وأما أولئك فكانوا قد اعتمدوا على قتل الرب قبل وقوفهِ أمام مجمعهم ثم بذلوا كل جهدهم في تحريف القضاء وتعويج الحق. فوا أسفاه! على شعب الله إذا كان رؤساءهم أبعد عن الحق من الوثنيين. قد تحوَّل نورهم إلى ظُّلمة وأي ظلام. فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علَّةً في هذا الإنسان. فلما فهم أن المسيح إنما يدَّعي أنهُ ملك اليهود ارتاحت أفكارهُ وشهد للمُشتكين عليهِ أنهُ لا يجد فيهِ علة توجب القضاء والقصاص كان الوالي ظالمًا ولكنهُ لم يُحب الظلم في الآخرين ولم يشأ أن يجري حكم زور على رجل بريء لأجل خاطر الرؤساء. فكانوا يُشدِّدون قائلين: أنهُ يُهيج الشعب وهو يُعلِّم في كل اليهودية مُبتدئًا من الجليل إلى هنا. لما هبطت شكواهم الأولى فتحوا عليهِ بابًا آخر زاعمين أنهُ مُعلِّم يُهيج الشعب بتعليمهِ فإذًا كان خوفهم من فقدان نفوذهم على الشعب لا من هيجان الشعب ضدّ قيصر ملكهم فانكشفت نيتهم. وعرف بيلاطس أنهم أسلموهُ حسدًا ولم يزل يجتهد أن يُخلِّصهُ منهم أو بالحري أن يُخلِّص نفسهُ من مسئولية الحكم في دعواهُ. فلما علم أنهُ من سلطنة هيرودس أرسلهُ إليهِ على أمل أنهُ يخلص من هذه المسألة المُكدرة ويُراعي خاطر هيرودس أيضًا.
8 وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيل أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَي آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. 9 وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. 10 وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ، 11 فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاسًا لاَمِعًا، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 12 فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. (عدد 8-12).
معلوم أن هيرودس المذكور هنا كان من أبناء هيرودس العظيم الذي كان ملك اليهود وقت ولادة المسيح ومات بعد ذلك بوقت وجيز وأما ابنهُ الثاني هذا فتعيَّن واليًا على مقاطعة الجليل وهو الذي أمر بقطع رأس يوحنا المعمدان. وكان أجنبي الجنس ويهودي الدين لأن أجدادهُ تهوَّدوا قبل ذلك بمدة جيلين أو ثلاثة أجيال فلذلك كان محسوبًا كإسرائيلي. ففرح لما رأى يسوع لأنهُ كان من زمان يزيد أن يراهُ ولكن لأغراض ذاتية فقط فأنه كان يحسبهُ مثل: ساحر يُسليهِ بصنع آية وأما انتظارهُ هذا فهبط لأن الله لا يجري آيات من شأن خاطر البشر ولو كانوا ملوكًا، وسألهُ بكلام كثير فلم يُجبهُ بشيء. قد رأينا أن الرب أجاب سؤالات بيلاطس ولكنهُ لم يشأ أن يردَّ على هيرودس الملك اليهودي الشرير المنافق ولا اعتبرهُ أقلَّ اعتبار لأنهُ كان قد رفض شهادة الله وقتل نبيَّهُ فكان من اليهود ومثلهم ظالمًا في السياسة ومرائيًا في الديانة. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليهِ باشتداد. فأن كان بيلاطس الوثني ذاتهُ يتردَّد عن إجراء الحكم على رجل برئ، فلا يتردَّد أولئك الرؤساء عن تقديم شكواهم عليهِ. فلما نُقلتْ دعواهُ إلى هيرودس أسرعوا في أثرهِ كأنهم يخافون من أن يُفتح باب فتفلت فريستهم من يدهم. لم يكن فيهم أقل شفقة ولا حياء. فاحتقرهُ هيرودس مع عسكرهِ واستهزأ بهِ وألبسهُ لباسًا لامعًا وردَّهُ إلى بيلاطس. لا شك بأن سكوت الرَّبِّ أغاظهُ، ولكن مع ذلك لم يكن مفتكرًا أنهُ يخلصهُ لأنهُ أراد أن يقتلهُ لو أمكن في الجليل (راجع إصحاح 31:13). فالرَّبُّ الكامل الحكمة إنما تصرف معهُ كما يليق بحالتهِ وقدَّر له الفرصة ليظهر ما في باطنهِ. فبادر إلى إجراء كل نوع من الإهانة لهُ ثمَّ ردَّهُ إلى بيلاطس. فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما. فمهما كان البغض شديدًا بين الناس بعضهم للبعض يتفقون معًا في رفض المسيح ابن الله، لأنهُ لا يوجد عندهم شيءٌ آخر أشد من عداوتهم لهُ.
13 فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، 14 وَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. 15 وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضًا، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. 16 فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». 17 وَكَانَ مُضْطَرًّا أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِدًا، 18 فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ:«خُذْ هذَا! وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» 19 وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتْل. (عدد 13-19).
لا شك بأن لوالي الأممي أساء التصرف في دعوى الرَّبَّ لأنهُ كان ذا سلطان مطلق وكان من واجباتهِ أن يمارسهُ لأنصاف المظلوم وخلاص البريء ولكنهُ تردَّد عن تتميم وظيفتهِ بالحق مع أنهُ شهد مرة بعد أخرى لليهود أنهُ لا يجد علَّةً مما اشتكوا بهِ عليهِ حتى هيرودس ذاتهُ مع كل رداءتهِ لم يحكم شرعيًّا بأنهُ مذنب. فلا شك بأن بيلاطس أذنب، ولكن الوحي في هذا الإنجيل يُظهر أن اليهود كانوا أردأ من الأمم بحيث أنهم اجتهدوا في قتل المسيح بغاية البغض، وأما الأمم فلم يظهروا لا البغض، ولا المحبة بل إنما امتنعوا عن إجراء العدل مع أن السلطان السياسي في أيديهم، وتساهلوا مع اليهود وأذعنوا لهم، وأخيرًا اشتركوا معهم في قتل ابن الله. كان الوالي مضطرًّا أن يطلق لهم كل عيد واحدًا من محابيسهم. فالمرجح أن هذه العادة درجت إكرامًا لعيدهم فاستغنموا الفرصة، بأن يطلبوا إطلاق باراباس الذي كان لصًّا بل قاتلاً أيضًا (انظر أعمال الرسل 13:3-16). فاليهود برهنوا عظم شرّهم إذ فضَّلوا ذلك على المسيح.
فَنَادَاهُمْ أَيْضًا بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ، 21 فَصَرَخُوا قَائِلِينَ:«اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» 22 فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً:«فَأَيَّ شَرّ عَمِلَ هذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». 23 فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. 24 فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. 25 فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْل، الَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ. (عدد 20-25).