فنطق أولاً بأربع تطويبات للتلاميذ باعتبار قبولهم إياه وهو مرفوض. فكانت دعوتهم لممارسة الصبر وهم تحت الإهانة وفي الظروف المُكربة. وُضع آدم في جنة عدن لأجل التمتُّع بالخيرات وكذلك إسرائيل فيما بعد حين دعاهم الله من مصر إلى كنعان، فأنه عرض عليهم أن يأكلوا خير الأرض الجيدة. نعلم أنهم خانوا، واصبحوا في الضيق، ولكن لو تابوا عند كرازة يوحنا المعمدان وقبلوا المسيح كملك لكان قادرًا أن يباركهم ويعطيهم الراحة في أرضهم. ولكن بعد إظهارهم عدم التوبة صارت الدعوة لبقيَّةٍ منهم فقط، وهي تختلف عن الدعوة الأصلية.
طوباكم أيُّها المساكين لأن لكم ملكوت الله. لا يُخفى أن البشير متى وحدهُ يستعمل العبارة ملكوت السموات، فقد رأينا معناها في درسنا إنجيلهُ أنهُ يستعملها نظاميَّا يعني باعتبار نظامات الله، أو تدابيرهِ في العالم، وإنما يذكر أقامتهُ كقريبة، ولكنها معلَّقة على توبة إسرائيل، وأما هذه العبارة ملكوت الله قد حضر بشخص ابنهِ بقطع النظر عن توبة إسرائيل وإقامة النظام الخصوصي لهم. فأن تابوا أم لا ، فملكوت الله قد حضر وسيُعطى للتلاميذ المساكين، ولا يُخفى أنهُ جارِ الآن فأننا دخلناهُ بالولادة من فوق. طوباكم أيُّها الجياع الآن لأنكم تشبعون. فالجوع هنا حرفي، ومن وصف الذين تبعوا المسيح يعني أن حالتهم كانت كحالة اتباع داود حين أُضطهد وطُرد كما سبق الكلام عنهم في أول هذا الإصحاح حين اضطرَّ التلاميذ بأن يقطفوا سنابل الحنطة لسدّ جوعهم. وأما الشبع الموعود بهِ هنا فروحيٌّ بلا شك لأن المواعيد لنا في مدة رفض المسيح وغيابهِ تطلق خصوصًا على البركات الروحيَّة. طوباكم أيُّها الباكون الآن لأنكم ستضحكون. كانت للتلاميذ أحزان لاقترانهم مع السيد المُبغض لكنه وعدهم بأن حزنهم يتحول إلى الفرح (انظر 22:16)، وتم ذلك بعد قيامتهِ وحلول الروح القدس. طوباكم إذا أبغضكم النَّاس وإذا أفرزوكم وعيَّروكم واخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. كلما أمعنَّا النظر في كلام لوقا نرى أنهُ إنما أدرج ما يناسب حالة اتباع المسيح عمومًا، وما لا بدَّ أن يجري عليهم، ولو مُحيتْ الأمة الإسرائيلية. نعم التلاميذ كانوا يهودًا في وسط اليهود وبالضرورة يوجد بعض إشارات إلى ظروفهم الخصوصية يراعيهم في هذا الإنجيل كقسم من البشر فمثلهم مثل: الآخرين أيضًا، ولا يوجد فرق. لم يكن نسل إبراهيم مع كل افتخارهم بجنسيَّتهم إلاَّ كالشعب نظير الأمم ومجدهم كزهر العشب الذي يذبُل قبل العشب نفسهِ. وكان الرَّبُّ قادرًا أن يميّز في اليهودي المُفْتَخر شكل آدم وذريتهِ كافةً فلذلك لا نراهُ ف هذا الإنجيل يراعي أحوالهم الخاصة إلاَّ ليصوّر بها صورة الإنسان الساقط كما هو ثم يأتي بالعلاج الإلهي المُحتاج إليهِ الجميع. افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا. فهوذا أجركم عظيم في السماء، لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء. كان لليهود بعض امتيازات، ولكنهم أساءوا استعمالها دائمًا وأبدًا. إن افتقدهم الله في وقت ما وأرسل لهم أنبياء لإرشادهم فاضطهدوهم. وكان المسيح مزمعًا أن يرسل تلاميذهُ لخدمة كهذه فلا بدَّ أنهم ينالون الإهانة والرفض كالأنبياء القدماء بل كسيدهم نفسهِ، ولا يمكن لهم أن يرتاحوا ويجازوا على الأرض، ولكن ينبغي أن : ينتظروا أجرًا عظيمًا في السماء.ولم يزل هذا القانون لنا نحن أيضًا. ثمَّ نطق بأربعة ويلات تصدق على جميع النَّاس العائشين للشهوات ولذَّاتهم في العالم الحاضر. ولكن ويلٌ لكم أيُّها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم. (انظر إصحاح 19:16-30). يشعر الإنسان بشقاوة حال البشر بحيث أنهُ قد حكم عليهم بالتعب خارج الجنة النفيسة التي أُخرج أبوهم منها، ولكنهم لم يزالوا يطلبون راحتهم وتعزيتهم في هذه الأرض الملعونة بسببهم. فعندهم السماء بعيدة والأرض قريبة فينسون الأولى ويتمسكون بالثانية يكثرون كل واحد على قدر إمكانهِ: الثروة، كأن إقامتهم في الأرض للأبد، ولكن ليس لهم إلاَّ سنون قليلة معدودة وبعد ذلك ينحدرون إلى التراب الذي أُخذوا منهُ أصلاً، ثم يأكُلْهم الدود. (انظر مزمور 49) على بطلان أتعاب الإنسان. وأما الرَّبِّ فينادي، بالويل للعائشين هكذا لأن ليس لهم ألاّ مقدار التعزية الذي يحصلون عليهِ مدة حياتهم الدنيا. ويلٌ لكم أيُّها الشباعى لأنكم ستجوعون. الشبع الحرفي، والجوع مجاز غير أن الشبع يُطلق أيضًا على الاكتفاء بالأمور الحاضرة المناسبة للشهوات والجوع يشير إلى حالة الناس الدنيويين بعد الموت إذ لا يكون لهم شيءٌ مما تلذذوا بهِ هنا حتى نقطة ماءٍ بارد لا تعطى لهم لتُبرّد لسانهم في شدة العذاب. ليتهم ينتبهون الآن ويطلبون ماءَ الحياة مجانًا ويشربون منهُ ويعيشون بالراحة والسعادة إلى الأبد. ويلٌ لكم أيُّها الضاحكون الآن ؟ لأنكم ستحزنون وتبكون. قلت أنا في قلبي: هلمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا. وإذا هذا أيضًا باطل. للضحك قلتُ مجنون وللفرح ماذا يفعل (جامعة 1:2، 2). ولا شك أنهُ من أشدَّ الجنون في البشر أ، يصرفوا وقتهم في الضحك والفرح العالمي وهم نازلون إلى حيث يحزنون ويبكون إلى أبد الأبديين. ولكن وا أسفاه! على الأكثرين؛ لأنهم يمارسون ضحكهم، ويفضلونهُ على التوبة والحزن الروحي الذي من شأنهِ، أن يهيئهم للفرح المؤبد. ولا ينتبهون لإنذارات سليمان الحكيم، ولا يصغون لصوت المُعلّم الحنون الذي هو أعظم من سليمان. «الصيت خير من الدهن الطيب، ويوم الممات خير من يوم الولادة. الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة؛ لأن ذاك نهاية كل إنسان والحي يضعهُ في قلبهِ. الحزن خير من الضحك؛ لأنهُ بكآبة الوجه يُصْلَحُ القلب. قلبُ الحكماء في بيت النوح، وقلب الجُهَّال في بيت الفرح. سَمْعُ الانتهار من الحكيم خيرٌ للإنسان من سَمْعِ غناء الجُهَّال؛ لأنَّهُ كصوت الشَّوك تحت الْقِدْرِ هكذا ضحكُ الجُهَّال. هذا أيضًا باطلٌ» (جامعة 1:7-6). «ويلٌ لكم إذا قال فيكم جميع النَّاس حسنًا؛ لأنَّهُ هكذا كان آباؤُهم يفعلون بالأنبياء الكذبة». هذا الويل للتلاميذ أنفسهم إذا نسوا مقامهم ودعوتهم وتساهلوا مع العالم. لا يزال تلاميذ المسيح في تجربة، أن يعيوا من المسكنة والجوع ثم يمتنعون عن الشهادة الصريحة لسيدهم المرفوض لكي يخلصوا من إهانة العالم. فالشيطان دائمًا يعرض عليهم سبيلاً أسهل من حمل الصليب، وهو مشاكلة الدهر الحاضر الشرير فلا ينكرون لاهوت المسيح، ولكنهم يتصرفون كأن لا توجد مضادَّة كليَّة بين مُعلّمهم وبين العالم، وربما يمدحهم النَّاس على مساهمتهم، ولكن الويل لهم من فم الرَّبِّ.
27 «لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، 28 بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. 29 مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. (عدد 27-29).
قد رأينا آنفًا مقام التلاميذ كمساكين وجياع في الحزن والإهانة، وهذا يطلق علينا جميعًا غير أن الاثني عشر سبقونا في هذا الطريق وتركوا لنا قدوةً (انظر كورنثوس الأولى 9:4-16). وأما في هذا الفصل فيبتدي بإيضاح كيفية السيرة نحو الآخرين أولاً الأعداء والظالمين. فبحسب طبيعتنا سؤُ المعاملة من الآخرين يهيج الغضب والنقمة فينا ليحملنا أن نعاملهم بالمثل، وكان ذلك جائزًا لليهود على نوع ما، ولكن روح المسيح يقودنا وراء قدوتهِ إذ ظُلم وتذلَّل ولم يفتح فاهُ. «بذلت ظهري للضاربين وخدّي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق» (إشعياء 6:50).
30: وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. 31 وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا. 32 وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33 وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا. 34 وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. (عدد 30-34).
هذا يُرينا كيف يجب أن نتصرف نحو النَّاس عمومًا ولا سيما المحتاجين. كان اليهودي الغني، مأمورًا بأن يساعد أخاهُ الفقير، ولكنهُ انتظر أن يستردَّ ما أقرضهُ لهُ أو على الأقل ينال نوعًا من المكافأة فقط كان محرَّمًا عليهِ أن يظلم أخاهُ أو يكون لهُ كمرابٍ. ولكن في قدوة المسيح نرى شيئًا أزيد من ذلك لأنهُ صنع خيرًا مع الذين لا يمكنهم أن يكافئوه. وأما قولهُ: وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا - فقد شرحت عليهِ في موضعهِ في إنجيل مَتَّى- لاحظ أن لوقا إنما يذكرهُ في سياق الكلام ولا يقول: أنهُ فحوى تعليم الناموس والأنبياء من جهة هذا الموضوع. فأن الوحي أدرج في مَتَّى ما يكفي لإقناع اليهود الذين يخاطبهم خصوصًا في ذلك الإنجيل، وأما هنا فيذكرهُ من ضمن إرشاداتهِ لتلاميذهِ في كل حين.
35: بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. 36 فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. 37 «وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. 38 أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ». (عدد 35-38.