22 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ قَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ أَيْضًا شَيْءٌ: بعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 23 فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا. 24 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 لأَنَّ دُخُولَ جَمَل مِنْ ثَقْبِإِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 26 فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَقَالَ:«غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». (عدد 22-27).
كان المسيح مُعلْمًا صبورًا فعاد امتحن الرئيس ثانيةً حتى يكشف لهُ حالتهُ. إذ قال لهُ: يعوزك أيضًا شيءٌ بع كل مالك الخ. كان الله رتَّب عدَّة امتحانات للبشر ليُنبههم على الخطية ويأتي بهم إلى التوبة والاعتراف بها. وما أعظم الامتحانات فإعطاؤهُ الناموس لإسرائيل ثم إرسالهُ المسيح إليهم بحسب المواعيد والنبوات. فاتضح أن الرئيس لم ينتفع بالناموس إلاَّ زيادة الخداع الذاتي فحينئذٍ يسوع عرض نفسهُ عليهِ كربهِ وإلههِ وصاحب السلطان أن يُغير النظام العتيق ويجمع الناس وراءهُ بموجب دعوة جديدة. فقال لهُ: أن يتخلى عن كل مالهِ المحسوب علامة رضى الله لهُ كيهودي ثم يأتي وراءهُ كتلميذ ويكون لهُ حينئذٍ كنز في السماء. فلم يقدر أن يتخلص من هذا الامتحان فإنهُ أظهر بحُزنهِ أن قلبهُ مُتعلق بالأرض لا بالسماء. لو كان قد حفظ الوصايا منذ حداثتهِ كما زعم لم يستصعب ترك مالهِ لأن محبتهُ الكاملة لله كانت قد حملتهُ على طاعتهِ ومحبتهُ للقريب جعلتهُ يوزع مال الظلم على الفقراء بغاية السرور لا سيما من بعد سماعهِ أنهُ يكون لهُ كنز في السماء. نرى أن الله دائمًا يمتحن قلوبنا بالأشياء التي نحبُّها أكثر. ونتيجة الامتحان تكشفنا تممًا وتبرهن رداءة هذه القلوب التي تختار أصنامها وتفضلها على الحياة الأبدية. كان ذلك الرئيس غنيًّا وأحبَّ غناهُ.فاتخذ يسوع الفرصة ليقول لتلاميذهِ: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. إننا نعلم جيدًا أنهُ يمكن لإنسان فقير أن يعتدَّ ببرهِ الذاتي ويهلك نفسهُ لأن للقلب البشري أصنامًا كثيرة جدًّا ومتنوعة ولكن مع ذلك الوحي يتكلم كثيرًا من جهة محبة المال التي تتقوى في قلوب الأغنياء في هذا الدهر لتمنعهم عن الدخول إلى ملكوت الله. لأن العدو ينصب فخاخهُ الردية للغني من كل الجهات بحيث أن لهُ النفوذ والكرامة بين الناس ويُعاشرهُ الأغنياء الآخرون وعندهُ القدرة أيضًا أن يقتني كل ما يشتهيهِ إلى خلاف ذلك من الأمور التي تهمكهُ وتغرقهُ في العطب والهلاك انظر (تيموثاوس الأولى 9:6، 10، 17-19). فباب التوبة ونكران الذات ضيق جدًّا على الغنى وبالحقيقة دخولهُ منهُ مستحيل كدخول الجمل من ثقب إبرة. يعني لا يمكن هذا الأمر بقوة البشر. فيتضح أن الذين سمعوا تعجبوا جدًّا وقالوا: فمن يستطيع أن يخلص. كان هذا التعليم ضدَّ أفكارهم اليهودية على الخط المُستقيم وظهر لهم أن الخلاص مستحيل ليس على الغني فقط بل على أي إنسان. فقال: غير المُستطاع عند الناس مُستطاع عند الله. وهذا القول يتضمن رجاءنا بالخلاص سواء كنا أغنياء أو فقراء فانظروا دعوتكم أيها الاخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شُرفاء بل اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء الخ (كورنثوس الأولى 26:1-29). فما أحلى الشهادة لنعمة الله إذا فعلت في أحد أصحاب القوة وجعلتهُ يحتقر العالم وأباطيلهُ ويتبع المسيح حقيقةً ويشتاق إلى مساكن الرب الأبدية تلك المظال المُنيرة التي أقامتنا فيها يومًا واحدًا أفضل جدًّا من سُكنانا أُلوفًا من السنين في أفخر البيوت المبنية من التراب والخشب (انظر المزمور 84)ز حتى الشركة الروحية الآن في بيت الله مع أولادهِ هي أفضل جدًّا من مُعاشرة أكابر الدنيا فكم بالحري الدوام المؤبد في التمتع بأمجاد بيت الآب وأفراحهِ بعد مُفارقتنا هذا المشهد الذي لا يوجد فيهِ إلاَّ كلُّ ما هو باطل وقبض الريح.
28: فَقَالَ بُطْرُسُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ». (عدد 28-30).
الرسل لم يكونوا من الأغنياء ولكنهم تركوا كل ما كان لهم وتبعوا المسيح بموجب دعوتهِ فلما بادر بطرس وذكَّر السيد بما فعلوا لهُ أجابهم الرب حالاً وصرَّح أن كل مَنْ يترك شيئًا من أجل ملكوت الله يحصل على أفضل مما ترك ولكن على هيئة أخرى. إلاَّ ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية. معلوم أن الأضعاف الكثيرة التي نأخذها الآن هي من الأمور الروحية.
31 وَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ، 32 لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، 33 وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 34 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ. (عدد 31-34).
راجع (إصحاح 43:9-45) حيث سبق وأخبرهم علانية قبل بداءة هذا السفر بأنهُ عتيد أن يُرفض ويُهان ثم في وقت السفر أشار إلى هذا الموضوع مرة بعد أخرى وأما هنا فأخذهم إليهِ وقال لهم صريحًا أن لابد من تتميم النبوات من جهة آلامهُ وموتهِ ولكنهم لم يفهموا من ذلك شيئًا. كانت أفكارهم يهودية وظنوا أن المسيح يبقى معهم إلى الأبد على هيئتهِ الحاضرة، فكان موضوع الموت والقيامة مُخفى عنهم ونرى هنا قوة أفكار الإنسان القديمة في منعهِ عن فهم أقوال الله الصريحة. لم يكن أقل أساس في كتبهم للفكر بأن المسيح يبقى إلى الأبد معهم بدون أن يموت، ويقوم ولكن المعلمين غرسوهُ في عقولهم فبقى يستولي على جميع أفكارهم وتعليم المسيح المكرر على مسامعهم لم يقدر أن يقتلعهُ من قلوبهم؛ لأن التعليم البشري المُعوج يناسب ميل الإنسان فيتمسك بهِ حتى في النور الصافي المُضيء الذي كنا نظن أنهُ يكفي لإزالة الغلط وتبديد الظلام، وبالحقيقة نور الله إنما يدخل من القلب والضمير لا من العقل.
35 وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِسًا علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 36 فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازًا سَأَلَ:«مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟» 37 فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. 38 فَصَرَخَ قِائِلاً: «يَايَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 39 فَانْتَهَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا: «يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 40 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ 41 قِائِلاً:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ: «يَاسَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ!». 42 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». 43 وَفِي الْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ. (عدد 35-43).
كل البشيرين الثلاثة يتفقون في ذكر مرور الرب في أريحا وشفاءهِ بعض عمي غير أن لوقا يذكر أنهُ شفى أعمى عند اقترابهِ إلى أريحا والاثنان الآخران يذكران شفاء أعميين عند خروجهِ منها فمقصد الوحي في البشائر الثلاث للدلالة على أن أريحا التي كانت موضعًا محرمًا انظر (يشوع 26:6) هي بداءة قدوم المسيح الرسمي على أورشليم كابن داود والأشخاص العمي اعترفوا بهِ في هذه الصفة وتبعوهُ في الطريق بعد فتح أعينهم. فكانت حالتهم الأولى كحالة الأمة كلها باعتبار فقرها وعماها. فلو كان فيها إيمان كإيمانهم الذي حملهم على أن يصرخوا إلى يسوع الناصري بلجاجةٍ لأَعطاها بصيرةً وجعل الموضع المحرم موضع البركة فكان الأعمى المذكور هنا في حالة يُرثى لها ولكنهُ شعر بها خلاف إسرائيل المتكبرين على قدر ما كانوا فقراء وبائسين ومن شدة عماهم واعتدادهم ببر أنفسهم لم يستطيعوا أن يروا النور البهيج المشرق عليهم من العلاء ولم يريدوا أن يأتوا إليهِ لكي يفتح أعينهم ويريهم مجدهُ ويباركهم، ونرى أن هذا الأعمى حافظ على قانون الصلاة المار ذكرهُ إذ صرخ بلجاجةٍ وكلما انتهروهُ ليسكت صرخ أكثر كثيرًا لأنهُ مَّيز الفرصة المناسبة ولم يتغافل عن وقت افتقادهِ؛ لأن يسوع الناصري مجتاز وإن كان لا يدعوا إليهِ الآن يفوتهُ الوقت المقبول، وأما الصراخ لأجل الرحمة فلابد أن يبلغ إلى أُذني يسوع مهما تكاثر الجموع الذين كانوا يتبعونهُ لأغراض مختلفة. فوقف وأمر أن يُقدم إليهِ ولما اقترب سألهُ قائلاً: ماذا تريد أن أفعل بك. ما أحلى الإيمان! لأنهُ يوقف يسوع في طريقهِ ويفتح مخازن البركة لا شك بأن الرب عرف أن الرجل أعمى، ولكنهُ عرض عليهِ هذا السؤال ليُعطيهُ فرصة أن يُخبرهُ باحتياجهِ شفاهًا فقال: يا سيد أن أُبصر. لا يوجد أمر ابسط من الصلاة ولكننا نرتخي أوقاتًا كثيرة ونفتر عنها وربما يكون الفكر فينا أن الرب يعلم احتياجاتنا ولكن بسبب الكسل الناتج من الفتور لا نشعر بها كما يجب حتى نصرخ إليهِ بلجاجة. نعلم أن علمهُ يحيط بكل شيء ولكنهُ رتب الصلاة وأوجبها علينا لنمارسها نهارًا وليلاً. نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها ونفس المجتهدين تُسمن. الكسل يلقي في السبات والنفس المتراخية تجوع (أمثال 4:13؛ 15:19) فقال لهُ يسوع: أَبصر إيمانك قد شفاك. نرى أيضًا انهُ إن كنا نشعر باحتياجنا نقدم طلبات خصوصية وهذا مما يسرُّ الرب جدًا بحيث نقدر أن نعرف الأجوبة لها كهذا الأعمى المسكين الذي طلب البصر ونال، وفي الحال أبصر وتبعه وهو يمجد الله. إ، كنا نواظب على الصلاة يزداد فينا الشعور والشوق فلا يمكن أن نكتفي بطلبات عمومية بل نخصص ونفصل في ما نطلب لأنفسنا وللآخرين أيضًا ثم يتقوى إيماننا وتزداد ثقتنا بمشاهدة الأجوبة في وقتها ثم نبادر إلى تقديم غيرها؛ لأننا لا نقدر أن نتراخى بدون أن نفقد روح الصلاة، وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله فكانت هذه الآية شهادة بينة لإسرائيل على حضور ابن داود ملكهم فتأثروا منها وقتيًا ولكنهم لم يثبتوا كما سنرى.