الأصحاح الثاني عشر
1 وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ، إِذِ اجْتَمَعَ رَبَوَاتُ الشَّعْبِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضًا، ابْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلاَمِيذِهِ: «أَوَّلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ، 2 فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. 3 لِذلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي الظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي النُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ الأُذْنَ فِي الْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى السُّطُوحِ. (عدد 1-3).
لا نعلم في أي موضع صار هذا الاجتماع ولا ما هي غايتهُ ولكنهُ يتضح أن الجموع بقوا على جهالتهم وعدم إيمانهم ولم يكن في نيتهم أن يتبعوا مسيحًا مرفوضًا متوجهًا إلى أورشليم لكي يُصلب فلم يلتفت إليهم كثيرًا بل أخذ يُلّم تلاميذهُ بما يوافقهم والحال هكذا مع سيدهم إذ كان عتيدًا أن يُفارقهم ويتركهم في هذا العالم حيث الإقرار بتعليمهِ واسمهِ لا بد أن يجلب عليهم الاضطهاد فيُحذرهم أولاً من الرياء المُتصف بهِ الفريسيون الذين سبق وكشف شرَّهم الظاهر والباطن. فإن الرياء أكبر آفة للطبيعة الإنسانية ويظهر على عدَّة أنواع أخصُّها الامتناع عن الإقرار بالحق جهارًا خوفًا من عواقبهِ أو التظاهر بالتقوى قدام الناس لأجل الحصول على الكرامة منهم والنفوذ عليهم في أمور الديانة. إن كان الحق مرفوضًا من الناس نخاف أن نعترف بهِ ولكن إذا صارت الديانة الحقيقية مقبولة ومُعتبرة نتظاهر بأنَّنا مُتمسكون بها كثيرًا لكي يكون لنا الصيت الحسن وبالحقيقة نفسد ديانتنا ولا نُمارسها إلاَّ للغش والأغراض العالمية. هكذا كانت الديانة اليهودية وقتئذٍ وهكذا الديانة النُصرانية الآن بين النصارى بحيث أن الإقرار بها والتظاهر بالغيرة فيها لا يجلبان عارًا علينا وأما إظهار الحق في أي وقت كان فيمتحن إيماننا. هل نحن مُتكلون على الله أم ناظرون إلى البشر؟ فليس مكتوم لن يُستعلن ولا خفي لن يُعرف . هذا قصد الله وحكمهُ غير المُتغير . فإن الحق مثل النور ومن شأنهِ أن يفحص قلوب البشر ويُبكتهم على شرورهم. وهذا العمل الذي يجري فينا إذا أتينا إلى النور الآن ولكن إذا رفضناهُ لكي نعيش بحسب شهواتنا فلا بد أن الله يكشف شرورنا وقت الموت والدينونة لأنهُ لا بد أن نظهر جميعًا أمام كُرسي المسيح. فإذًا الرياء لا ينفعنا إلاَّ إلى حين ثم يجلب علينا عارًا أزيد في الوقت المُعيَّن لإنارة سرائر القلوب وإجراء القضاء العادل. لذلك كل ما قُلتموهُ في الظُلمة يُسمع في النور وما كلمتم بهِ الأُذن في المخادع يُنادى بهِ على السطوح. لا يمكن أن الحقائق المُتعلقة بشخص المسيح وعملهِ تخفى لأنهُ قد وُضع علامة تُقاوم لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة.ة. فشهادة التلاميذ مهما كانت ضعيفة ومُستترة أيضًا فلا بد أن تمتدَّ وتشتهر. كان الهيكل والمجامع والمجالس الأولى والشهرة والنفوذ في يد الفريسيين وعُلمائهم وأما تلاميذ المسيح فمن أفقر الشعب ومع ذلك الشهادة المسيحية امتدَّت في الأرض وغلبت الديانة اليهودية. نعلم أنها قد فسدت إذ اختلطت مع خُرافات وتقليدات لا أصل لها في كتاب الحق ولكن قد نُودي بها في كل العالم. وهذا لتشجيع التلاميذ على تقديم شهادتهم بلا خوف.
4: وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. 5 بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا! 6 أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيًّا أَمَامَ اللهِ؟ (عدد 4-6).
يجتهد العدو دائمًا أن يُلقي الخوف في قلوبنا وقد غلب كثيرين هكذا لأن الخائفين مذكورون بين الذين يكون نصيبهم في بحيرة النار (رؤيا 8:21). فأجاب الرب على تلاميذهِ أن لا يخافوا من البشر الذين ليس لهم قوة إلاَّ لقتل الجسد فقط فإذًا لا ينبغي أن يخافوا إلاَّ من الله نفسهِ فإن لهُ سلطانًا على النفس أيضًا ليُلقيها في جهنَّم بعد الموت. ثم من الجهة الأخرى يعلن لهم أن الله المُعتني بالعصافير القليلة القيمة يعتني بهم إلى هذا المقدار حتى أنهُ قد أحصى شعور رؤوسهم. فالثقة هذه تكفي لنزع الخوف من قلوبنا في أي وقت كان. فما علينا إلاَّ أن نكون مُتيقنين بأنَّنا لهُ وبأن شهادتنا هي شهادتهُ ثم نتقدم بجراءة مُقدسة مُتكلين على إلهنا لا على أنفسنا.
7: بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضًا جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا! أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ! 8 وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. 9 وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ النَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. (عدد 7-9).
معلوم أنهُ كان صعبًا جدًّا على اليهود أن يقبلوا المسيح لأن بُغض الذين قتلوهُ لم يزل يتهيج على كل من اعترف بهِ. وقد أشار إلى ذلك بولس بقولهِ: «ولكن تذكَّروا الأيَّام السَّالفة التي فيها بعد ما أُنرتم صبرتم على مُجاهدة آلامٍ كثيرةٍ. من جهةٍ مشهورين بتعييراتٍ وضيقاتٍ، ومن جهةٍ صائرين شُركاء الذين تُصُرِّف فيهم هكذا. لأنَّكم رثيتُمْ لقيودي أيضًا، وقبلتُم سلب أموالكُم بفرحٍ،عالمين في أنفسكم أنَّ لكم مالاً أفضل في السماوات وباقيًّا» (عبرانيين 32:10-34). ولم يزل الاعتراف بهِ مصحوبًا بأخطار وشدائد بين الذين لم يربَّوا في إيمانهِ وهذا مما يمتحن إيمان مَنْ قَصد أن يُظهر ذاتهُ مسيحيًّا ولكن إذا ثبت يعدهُ المسيح أنهُ يعترف بهِ قُدَّام ملائكة الله. وهذا جزاءٌ جميلٌ. معلوم أن الاعتراف بالمسيح بين المسيحيين لا يُكلفنا أتعابًا ولكن الإقرار بالحق في وقتٍ ما فيُهيجهم علينا ويمتحن أمانتنا. وأنهُ خيرٌ لنا أن طريق الحق دائمًا تجلب الامتحانات لأن ذلك يحفظنا من الرياء. لأن كل مَنْ قلبهُ ليس مفعولاً من الحق إما أنهُ يمتنع عن قبولهِ أو يتركهُ بعد قليل عندما يُشاهد الصعوبات.
10: وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَهُ. 11 وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى الْمَجَامِعِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، 12 لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ». (عدد 10-12).
يتضح من هذا الفصل أن الرب يفرض رفضهُ وارتفاعهُ إلى السماء وحلول الروح القدس وأن تلاميذهُ في مقامهِ هنا في العالم مدة غيابهِ. وبالحقيقة الروح القدس هو الذي يُحافظ على الشهادة المسيحيَّة ومن جدَّف عليها جدَّف على الروح القدس نفسهِ. وهذا لا يُغفر لهم. معلوم أن كثيرين جدَّفوا على المسيح في الأول ثم انتبهوا لكلمتهِ في الإنجيل وآمنوا بهِ فغُفر لهم تجديفهم عليهِ كغيرهِ من خطاياهم وأما الرافض شهادة الروح القدس الذي حلَّ مدة غياب المسيح فليست لهُ مغفرة لأن النور مُضيء ولكنهُ إنما يزيدهُ عمىّ. لا شك بأنهُ توجد درجات في هذه الخطية كما في غيرها أيضًا والرب يُشير إلى حالة مَنْ رفض شهادة الروح حتميًّا. راجع (مَتَّى 31:12، 32؛ مرقس28:3-30). حيث هذا النوع من التجديف يصير على أعمال الروح القدس وأما هنا فيصير على شهادتهِ الصريحة بواسطة تلاميذ المسيح. لاحظ أيضًا أن الرب يفرض حضور الروح معهم مدة غيابهِ ويجب أنهم يعرفونهُ وينتظرون معونتهُ عند إظهار شهادتهم قدام أعظم المضطهدين الذين لهم سلطان على نزع حياتهم.
13 وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ:«يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ». 14 فَقَالَ لَهُ: «يَاإِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟» 15 وَقَالَ لَهُمُ:«انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ». 16 وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً:«إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، 17 فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ 18 وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِي وَخَيْرَاتِي، 19 وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي! 20 فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَاغَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ 21 هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا ِللهِ». (عدد 13-21).
كانت أحوال إسرائيل سيئة من كل الأوجه كما قد رأينا مرة بعد أخرى في هذا الإنجيل فإنهم كانوا مغلوبين من الرياء في الدين والطمع، والظلم في الدنيا وما بقى أمل بإصلاحهم كأُمة. استنتج أحد السامعين أن الرب لا بد أن يكون ضد الظلم ويحمي الضعيف من تعدي القوي فاستعان بهِ ضد أخيهِ الظالمهُ في قسمة ميراثهما. كان لهُ حق كإسرائيلي أن يُحافظ على ميراث آبائهِ ولكن ماذا ينتفع الأخ المظلوم ولو حصل على حقوقهِ تمامًا لأن المسيح قد رُفض والدينونة مُقبلة على كل شيء فإذًا ينبغي أن تكون الأهمية العظمى لخلاص النفس والحياة الأبدية. فرفض المسيح أن يقضي بينهما واتخذ الفرصة أن يُحذر الجميع من الطمع فإنهُ مَتَى كان لأحد كثير فليست حياتهُ من أموالهِ. يعني المال الذي يطمع فيهِ القلب لا يتعلق إلاَّ بالجسد فقط. ثم ضرب لهم مثل الغني لمُناسبتهِ إلى أفكار اليهود بل لأفكار الناس عمومًا في كل حين. بحيث أنهم يحسبون الغني في الدنيا سعيدًا بغضّ النظر عن الآخرة. معلوم أن محبة المال موجودة في الفقراء أيضًا وأنها أصل جميع الشرور أينما وُجدت ولكن مقصد الرب بهذا المثل إظهار قلَّة نفع الغنى وإن فاز الإنسان بالحصول عليهِ فإنهُ إنما يزيد فيهِ حبَّ الذات ويشغلهُ براحتهِ في هذا العالم كقولهِ السابق لأنهُ ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلهُ وأهلك نفسهُ أو خسرها (إصحاح 25:9). لم يكن لوم على رجل إسرائيلي إذا أخصَّبت كورتهُ فإن الله وعدهُ بازدياد الخيرات الأرضية ولكنهُ قال أيضًا. إن زاد الغنى فلا تضعوا عليهِ قلبًا (مزمور 10:62). فإذا فرضنا أنَّنا حصلنا على مقدار من المال بدون ظلم على الآخرين فلا يزال فخًّا كبيرًا لقلوبنا حيث نعتمد عليهِ كأنهُ يدوم معنا ويُريحنا زمانًا طويلاً كما يُمثَّل لنا بما عمل وتكلم هذا الغني. فإنهُ نسي الله والموت أيضًا ووعد نفسهُ براحة وفرح لسنين كثيرة. ولكن الموت لا يُحابي بالوجوه ولا يتقاعد عن عملهِ فإنهُ يسود على الغني كما على الفقير. لا تخشَ إذا استغنى إنسانٌ إذا زاد مجد بيتهِ. لأنهُ عند موتهِ كلهُ لا يأخذ لا ينزل وراءهُ مجدهُ. لأنهُ في حياتهِ يُبارك نفسهُ ويحمدونك إذا أحسنت إلى نفسك (مزمور 16:49-18. فالغنى هذا أحسن إلى نفسهِ وباركها في حياتهِ وللناس العادة أن يمدحوا مَنْ عمل هكذا. فقال لهُ الله: يا غبي هذه الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون فالناس بحسب أفكارهم القاصرة يحسبون حميدًا وسعيدًا مَنْ يحسبهُ الله غبيًا. ربما يقول قائل: نترك ثروتنا لأولادنا. ولكن فكرًا كهذا الغباوة أيضًا بحيث إن كان المال فخًّا لنا ألا يفسد أولادنا أيضًا وفضلاً عن ذلك ماذا نكون انتفعنا بهِ من بعد ما سبَّب هلاك نفوسنا. هكذا الذي يكنز لنفسهِ وليس هو غنيًّا لله. قد قيل : أن الغنى المحصَّل بالحلال ليس شرًا بذاتهِ. ولا بأس بهذا القول ولكن الشرَّ في قلوبنا فإنها تُحوّل خيرات الله إلى فخ لها وسواء زاد المال بالحرام أو بالحلال نُحب أن نكنزهُ لأنفسنا وننسى الله ودينونتهُ.