نرى هنا صورة لسرعة انتقال قلوبنا الضعيفة من مفعول كلمة الله إلى الكبرياء والأباطيل. قال سليمان الحكيم: لولا قليل لكنتُ في كل شرٍ في وسط الزمرة والجماعة (أمثال 14:5) يعني أنهُ في الاجتماعات لعبادة الله تعجَّب من حركات الفساد في داخلهِ. ولا شك بأننا جميعًا قد اختبرنا مثلهُ هذا الاختبار العجيب المُذلّل. كان التلاميذ مع الرب في تلك الساعات الخطيرة وكلماتهُ الفعالة تطرب مسامعهم ومع ذلك تشاجروا معًا في مسألة تتعلق بكبرياءهم فلم يزالوا يتصورون ملكوت المسيح على هيئة عالميَّة وطلبوا كل واحد منهم أكرم موضع فيهِ لنفسهِ. لم يكن صبر الرب قد أُفرغ معهم بعد فأخذ يزيل أفكارًا كهذه من بالهم بغاية اللطف. فدلهم على ترتيب ممالك هذا العالم بحيث للبعض المقام الملكي ويتسلطون على الآخرين ويُقال لهم مُحسنين أيضًا حيث يدعون بأنهم يعملون خيرًا بسيادتهم على الرعيَّة. فليكن الأمر مع ملوك العالم هكذا لأنهُ يوافق ترتيب العالم وأما الترتيب الذي رتَّبهُ المسيح لاتباعهِ فخلاف ذلك تمامًا. كقولهِ: وأما أنتم فليس هكذا. فلا يوجد موضع بين تلاميذ المسيح للتسلُّط العالمي. بل الكبير فيهم ليكن كالأصغر والمُتقدم كالخادم. توجد درجات مُتفاوتة من التقدُّم روحيًّا ولكننا إنما نُظهر تقدُّمنا بالتواضع وخدمة الآخرين بالمحبة وترك ما هو لأنفسنا. لأن مَنْ هو أكبر الخ؟ كان لهُ مقام السيادة بلا شك ولكنهُ تنازل إلى أن يشغل مقام خادم فأعطانا قدوةً في ذلك. غير أنهُ يوجد فرق عظيم بينهُ وبيننا مهما أظهرنا من التواضع بحيث أن التواضع واجب علينا باعتبار ماذا نحن فإننا تراب ورماد بل كتلة فساد بجملتنا فإذا خدمنا اخوتنا بالتواضع فذلك يليق بنا ولا نقدر أن نحسبهُ من التنازل أبدًا. وبالحقيقة التواضع فينا هو تركِنَا الكبرياء التي فينا بالطبيعة والتي تحملنا للمُشاجرة في مَنْ منا يظنُّ أنهُ يكون أكبر. فالتنازل عن الخطية وتركها من واجباتنا وليس لنا فضل منهُ.
28 أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، 29 وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا، 30 لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ». (عدد 28-30).
كان كلامهُ السابق كتوبيخ لهم فاستحقوهُ كل الاستحقاق ولكن الرب بتوبيخات فمهِ لا يبعدنا عن محبة قلبهِ. فبعد ما وضعهم في مقامهم عاد ذكر ثُبُوتهم معهُ في تجاربهِ. يعني أنهم رافقوهُ مدة خدمتهِ الجهارية. لاحظ أنهُ يُراجع خدمتهُ في وسط إسرائيل ويصفها بكلمة واحدة. تجاربي. لأنهُ ابتدأها بتجربتهِ من إبليس وفي مدَّتها احتمل من الخطاة مقاومةً لنفسهِ وها هو مُنهيها بخيانة أحد تلاميذهِ وفضهِ من الأُمة المُختارة التي أحبَّها. وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا. الثبوت والتألُّم مع الرب قد ترتَّب لنا استعدادًا لاشتراكنا معهُ في ملكوتهِ العتيد. إن كنا نصبر معهُ فسنملك أيضًا معهُ (تيموثاوس الثانية 12:2). انظر أيضًا وعدهُ. مَنْ يغلب فسأُعطيهِ أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشهِ (رؤيا 21:3). لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيَّ تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر. فيكون ملكوت المسيح المُستقبل مائدة وعرش ولا يخفى عن القارئ المسيحي أن المائدة عبارة عن الأُلفة والمحبة المُتعلقة بعائلة وأما العرش فعبارة عن الحكم وإظهار المجد في الملكوت فيكون لنا الاشتراك مع المسيح من الجهتين لأننا سنكون معهُ كعروسهِ ورفقاءهِ ونملك معهُ أيضًا كملوك جالسين على عروش حول عرشهِ. غير أنهُ يُعطي جزاءً خصوصيًّا للاثنى عشر بأن يكون لهم الحكم على أسباط إسرائيل فالواضح أن هذا خاصٌّ بهم لأنهُ لا يمكن لغيرهم أن يفوزوا بهِ ولكن يوجد كلام كثير في مواضع أخرى يؤكد لنا أن جميع المؤمنين سيملكون مع المسيح. وقد رأينا سابقًا أن مجازاة الملكوت تختلف بعضها عن بعض. ونرى هنا أن الرُّسل يدينون أي يتسلطون على أسباط إسرائيل الذي يُحسبون أول الأُمم وقت الملكوت.
31 وَقَالَ الرَّبُّ:«سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! 32 وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». 33 فَقَالَ لَهُ:«يَارَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ!». 34 فَقَالَ:«أَقُولُ لَكَ يَابُطْرُسُ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي». (عدد 31-34).
كانوا قد تبعوهُ كمسيح حيّ منتظرين أنهُ يبقى معهم إلى الأبد بدون أن يموت ولكن الموت كان أمام الرب في الطريق المُعيَّنة لهُ وكأنهم قد وصلوا إلى مفارق الطريق فيُبادر الشيطان ليأخذ فرصةً من انقلاب أفكارهم وحيرتهم لكي يُغربلهم جميعًا كالحنطة كما صار. سبق الرب وأصلحهم من الكبرياء العالميَّة وأما هنا فيمتحنهم في شيء آخر أي ثقتهم الذاتية. كان الشيطان مُزمعًا أن يُغربلهم جميعًا لا سيما سمعان بطرس لكونهِ واثقًا في نفسهِ أكثر من رفقاءهِ. فخاطبهُ خصوصًا لعلَّهُ ينتبه. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. فعندما يأتي بهِ الشيطان إلى نكران سيدهِ يكون في أعظم خطر أن يتقدم أكثر ويفنى إيمانهُ ويتلاشى تمامًا ولكن الرب سبق وطلب من أجلهِ أن الآب يُراقبهُ ويرجَّعهُ بعد ضلالهِ وينهضهُ بعد سقوطهِ. وأنت مَتَى رجعت ثبِّتْ إخوتك. ويكون قادرًا على هذه الخدمة لإخوتهِ المتزعزعين لكونهِ قد اختبر عظم نعمة الله أكثر منهم. ونراهُ مُتممًا هذا العمل في أوائل سفر الأعمال. فقال لهُ: يا رب إني مُستعدٌّ أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت الخ. كان خيرًا لسمعان لو انتبه وارتاب بنفسهِ قليلاً ولكن ثقتنا الذاتية لا تموت إلاَّ بضربة شديدة. وربما كانت فينا استقامة النية ومحبة قلبية للمسيح كما كانت في بطرس ولكن ذلك لا ينزع منا الثقة بذواتنا وكثيرًا ما لا يوجد علاج لها حتى أن الله يتركنا لنمتحن قوتنا وحكمتنا في مواجهة العدو العظيم المُحتال فبعد سقوطنا وإهانتنا اسم الذي نُحبُّهُ نتواضع ونبتدئ نسلك بالاحتراص. فسمعان بدل ما يتبع الرب إلى السجن والموت يخاف من أقلّ سبب وينكرهُ ثلاث مرَّات.
35 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لاَ». 36 فَقَالَ لَهُمْ:«لكِنِ الآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفًا. 37 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ». 38 فَقَالُوا: «يَارَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ:«يَكْفِي!». (عدد 35-38.
فمرام الرب بهذا الكلام أن يُنبههم على الحقيقة العظيمة أنهُ مُزمع أن يُفارقهم فتنقطع علاقتهُ ونسبتهُ الحاضرة معهم. كانت بينهُ وبينهم نسبة خصوصية مدة حياتهِ بحيث أنهُ كان مسيحهم الحيّ الحاضر في وسط إسرائيل واختارهم كما رأينا آنفًا وأرسلهم إرسالية خصوصية ورتَّب أُمورهم بعنايتهِ حتى أنهم لم يحتاجوا إلى شيء مع أنهم جالوا بالفقر. فقال لهم: ولكن الآن مَنْ لهُ كيس فليأخذهُ ومزودٌ كذلك ومَنْ ليس لهُ فليبع ثوبهُ ويشترِ سيفًا الخ. فيذكر لهم شيئين مما تعلَّق بنسبتهم لهُ يعني القوت والعناية أو المُحامات فكان هو يقوتهم ويحميهم في وسط أعدائهم لأن السيف مجاز ويُشير إلى ذلك وفحوى كلامهِ إني ما دمتُ معكم كنتُ أعتني بكم هكذا وأما الآن فأنا مُزمع أن أُفارقكم فتصبحون على حالة أخرى مَتَى رُفض ابن الإنسان وأُحصي مع الأثمة. لأن ما هو من جهتي لهُ انقضاءٌ. يعني النبوات القديمة تتم في موتهِ. فقالوا: يا رب هوذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي. يعني يكفي الكلام عن هذا الموضوع لأنهم ما فهموا كلامهُ.
39 وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ. 40 وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ:«صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». 41 وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى 42 قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». 43 وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. 44 وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. 45 ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ. 46 فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». (عدد 39-45).
لما أنهى كل كلامهِ معهم في العلِّيَّة خرج من المدينة كعادتهِ وسلك الطريق المؤدي إلى جبل الزيتون وأما البستان الذي دخلهُ مع التلاميذ فعند أسفل الجبل المذكور وعند وصولهم إليهِ قال لهم: صلُّوا لكي لا تدخلوا في تجربة. ينبغي أن نُلاحظ التغيير الذي حصل في اختبارات الرب. سبق وقال لهم في العلِّيَّة: لا أتكلم أيضًا معكم كثيرًا لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس لهُ فيَّ شيءٌ (يوحنا 30:14) وقد رأينا في (إصحاح 4) أن إبليس لما أكمل كل تجربة فارقهُ إلى حين. وأما هنا فنراهُ مُقبلاً إلى الرب ثانيةً ليس كالمُجرِّب بل كرئيس هذا العالم لهُ اليهود والأُمم تحت سُلطانهِ نعم والموت أيضًا كإحدى آلاتهِ لأن الإنسان من حين أُستعبد لإبليس صار عُرضةً للموت. لاحظ أنهُ لا يقول للتلاميذ أن يُصلُّوا لأجلهِ بل لأجل أنفسهم لكي لا يدخلوا في تجربة. كان العدو آتيًا عليهم جميعًا مُهيجًا العالم ضدَّهم فإذا اشتبكوا بحبائل الشبكة فلا بد أن يسقطوا كما سقط بطرس نفسهُ. فكان يجب أن ينتبهوا للظروف الخطرة المُحيطة بهم ويصرخوا لله القادر أن يحفظهم من التجربة. وهذه من الطلبات الواجب علينا تقديمها دائمًا كما قيل في الصلاة الربانية. ولا تُدخلنا في تجربةٍ بل نجنا من الشرير (مَتَّى 13:6). الفتور في الصلاة والثقة الذاتية ليسا من الوسائط لحفظنا ثابتين في سبل البرّ. قال بطرس الرسول: اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول مُلتمسًا مَنْ يبتلعهُ هو (بطرس الأولى 8:5) لا يخفى عن المسيحي الخبير أننا في تجربة من الجهتين:
أولاً- أن نثق بأنفسنا غير مُبالين بحضور العدو وقوتهِ فبدل ما نُمارس الصلاة نرتخي وننام فيُهاجمنا فجأةً ويوقعنا في فخاخهِ.
ثانيًا- من الجهة الأخرى، إذا انتبهنا في وقتٍ ما ورأينا قوة العدو وهو عامل ضدّنا لا نزال في تجربة أن ننشغل بهذا المنظر الفظيع ونمتلئ خوفًا وحينئذ ينتصر علينا لأن الخوف منهُ يفتح بابًا لهُ بحيث أنهُ يُضعف إيماننا في وقتهِ ويعمي نظرنا حتى لا نقدر أن نرى يد الله وقوتهُ العاملة معنا لتُعطينا النصرة. وقد ورد مثال جميل لذلك في حادثة غلام أليشع النبي، فبكَّر خادم رجل الله وقام وخرج وإذا جيش محيط بالمدينة وخيل ومركبات فقال غلامهُ لهُ: آه يا سيدي كيف نعمل؟ فقال لا تخف لأن الذين معنا اكثر من الذين معهم. وصلى أليشع وقال: يا ربّ افتح عينيهِ فيُبصر. ففتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع (ملوك الثاني 15:6-17). وهكذا الأمر معنا إذا نظرنا قوة العدو فقط نخاف من منظرها ونقول آه كيف نعمل؟ ولكن إذ انفتحت أعيننا روحيًّا نرى منظرًا آخر يختلف عن ذاك اختلافًا عظيمًا فإننا نرى الله معنا فنثبت هادئين.فنحتاج إلى المُداومة على الشركة مع الله في كل حين لكي ننتصر على إبليس ونسلم من تجاربهِ. وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على رُكبتيهِ وصلَّى. نرى الرب هنا في مقامهِ كإنسان إذ لم يستعمل قُدرتهِ الإلهية ليُخلص نفسهُ من مواجهة العدو المُقبل عليهِ بالقوة. فتصرَّف كما يليق بإنسان كامل متوكل على الله. أنذر تلاميذهُ بأن يُصلُّوا لأنفسهم ولكنهُ انفصل عنهم لكي يُصلِّي وحدهُ لأنهُ كان فرق عظيم بينهُ وبينهم كما قد رأينا آنفًا بحيث أنهُ كان يُصلِّي باعتبار النسبة الفريدة الخصوصية بينهُ وبين الآب فلم يقدر أن يُصلِّي مع تلاميذهِ كأنهُ يتقدمهم وينطق بطلبات تُناسبهُ وإياهم سويةً فنراهُ مُحافظًا على مجد شخصهِ الخاص حتى في أشدّ إتضاعهِ. قائلاً: يا أبتاهُ إن شئت أن تُجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك. قد رأينا في أول هذا الإصحاح أن الرب بعد ما أكمل خدمتهُ الجهارية كمُعلِّم ونبي أخذ مقامًا آخر أي مقام ذبيحة فصار الموت قُدَّامهُ وأي موت. الموت تحت حكم الله العادل مع صرف وجههِ عن ابن محبتهِ. فلم يكن من الأُمور اللائقة بهِ كإنسان أن يرتعب في الموت فخاطب الآب أن يُجيز عنهُ هذه الكأس غير أنهُ سلَّم إرادتهُ لا إرادة أبيهِ وبذلك أظهر طاعتهُ الكاملة حتى الموت. الذي في أيام جسدهِ إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرُّعات للقادر أن يُخلِّصهُ من الموت وسُمع لهُ من أجل تقواهُ. مع كونهِ ابنًا تعلَّم الطاعة مما تألَّم بهِ (عبرانيين 7:5، 8. وظهر لهُ ملاك من السماء يُقويهِ. هذا كان الجواب الحالي لتقواهُ أو خضوعهِ الكامل لإرادة أبيهِ إذ ظهر ملاك من السماء وقوَّى الرب جسدًا لكي يحتمل كل ما تعيَّن لهُ. لاحظ إنهُ لم يكن يشرب الكأس بعد بل إنما ينتظرها وانتظارها فعل فيهِ إلى هذا المقدار حتى طلب أن تعبر عنهُ إن أمكن. معلوم أن الحزن الشديد لا يؤثر في الروح فقط بل في الجسد أيضًا فلذلك احتاج إلى التقوية بواسطة الملاك الذي تعلَّقت خدمتهُ بالجسد فقط وأما تعزية نفسهِ فاستمدها من الآب بالشركة معهُ. وإذ كان في جهادٍ كان يُصلِّي بأشد لجاجةٍ وصار عرقهُ كقطرات دمٍ نازلة على الأرض. فمن هذا يتضح التأثير العظيم الذي صار في جسد فادينا العزيز حين كان ينظر إلى الآلام العتيدة أن تحصل لهُ عندما يكون متروكًا من الله ومضروبًا من يد العدل كفارةً عنا. كلما اشتدَّ حزنهُ ازدادت شركتهُ مع أبيهِ مُسلِّمًا كل شيء لإرادتهِ. وذلك خلاف ما يصير في القديسين أوقاتًا كثيرة في شدائدهم إذ تنقطع شركتهم مع الله إلى حين ومن ضعفهم يضجرون وربما ينسبون الحماقة لله. ونرى مثال ذلك في أيوب نفسهِ الذي اشتهر بصبرهِ ومع ذلك أعيى وضجر في وقت الضيق. فأجاب أيوب وقال: اليوم أيضًا شكواي تمرُّدُ. ضربتي أثقل من تنهُّدي. مَنْ يعطيني أن أجدهُ فآتي إلى كُرسيهِ. أُحسن الدعوى أمامهُ وأملأ فمي حججًا. فأعرف الأقوال التي بها يُجيبني وأفهم ما بقولهِ لي (أيوب 1:23-5). لم يزل هذا العبد المُتضايق واثقًا بالله إنهُ ينصفهُ لو استطاع أن يجدهُ ويأتي إليهِ بدعواهُ ولكنهُ لم يكن وقتئذٍ في الشركة معهُ وأما المسيح فلم تنقطع شركتهُ مع الآب إلاَّ على الصليب فقط. ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذهِ فوجدهم نيامًا من الحزن. فلم يكونوا غير مُتأثرين مما شاهدوهُ في سيدهم ولكن حزنهم غلب عليهم وأوقعهم في النوم خلاف حزن الرب الذي إنما قادهُ إلى الشركة مع أبيهِ. فللحزن الشديد أفعال متنوعة في البشر كما لا يخفى ولكن فعلهُ يكون أكثر نفعًا لنا إذا حملنا إلى عرش النعمة لكي نسكب قلوبنا أمام إلهنا بالصلاة. كان الرب يصنع كل شيء في الوقت المُعيَّن بغاية الكمال ففي وقت الصلاة كان مُنفصلاً عن التلاميذ يُصلِّي فاستمدَّ من أبيهِ المعونة وارتفع فوق قوات الظلمة وحالما انتهى جهادهُ افتكر في تلاميذهِ وجاء إليهم. فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربةٍ. كان الأعداء مع يهوذا الإسخريوطي قادمين إلى البستان وها التلاميذ نيام غير مُستعدين لحادثة كهذه. لا يمكن أن إلهنا يقودنا إلى الخطية ولكنهُ من الأُمور الممكنة أنهُ يُدخلنا في تجربة يعني يسمح أن نكون في غربال الشيطان إلى حين حتى ينكشف لنا الجسد الفاسد فينا فنتعلم أن نتكل على الله وليس على أنفسنا وحكمتنا. وكثيرًا ما يظهر فينا مقدار عظيم من القساوة أو الخفَّة أو عدم الانتباه إلى إنذارات الرب ونستمرُّ في طريقنا حتى أخيرًا لتنبيهنا وسحقنا يلزم أن يتركنا الآب لأنفسنا لكي نختبر قوة العدو الذي لم نكن نسهر ونُصلي ضدَّهُ ونتعلم أيضًا ضعف الإنسان وعدم نفع الجسد وحينئذٍ بعد رد نفوسنا نسلك بالتواضع وبخوف الله غير متكلين على أنفسنا. فيليق بنا أن نُصلي في كل حين لئلا ندخل في تجربةٍ يعني أن أبانا يحفظنا سالكين معهُ حتى لا يكون داعٍ يوجب أن يرمينا لأجلهِ في غربال الشيطان. لا شك أنهُ من نعمتهِ المُتفاضلة يعتني بنا وإذا لزم يُنقينا بوسائط مؤلمة ومرَّة كهذه ولكن مع ذلك مُخيف هو الوقوع في يدي الله الحيّ. خير لنا أن نتعلم ضعفنا وقوة العدو بالسلوك مع الله والمواظبة على الصلاة من أن نتعلم ذلك من الاختبار المُرّ الناتج من سقوطنا تحت قوة التجربة. لا يخفى على القارئ المسيحي أن جهاد الرب في البستان يُظهر لنا حقيقة ناسوتهِ لأننا نراهُ يُصلي بلجاجة شديدة إلى أبيهِ وحصل على الجواب منهُ لا بإجازة الكأس عنهُ بل بإرسال ملاكٍ ليُقويهُ جسدًا حتى يستطيعه أن يُكمل مشيئة الآب تمامًا. ينبغي أن نُلاحظ جيدًا أنهُ يُقال عنهُ أنهُ كان خائفًا بل أنهُ كان حزينًا جدًا حتى الموت كما ورد في (مَتَّى 38:26) وأنهُ كان في جهادٍ. لأن الخوف لا يليق بهِ كابن الله وإنسان كامل الاتكال على الذي أرسلهُ. لا شك بأن الخوف يغلبنا نحن أوقاتًا كثيرة لضعف إيماننا. لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لأن الخوف لهُ عذاب وأما مَنْ خاف فلم يتكمل في المحبة (يوحنا الأولى 18:4). فإن سأل لماذا اشتدَّ جهاد السيد إلى هذا المقدار إن لم يكن فيهِ الخوف مما هو عتيد أن يأتي عليهِ؟ فأقول: