صموئيل الثانى
انتصارات داود النبى
فى السفر السابق ظهر داود النبى كرجل الله الحق ، الذى غلب وانتصر ، لا على الآخرين ، بل فى حياته الداخلية . لقد سقط شاول الملك مطارده بين يديه على الأقل مرتين ولم يقبل أن يمد يده على مسيح الرب . وعندما ثار على نابال الأحمق وعزم أن ينتقم لنفسه سمع لمشورة أبيجابل الحكيمة وباركها لأنها منعته عن الأنتقام لنفسه . الآن سقط شاول وبنيه فى الحرب ، فانكشف بالأكثر اتساع قلب داود بالحب الخالص . لقد نسى إساءات شاول واضطهاداته المستمرة ، كما لم ينشغل بنفسه بكونه مستحقا أن يتولى عرش المملكة ، إنما رثى شاول ويوناثان ، متذكرا الجوانب الطيبة فيهما ، فحسبهما حلوين . وكان يرثيهما بقلبه ودموعه كما بلسانه وشفتيه .
استحق صاحب هذا القلب الكبير أن يتمتع بنصرات مستمرة على الأمم المحيطة به والمقاومة حيث ثبتت مملكته ، لا ليتسلمها سليمان ابنه من بعده فحسب ، وإنما بالحرى ليأتى من نسله المسيا المخلص يملك إلى الأبد على قلوب مؤمنيه ، مقيما ملكوت الله داخلهم .
+ + +
الأصحاح الأول
داود يرثى شعبه
انتصر داود على عماليق ورد المسبيين وعاد يحمل الغنائم الوافرة ليوزع منها على شيوخ يهوذا ، ويجدد المساكن بعد حرق صقلغ ( 1 صم 30 ) ، أما قلبه فكان ملتهبا من جهة شعبه ، إذ يعلم كيف ضعف الجيش وفارق روح الرب شاول بينما اتسم جيش الفلسطينيين بالقوة والنظام .. فى اليوم الثالث من وصوله إلى صقلغ جاء عماليقى يبشره بموت شاول مسيح الرب ، وكان ينتظر مكافأة مدعيا أنه ضرب شاول فى أنفاسه الأخيرة فنال عقوبة ، ورثى داود شاول ويوناثان وكل الشعب .
( 1 ) عماليقى يبشر بموت شاول
فى اليوم الثالث من وصول داود إلى صقلغ بينما كان مهتما بإعادة بنائها كان قلبه يئن مع ضيقة شعبه . متوقعا بين لحظة وأخرى أن تصله أنباء عن المعركة ، وإن كانت الأنباء متوقعة مقدما . جاء غلام بثياب ممزقة وعلى رأسه تراب يخبره بنتائج المعركة .
أما قصة هذا الغلام العماليقى ، فبحسب التقليد اليهودى هو ابن دواغ الأدومى : شعر أن داود سيملك لا محالة ، أراد أن يكون أول مبشر بخبر موت شاول ويوناثان ، غالبا ما رواه الغلام كان كذبا ، لكنه أراد أن يكسب ود داود . أخبره بأن شاول ويوناثان قد ماتا وكأنه لم يصر هناك وارث للعرش سوى داود ، قال عن شاول فقط : " فوقفت عليه وقتلته " . رأى علامات الضيق والحزن على وجه داود فأكمل حديثه : " لأنى علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه " . أخيرا أراد أن يهنئه بالملك كوارث لشاول ، فقدم له إكليل شاول وسواره لأنه هو أولى من يستلمهما .
فى الآثار الأشورية غالبا ما يصور المحاربون وقد لبسوا حليا خاصة أسورة على أذرعتهم .
واضح من القصة أنها مختلقة وذلك بمراجعة 1 صم 31 : 3 .... الخ .
صورة مؤلمة لقصة أحكم الغلام حبكها لكى يكسب ود داود ! لكن داود الحلو فى حبه وإخلاصه حكم على الغلام من فمه كقاتل لمسيح الرب . لقد كذب العماليقى ، وجنى ثمرة كذبه قتله لنفسه ، كما دفع حياته الجسدية للهلاك عوض المكافأة .
( 2 ) داود يبكى شعبه
لم يفكر داود ولا رجاله فى التشفى فى شاول المقاوم لهم زمانا طويلا ، ولا فيمن يستلم الحكم من بعده ، .....الخ وإنما ندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء من أجل موت شاول ويوناثان ومن أجل موت الكثير من الشعب وانكساره .
تعلم سليمان الحكيم هذه المشاعر الرقيقة من أبيه ، فقال : " لا تفرح بسقوط عدوك ، ولا يبتهج قلبك إذا عثر ، لئلا يرى الرب ويسوء ذلك فى عينيه فيرد عنه غضبه " أم 24 : 17 ، 18 ؛ " الفرحان ببلية لا يتبرأ " أم 17 : 5 .
لم يوجد من يبكى شاول ويرثيه من الأعماق إلا ذاك الرجل الذى أبغضه شاول لسنوات طويلة ومعه رجاله، لقد حمل داود ظلا للسيد المسيح الذى بكى على أورشليم الساقطة بينما كانت تستخدم كل طاقاتها لقتله ( مت 23 : 37 ؛ لو 13 : 34 ) !
( 3 ) داود يعاقب العماليقى
تعجب داود كيف يتجاسر إنسان مفتخرا أنه قتل مسيح الرب وهو جريح فى المعركة ، لذا سأل الغلام : " من أين أنت ؟ " فقال له : " أنا ابن رجل غريب عماليقى " ..... عاد ليسأله : " كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب ؟ " . إذ لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال صمت ، فحكم بصمته على نفسه : " دمك على رأسك لأن فمك شهد عليك قائلا : أنا قتلت مسيح الرب " .
( 4 ) مرثاة لشاول ويوناثان
تقف كل نفس أمينة أمام هذه المرثاة العجيبة فى خشوع لتحيى الحب الصادق النابع من قلب داود تجاه مضطهده شاول وصديقه يوناثان . تهتز كل مشاعر داود أمام نبأ قتلهما فلم يقدر أن يحبس دموعه ولا أن يصمت بلسانه فسجل لنا هذه المرثاة .
عبر داود النبى عن مشاعره الأمينة بمرثاة لشاول ويوناثان ، وقد طلب من بنى يهوذا أن يتعلموها لكى تبقى ذكراهما دائمة . سجلت فى كتاب شعرى مشهور فى ذلك الحين يسمى " سفر ياشر " وهو كتاب أدبى وليس سفرا من أسفار الكتاب المقدس ( يش 10 : 13 ؛ 1 مل 8 : 35 )
دعا داود مرثاته " نشيد القوس " ربما من أجل ذكره قوس يوناثان المحبوب لديه ( 2 صم 1 : 22 ) .
هذا النشيد أو هذه المرثاة ليست مزمورا موحى به بل هى قصيدة شعرية تكشف عن مشاعر حب وإخلاص .
+ " الظبى يا إسرائيل مقتول على شوامخك " 2 صم 1 : 19 : ربما قصد بالظبى يوناثان ، إذ كانت سرعة الحركة من أعظم سمات المحارب ، فكان يوناثان سريعا فى حركته كالظبى ، لكنه وجد مقتولا على شوامخ إسرائيل ، أى على جبال حلبوع الشامخة .
+ " كيف سقط الجبابرة ؟!" : ربما كان هذا القول قرارا فى النشيد ، فقد دعى شاول وابنه ورجالهما جبابرة لم ينتظر سقوطهم ، كانوا سندا للكثيرين ، لكنهم سقطوا فسقط الجميع وراءهم .
+ " لا تخبروا فى جت ، لا تبشروا فى أسواق أشقلون ، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين ، لئلا تشمت بنات الغلف " 2 صم 1 : 20 . اختار جت بكونها أعظم مدن الفلسطينيين وأشقلون المدينة التى فيها أعظم هياكل عشتاروت ربما أرسل إليها سلاح شاول ويوناثان ( 1 صم 31 : 10 ) .
+ " يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات ، لأنه هناك طرح مجن الجبابرة مجن شاول بلا مسح بالدهن . من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء وسيف شاول لم يرجع خائبا " 2 صم 1 : 21 ، 22 . هذه جميعها اصطلاحات شعرية تصور خطورة الكارثة التى حلت على جبال جلبوع حيث تلطخت بدماء ملوكية ، دماء جبابرة بأس ، يطلب ألا يكون عليها طل ولا مطر فتجف وتصير قفرا بعد موت الجبابرة ، ولا يكون بها حقول تأتى بثمار يقدم منها تقدمات للرب أو ما يستحق أن يقدم عنها عشور أو بكور حيث حل بها الخراب ، فقد سقطت أسلحة الجبابرة ، سيف شاول لم يمسح بالدهن ليقاتل به ( كانت العادة أن يمسح السيف قبل استعماله ) ، لقد سقط عليه وتلطخ بدمه عوض الدهن ، كانت قوس يوناثان وأيضا سيف شاول دائمى العمل فى قتل الجبابرة أما الآن فتوقفا !
تذكر داود انتصارات شاول الكثيرة وغلبته على أعدائه ( 1 صم 14 : 47 ) .
+" شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان فى حياتهما لم يفترقا فى موتهما ، أخف من النسور وأشد من الأسود " 2 صم 1 : 23 . أظهر داود نقاوة قلبه الداخلية فإنه لم ينطق بكلمة واحدة تسىء إلى شاول ، ولا حتى بالتلميح ، إنما امتدحه مع محبوبه يوناثان . تطلع إليهما كمحبوبين ، فقد أحب يوناثان أباه شاول وبقى سندا له فى البلاط ، أمينا فى عمله ، حلوا فى تصرفاته ، ملاصقا له حتى الموت وإن كان لم يسترح لحسد أبيه نحو داود ولم يشترك معه فى التصرفات الخاطئة .
مدحهما داود على سرعتهما فى الحركة وشجاعتهما فى القتال مشبها إياهما بالنسور والأسود .
+ " يا بنات إسرائيل أبكين شاول الذى ألبسكن قرمزا بالتنعم ، وجعل الذهب على ملابسكن " 2 صم 1 : 24 .
كانت لشاول خطاياه من عصيان وعناد وجنون وحسد لكن داود تجاهل هذا كله فى مرثاته ، مذكرا النسوة الباكيات بأعماله الجبارة ، فقد حارب وغلب ، واستقرت البلاد فى أيامه حتى لبست النساء القرمز متنعمات وتحلين بالذهب لأنهن فى أمان من الأعداء والسبى .
+ " قد تضايقت عليك يا أخى يوناثان ، كنت حلوا لى جدا ، محبتك لى أعجب من محبة النساء " 2 صم 1 : 26 ، محبة النساء لرجالهن عجيبة ، إذ يتركن بيوت آبائهن وأهلهن ويلتصقن برجالهن ، ... أما حب يوناثان فكان أعذب وأحلى . لقد بقى فى بيت أبيه محتملا التعييرات بسبب داود ، كان يعلم أن داود يحتل عرشه ، فكان يهيىء له الطريق بفرح مقدما حياته فدية عنه ، كان بحق حلوا فى حبه ! أى شىء أعذب من الحب الأخوى الخالص الذى لا يطلب ما لنفسه بل ما لصديقه ! .
+ + +