الأصحاح السادس عشر
داود الهارب
كانت نفس داود مرة للغاية فى هذه المرة فإنه ليس هاربا من أمام شاول الملك الذى يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما أمام ابنه العاق الذى اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده ، ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه ، هذا بجانب شعوره الخفى أن ما حل به هو ثمرة ما أرتكبه فى حق الله وضد أوريا الحثى
على أية الأحوال تكشف المزامير التى أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه فى الرب ، مدركا أن ما حل به تأديب أبوى من قبل الرب مخلصه .
( 1 ) لقاؤه مع صيبا
كان صيبا يطمع فى اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها ، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث .
لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوى ، وأن الضيقة التى يجتازها عابرة ، وأن الأنتصار حليفه فى النهاية ، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر ، قال له إن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء فى البرية .
سأل داود عن مفيبوشث ، وفى مكر أجاب صيبا : " هوذا هو مقيم فى أورشليم ، لأنه قال : اليوم يرد لى بيت إسرائيل مملكة أبى " 2 صم 16 : 3
هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذى قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث . كلمات صيبا غير مقبولة ، لأنه لم يكن لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه ، لكن داود كان مهتما بأمور كثيرة وعاجلة ، مدركا أن مفيبوشث لن يمثل خطرا عليه أو على ابنه ، إنما فى عجلة وبغير تدقيق أغتاظ وحسب مفيبوشث خائنا وناكرا للجميل ، وأصدر قراره لصيبا : " هوذا لك كل ما لمفيبوشث " 2 صم 16 : 4 . سجد له صيبا وقال : " ليتنى أجد نعمة فى عينيك يا سيدى الملك " 2 صم 16 : 4 .
لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية ، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده ، الأمر الذى لم يكن يتوقعه قط ، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة ، منها :
( أ ) كان لداود أن يشرب من ذات الكأس التى ملأها بيده ، فقد خان أوريا الحثى ، وها هو يذوق خيانة أبنه له ، وأيضا خيانة أخيتوفل ، وهوذا مفيبوشث وغيرهم ، الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء !
( ب ) استخدم الله هذه التجربة لخيره ، فقد كان داود بحاجة ومن معه إلى الهدية التى قدمها له صيبا !
( جـ ) اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له ، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة ...
( 2 ) شمعى يسب داود
خرج من بحوريم شمعى بن جيرا من بيت شاول ، وكان بينه وبين داود ورجاله وادى ، فكان يرشقهم بالحجارة ، غالبا لم تكن تصلهم إنما هى علامة على غيظه واحتقاره لهم ، أما كلماته فكانت مسموعة .
كان يسب داود قائلا :
" اخرج اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال ،
لقد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذى ملكت عوضا عنه ،
وقد دفع الرب المملكة ليد أبنك ،
وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء " 2 صم 16 : 7 ، 8
كانت كلماته كالسهام القاتلة ، تحمل كراهية وضغينة مع كذب ، فإن داود لم يقاتل بيت شاول ليغتصب منهم الملك . على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة ، لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفا .
فى غيرة أراد أبيشاى أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبا إياه كلبا ميتا ، أما داود فمنعه حاسبا هذه الأهانة تأديبا من قبل الرب بسبب خطيته ، إذ قال :
" مالى ولكم يا بنى صروية ،
دعوه يسب ، لأن الرب قال له : سب داود .
ومن يقول : لماذا تفعل هكذا ؟ " 2 صم 16 : 10 .
" هوذا ابنى الذى خرج من أحشائى يطلب نفسى ، فكم بالحرى الآن بنيامينى ؟! دعوه يسب لأن الرب قال له ....
لعل الرب ينظر إلى مذلتى ويكافئنى الرب خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 ، 12 .
لم يكن ممكنا لهذه الشتائم أن تؤذى داود بل هى بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كى يغتصب المراحم الإلهية ، كلمات التملق التى نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكما خاطئا ومتعجلا فى غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعى المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكما صادقا على نفسه .
( 3 ) المناداة بأبشالوم ملكا
جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط ، جاء ليملك دون أن يسفك دما ، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه .
فوجىء أبشالوم بتقدم حوشاى الأركى صديق داود إليه وهو يقول : " ليحيا الملك ، ليحيا الملك " ، إذ لاحظ حوشاى تعجب أبشالوم قال بحكمة : " الذى اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم ، وثانيا : من أخدم ؟ أليس بين يدى ابنه ؟! كما خدمت بين يدى أبيك كذلك أكون بين يديك " 2 صم 16 : 18 ، 19 .
هكذا قدم حوشاى مبررات لعدم هروبه ، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندا لداود فى داخل القصر .
( 4 ) أبشالوم يدخل على سرارى أبيه
كان أخيتوفل مشيرا لأبشالوم ، يسمع له الملك الجديد كما لله ، حاسبا مشورته كمن يسأل كلام الله ( 2 صم 16 : 23 ) ، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس ، تحمل حكمة أرضية شهوانية .
أول مشورة قدمها له أخيتوفل هى أن يدخل على سرارى أبيه اللواتى تركهن داود لحفظ البيت ، صنع أبشالوم ذلك على السطح حتى يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه .
تم ذلك على السطح الذى سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لأمرأة غريبة ، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية فى ذات الموقع !
الأصحاح السابع عشر
إحباط مشورة أخيتوفل
( 1 ) مشورة أخيتوفل
تقدم أخيتوفل كمشير للملك إلى أبشالوم بخطة لتحقيق أهدافه ، وهى سرعة اللحاق بداود وهو متعب مع الشعب الذى معه ، لكى يضطرب داود ويتركه من معه ، فيبقى داود وحده ، يقتلونه ويرجع الشعب إلى أبشالوم دون مجهود يذكر . فى رأيه أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من أثنى عشر الف رجل منتخبين ينحركون فى ذات الليلة ليرجعوا فورا بنصرة أكيدة .
هذه المشورة حسبها الكتاب صالحة ( 2 صم 17 : 14 ) لا بمعنى أنها تحمل صلاحا وإنما لأنها قادرة على تحقيق هدف أبشالوم ، يلاحظ فيها الآتى :
أنها جاءت رمزا لمشورة رئيس الكهنة قيافا ضد ابن داود إذ قال : " أنتم لستم تعرفون شيئا ، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " ...
( 2 ) حوشاى يبطل المشورة
يرسل الله مع التجربة المنفذ ، فى كل عصر وجد المقاومون للحق كما أقام الله من يحطمون مقاومتهم أو يحولونها للبنيان .
مع استصواب أبشالوم مشورة أخيتوفل استدعى حوشاى الآركى يطلب أيضا مشورته ليأخذ قراره النهائى ، بحكمة تظاهر بأن أخيتوفل لم يصب فى هذه المرة ، مقدما مشورة أخرى تبدو أكثر صلاحا ، غايتها فى الواقع إنقاذ داود وخطوطها العريضة هى كالآتى :
( أ ) أن داود رجل حرب وأنه يتوقع ما أشار به أخيتوفل لهذا فهو لن يبيت الليلة مع الشعب وإنما يختفى فى مكان مجهول ، فى مغارة أو شق ، ولن يبلغ إليه رجال أبشالوم ، لذا تقوم حرب طاحنة يقتل فيها الكثيرون من الطرفين ويبقى داود على قيد الحياة ينغص حياة أبشالوم .
( ب ) التسرع ليس فى صالح أبشالوم أمام رجل حرب مثل الملك داود .
( جـ ) أن أبشالوم له إمكانيات جبارة ، شعبه ممتد من دان إلى بئر سبع بلا عدد ، فلماذا لا ينتفع بهذه الأمكانيات مكتفيا بأثنى عشر ألف رجل ؟!
( د ) أن الأمر لا يحتاج إلى قتل داود وحده وإنما الخلاص من كل رجاله حتى لا يسببون لأبشالوم كدرا ، إذ قال له : " لا يبقى منه ولا من جميع الرجال الذين معه واحد " 2 صم 17 : 12 . هذا الرأى يجد أستطابة فى قلب أبشالوم إذ لا يريد أيضا رجال داود .
( هـ ) هذه هى الحرب الأولى التى يقوم بها أبشالوم كملك فكيف لا يخرج مع رجاله ، لذا أشار عليه حوشاى : " وحضرتك سائر فى الوسط " 2 صم 17 : 11 . لعله هدف بهذا أن يموت أبشالوم فى الحرب فلا توجد بعد فرصة أخرى للمقاومة .
هذا ما قدمه حوشاى ، لكن السر الخفى وراء ذلك هو الله العامل الحقيقى لإنقاذ داود ، فقد أعطى لمشورة حوشاى نعمة فى عينى أبشالوم ، إذ قيل : " فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة لكى ينزل الرب الشر بابشالوم " 2 صم 17 : 14
( 3 ) بعث رسولين إلى داود
كان لابد لحوشاى أن يخبر داود بما حدث خلال الكهنة ، وقد استخدم الله الشعب والكهنة ، الرجال والنساء ، الشيوخ والشبان لتحقيق هذا الهدف ، ليعلن أن الكنيسة جسد واحد يتحرك كل أعضائها بروح واحدة ، كل عضو له دوره الفعال .
( أ ) أرسل حوشاى إلى الكاهنين صادوق وأبياثار يخبرهما بما حدث من جهة أخيتوفل ومن جانبه ، حتى يتحركا للعمل ( 2 صم 15 : 28 )
( ب ) انطلقت جارية من قبل الكاهنين الشيخين صادوق وأبياثار إلى ابنيهما الكاهنين الشابين : يوناثان ، وأخيمعص ، اللذين كانا واقفين عند عين روجيل ينتظران الرسالة
( جـ ) لم يكن الشابان قادرين على الظهور فى أورشليم ( 2 صم 17 : 17 ) لأنهما معروفان أنهما من تابعى داود ، ومع ذلك فقد رآهما غلام وأخبر أبشالوم بما حدث ، وكأن مع كل عمل نتوقع مقاومة من عدو الخير من حيث لا ندرى ، لذا لن تنجح أية خطة بشرية مهما أحكمت ما لم تتدخل عناية الله ونعمته .
( د ) انطلق الشابان إلى بيت رجل فى بحوريم ، وهى ذات المدينة التى خرج منها شمعى بن جيرا البنيامينى ليسب داود ويرشقه بالحجارة ، المدينة التى أخرجت رجلا يقاوم داود وجد فيها امرأة مؤمنة تعمل لحسابه ، إذ أخفت الرجلين فى بئر جافة وغطتها بسجف الباب وسطحت عليه سميذا ، يمكننا القول إن المدينة التى أخرجت إنسانا يهين داود فيحتمله باتساع قلب وجدت فيها امرأة متسعة القلب نحو داود ورجاله ، لقد سمع الرب لكلمات داود التى نطق بها هناك : " لعل الرب ينظر مذلتى ويكافئنى خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 .
حيث يوجد احتمال الأهانة والسب برضى يقوم الخلاص !
( هـ ) فتش عبيد أبشالوم عن الكاهنين الشابين فلم يجدوهما ، فقالت لهما : " قد عبرا قناة الماء " 2 صم 17 : 20 . هذا الكذب هو ضعف بشرى لا يمكن تبريره !
( و ) خرجا من البئر وأنطلقا إلى داود يخبرانه أن يعبر هو وشعبه الماء ( نهر الأردن ) سريعا بالرغم من صعوبة الأمر ، وبالفعل تم العبور طوال الليل متجهين نحو المشرق ، حتى لم يبق فى الصباح أحد لم يعبر الأردن ( 2 صم 17 : 22 ) .
( 4 ) انتحار أخيتوفل
لم يعمل أبشالوم بمشورة أخيتوفل المتعجرف ، لهذا انطلق إلى بيته حيث خنق نفسه ومات بعدما أوصى لبيته أى رتب أمور أسرته .
صار أخيتوفل رمزا ليهوذا الخائن الذى خنق نفسه أيضا .
( 5 ) استعداد أبشالوم للحرب
عبر داود ورجاله نهر الأردن إلى محنايم ، وهى مدينة للاويين عند تخم جاد الشمالى ( 2 صم 2 : 8 ) ، وكانت مدينة مناسبة لداود بسبب حصونها .
عبر أبشالوم الأردن ومعه رجال إسرائيل تحت قيادة عماسا ، الذى يحمل ذات القرابة لأبشالوم مثل يوآب ابن خالته ، وقد صار عماسا ثقلا على أبشالوم وليس معينا له ، إذ قتل أبشالوم فى المعركة الوحيدة التى قادها مع عماسا ضد أبيه .
( 6 ) داود فى محنايم
جاء داود ورجاله إلى محنايم حيث قدم لهم شوبى بن ناحاش وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاى الجلعادى أثاثات وطعاما ليأكلوا ، تقدمة محبة تقبلها داود وسط ضيقه ومتاعبه ، لذا ترنم بالمزمور 23 قائلا : " ترتب قدامى مائدة تجاه مضايقى " .
تلقى محبة عملية فى محنايم البعيدة عن عاصمة ملكه فى وقت قام فيها كثيرون من أصدقائه بمقاومته وخيانته .
+ + +