فتمَّ هذا الكلام قبل خراب أورشليم بعد ذلك بنحو 47 سنةً كما لا يخفى. فيعود الرب يذكر لهم أنهُ لا بد أن تصير حروب نعم وزلازل عظيمة أيضًا لأن الله أوقاتًا كثيرة يجري انقلابات في الطبيعة عندما يكون البشر مُتهيجيين بشرورهم وسفك الدماء. فلا عجب من ذلك غير أن علماء هذا الدهر في أيامنا لا يرون أقلَّ علاقة بين انقلابات البشر وانقلابات الطبيعة في الأرض والسماء لأنهم لا يعرفون الله ولا يقرُّون بأن يدهُ هي أُمور الناس كما أنها في العناصر أيضًا.ولكننا نحن نعلم من كلمتهِ أنهُ كثيرًا ما يجعل اضطراب العناصر كشهادة لغضبهِ على المسكونة. فهذا يصير وقد صار ثم المجاعات والأوبئة هي مما ينتج دائمًا من الحروب والقلاقل وقبل هذه كلها يلقون أيديهم عليكم ويطردونكم ويسلمونكم إلى مجامع الخ. فالكلام من هنا إلى آخر (عدد 19) يحتوي إنذارات وإرشادات للتلاميذ في ممارسة خدمتهم وشهادتهم خصوصًا في وسط اليهود قبل خراب أورشليم كان اليهود الغير المؤمنين أشدّ المقاومين لاسم المسيح وللمناداة بالبشارة انظر التاريخ المُتضمن في سفر الأعمال وشهادة بولس ضدّهم (تسالونيكي الأولى 14:2-16). فبينما كانت نعمة الله تعطيهم فرصة أخرى للتوبة ازدادوا حمقًا وعنادًا وأكملوا إثمهم وجلبوا على أنفسهم الغضب إلى النهاية. وفي أثناء ذلك كان ينبغي للمسيحيين أن يظهروا الثبات والثقة والصبر تلك الصفات الحسنة التي نُمجد الله بممارستنا إياها في كل حين لا سيما في وقت الضيق والاضطهاد.
20 وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ، فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا. 21 حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، وَالَّذِينَ فِي وَسْطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجًا، وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا، 22 لأَنَّ هذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ، لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. 23 وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هذَا الشَّعْبِ. 24 وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ، وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ. (عدد 20-24).
هذا الجواب الصريح لسؤالهم وما هي العلامة عندما يصير هذا. ولاحظ أن هذه العلامة لا تنفع إلاَّ تلاميذهُ الممارسين شهادتهم في أورشليم واليهودية. فمَتَى رأوا جيوش الأعداء محيطين بالمدينة ينبغي أن ينتبهوا ويُميزوا ذلك كعلامة لهم للفرار من المدينة وأما الذين في اليهودية فيهربوا إلى الجبال. غير أن العلامة المذكورة هنا تظهر أنها ضد الطبيعة وعديمة النفع بحيث إذا كان الأعداء يقتربون من المدينة ويحيطون بها لا يمكن حينئذ لأحد من سُكانها أن يخرج لأن العدو إذا تمكّن من محاصرة مدينة يعمل جهدهُ دائمًا أن يحجز سُكانها فيها ويقطع الدخول والخروج حتى ينفذ القوت والماء بأقرب وقت فلشدَّة الضيق يلتزمون بأن يُسلموا لهُ. فجاء الرومانيون إلى أورشليم وأحاطوا بها كما قال الرب تمامًا ولكن لم يلبث أن يبلغ خبر إلى قائدهم بأنهُ قد حصلت فتنة في جهة أخرى تبعد عن أورشليم نحو ستة أو سبعة أيام فالتزم أن يسحب جيوشهُ من أورشليم ويسير إلى تلك الجهة ليخمد الفتنة. وأما اليهود فلم يفهموا المقصد بذهابهِ عنهم ونسبوهُ للخوف وتعظموا أكثر ولكن المسيحيين تذكروا كلام الرب عن إحاطة أورشليم كعلامة فقاموا وعملوا بموجبهِ فتخلصوا تمامًا حتى قِيل انه لم يبقَ واحد منهم في المدينة وقت الحصار. ثم بعد قليل رجع الرومانيون وحاصروا المدينة وأخذوها وأخربوها وأحرقوا الهيكل وذبحوا ربوات من اليهود وشتَّوا الباقين إلى هذا اليوم كقول الرب هنا؛ لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب. فحينئذ أدركهم الغضب إلى النهاية يعني أن القصاص لا ينفك عنهم حتى يتم الكل. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام لأنه يكون ضيق عظيم على الأرض وسخط على هذا الشعب. لاحظ أن لوقا لا يذكر إقامة رجسة الخراب في مكان مقدس التي يذكرها مَتَّى، ومرقس لأن ذلك إنما يتم في المستقبل وقت الوحش والنبي الكذاب فإن لوقا إنما يتكلم عن الخراب الذي صار بواسطة الرومانيين. ولا يقول عن الضيق إلا انه يكون عظيمًا لا يقرنهُ مع نبوات دانيال مثل مَتَّى الذي يقول عنهُ انهُ لم يكن مثلهُ منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون، ويقعون بفم السيف ويُسَبون إلى جميع الأمم، وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكمل أزمنة الأمم. هذا تاريخ الأمة اليهودية بالاختصار من خراب مدينتهم إلى الآن. أزمنة الأمم عبارة عن مدة تسليم السلطان السياسي إلى أيديهم من وقت نبوخذ نصر إلى مجيء الرب ثانية وانه من الأمور المعلومة أن هذا السلطان لم يزل في أيدي الأمم لا في ملوك الأمم إلى ان يجيء الرب ليحاسبهم وتبقى أورشليم أيضًا مدوسة منهم إلى ذلك الوقت.
25 «وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ، 26 وَالنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. 27 وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. 28 وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هذِهِ تَكُونُ، فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ». (عدد 25-28.
قد رأينا في أخر الفصل السابق قول الرب عن أورشليم أنها تكون مدوسة من الأمم حتى تكمل أزمنة الأمم وطالما هي مدوسة يكون أولادها مشتتين وأما في هذا الفصل فيُشير إلى بعض الحوادث العتيدة أن تتم عند تكميل أزمنة الأمم وعند مجيئهِ ثانيةً، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم. قابل هذا مع (مَتَّى 29:24) وترى انهُ نفس الكلام الوارد هناك إلا أن مَتَّى يقول: وللوقت بعد ضيق تلك الأيام لانه سبق وأدرج كلام الرب عن إقامة رجسة الخراب وعن الحوادث المتعلقة بضيق أورشليم الأخير في وقت الوحش والمسيح الكذاب فلذلك قال عن العلامات في الاجرام السماوية المذكورة هنا أنها ستكون حالاً بعد ذلك وأما لوقا فلم يذكر قبلاً إلا دوس أورشليم وتفريق بنيها حتى تكمل أزمنة الأمم فلذلك إنما يذكر العلامات من الحوادث العتيدة أن تكون في نهاية هذه المدة الغير المحددة سبق وذكر في (عدد11) انه تكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء قبل خراب أورشليم بواسطة الرومانيين فصار هكذا وقتئذٍ ولكنهُ يتكلم عن موضوع أعظم هنا فإن العلامات في الشمس والقمر والنجوم تسبق ظهور ابن الإنسان بقوةٍ وتؤثر ليس في اليهود فقط بل في المسكونة أيضًا. وقابل هذا مع شهادات كثيرة في سفر الرؤيا عن العلامات التي ستحدث في الأجرام السماوية مدة الضربات المستقبلة، وعلى الأرض كرب أمم بحيرة البحر والأمواج تضجُّ. وقد وردت شهادات على هذا أيضًا في السفر المذكور آنفًا، والناس يغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة لآن قوات السماوات تتزعزع. هذا من جهة حالة أفكار الناس في الأيام الأخيرة، ولا شك عندي أننا نرى الآن بداءة هذه الحيرة والخوف وانتظار السوء لأن سكان المسكونة قد انتبهوا للأمور السياسية والتجارية والعلمية أيضًا وقد فقدوا الهدوء الذي كانوا عليهِ في الأجيال الماضية ونراهم الآن في كل الجهات مثل البحر المضطرب. ونرى فيهم شيئين يظهر أن أحدهما يُناقض الآخر بحيث من الجهة الواحدة يتظاهرون كأنهم ينتظرون إصلاح أُمورهم السيئة وإن مشروعاتهم لا بد أن تُكلَّل بالنجاح التام بعد وقت قليل كقولهم. هلموا آخذ خمرًا ولنشتفَّ مسكرًا ويكون الغد كهذا اليوم عظيمًا بل أزيد جدًّا (إشعياء 12:56). وأما من الأخرى فنراهم في الحيرة المُتزايدة وانتظار النكبات والبلايا لا سيما أرباب السياسة الخبيرين بحيث أنهم يخافون من نتيجة الحركات الحاضرة ويقولون بعض الأوقات أنهُ لا بد من حدوث حروب وانقلابات لتُخرب المسكونة بعد قليلٍ. لأن قوات السماوات تتزعزع. قوات السماوات عبارة عن مصادر الحكم والسياسة لأن الله نفسهُ قد رتَّب الحكم للبشر وفوَّض السلطان السياسي ليد البعض وأوجب على الآخرين أن يخضعوا لهم (انظر رومية 1:13-7). وراجع أيضًا معاملات الله التأديبية مع نبوخذ نصر (دانيال 19:4-37). لكي يتعلم ذلك الملك المُقتدر أن العلي مُتسلّط في مملكة الناس ويعطيها مَنْ يشاء. فتزعزُع قوات السماوات عبارة عن هيجان الناس ضد الملوك والسلاطين الفائقة خلاف ترتيب الله لهم وكأن خوف الله قد فُقد من قلوبهم إلى درجة عظيمة فلا يردعهم كما كان يعمل فيهم قبلاً. وهذا مما تتصف بهِ هذه الأيام الأخيرة. ولكني أقول للقارئ المسيحي أن لا يشغل أفكارهُ بالشرور المُتزايدة ولا يخاف مما هو عتيد أن يأتي على المسكونة لأن الرب وعدنا بأنهُ يختطفنا للقاءهِ قبل حدوث تلك الضربات المُخيفة. فما علينا إلاَّ أن نُحافظ على واجباتنا الاعتيادية المُرتَّبة لنا في كلمة الله فبدل ما يُغشى علينا من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة كما هي حالة الذين لا إيمان فيهم ننتظر ابن الله من السماء يسوع المسيح الذي أقامهُ من الأموات والذي يُنقذنا من الغضب الآتي. فكلما انقلبت أُمور العالم نتمسك برجائنا أكثر طالبين سرعة مجيء يوم الرب لا سيما اختطافنا من هذا المشهد المُظلِّم. وحينئذٍ يُبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابة بقوةٍ ومجد كثير. حينئذٍ يعني في ذلك الوقت أي وقت الضربات المُشار إليها قبلاً. ولا شك بأن إتيان ابن الإنسان هنا هو ظُهورهُ علانيةً كما ورد ذِكرهُ في (رؤيا إصحاح 19) وإذا راجعنا هذا السفر نرى أن الضربات تشتدُّ وتتزايد ويكون آخرها ظهور المسيح بالصفات المذكورة هنا. ومَتَى ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب. لا يخفى على مَنْ درس نبوات الرب أنهُ يوجّه هذا الكلام لتلاميذ من الإسرائيليين يكونون في ذلك الوقت في وسط الضربات ومُنتظرين المسيح من السماء لينقذهم بإبادتهِ أعدائهُ ثم يُبقيهم على الأرض ويورثهم إياها لأن العلامات تخصُّ اليهود لا الكنيسة المسيحية. لأننا نحن كمسيحيين لا ننتظر هلاك أعدائنا لكي ننجو نحن بل إنما ننتظر مُخلصًا من السماء بحسب وعدهِ ليُغيرنا بلحظةٍ بطرفة عين ويأخذنا إليهِ لنكون معهُ فوق عناصر هذا العالم المُضطربة. وأما الأتقياء من أسباط إسرائيل فيتأدَّبون من الضربات مع أن الله سيحفظ أكثرهم فيها فمَتَى ابتدأت تنسكب يتشجعون بقول الرب أن نجاتهم تقترب لأنهُ يُقصر أيام الضربات ويحصرها في مدة السبع السنين المُتنَّبأ عنها. ربما نقدر أن نُميّز بداءة الحوادث المُتنبأ عنها قبل الاختطاف كما سبقت وقلت ولكنهُ لا ينتج من ذلك أننا نُراقب العلامات لأن دعوتنا سماوية خلاف دعوة إسرائيل الأرضيَّة الذين لا يقدرون أن يمتلكوا ميراثهم إلاَّ بع دينونة الأحياء وتنقية الأرض بسيف العدل وأما نحن فإنما ننتظر الرب حسب وعدهِ الصادق ونعلم يقينًا أنهُ لا يوجد عدوٌ يقدر أن يمنعهُ من أن يأخذنا إليهِ بأقرب وقت.
29 وَقَالَ لَهُمْ مَثَلاً:«اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ التِّينِ وَكُلِّ الأَشْجَارِ. 30 مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ الصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. 31 هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ. 32 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 33 اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَيَزُولُ. 34 «فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً. 35 لأَنَّهُ كَالْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. 36 اِسْهَرُوا إِذًا وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هذَا الْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ابْنِ الإِنْسَانِ». (عدد 29-36).