( 1 ) مسح داود ملكا على يهوذا
مات شاول ويوناثان ، وكانت الخلافة لأيشبوشت بن شاول ، اسمه الأصلى [b]" أشبعل " 1 أى 8 : 33 ، أى " رجل البعل " أو " رجل ذو سيادة " . ولما كانت كلمة " بعل " قد تخصصت لإله الفينيقيين لذا تغير اسمه إلى أيشبوشت لتعنى " رجل الخزى " ، إذ كان ضعيفا غير قادر على العمل ، يحركه أبنير رئيس جيش شاول كيفما يريد .
أما داود الذى سبق فمسحه صموئيل ملكا سرا وسط إخوته ( 1 صم 16 ) ، فكان عند موت شاول ويوناثان فى صقلغ فى أرض الفلسطينيين ، وقد خلا له الجو إلى حد كبير ليستلم العرش ، أما هو فبحكمة واتزان لم يتسرع طالبا الحكم وإنما رأى أنه لا داعى لبقائه خارج وطنه .
داود – كرجل الله – سأل الرب فجاءت الأجابة الإلهية بالتوجه إلى :
" حبرون " من أعظم مدن يهوذا المقامة بين الجبال كحصون طبيعية . هناك جاءه رجال يهوذا ومسحوه ملكا علانية .
إن كانت " حبرون " تعنى " اقترانا " ، فإنه ما كان يمكن لداود أن يمسح ملكا ما لم يصعد هو وأسرته ورجاله إليها ليأتيه رجال يهوذا هناك . أقول إننا لن ننعم بالمسحة المقدسة لنحسب " ملوكا وكهنة " رؤ 1 : 6 ؛ 5 : 10 ما لم ننعم بالأتحاد مع ربنا يسوع " ملك الملوك " ، نقدم له حياتنا كلها ، النفس مع الجسد بكل إمكانياتهما وقدراتهما ومواهبهما ... لننعم بشركة مع الله فى ابنه يسوع المسيح ، فنملك معه .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم : أنه فى العهد القديم كان الروح القدس يهب مسحة للبعض فيقيم ملوكا أو كهنة أو أنبياء ، أما فى العهد الجديد – ففى المسيح يسوع – نلنا جميعا مسحة ليكون كل واحد منا ملكا وكاهنا ونبيا ، ملكا من حيث تنعمنا بالملكوت ،
وكهنة إذ نقدم أجسادنا ذبيحة ( رو 12 : 1 ) ،
وأنبياء إذ يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ( 1 كو 2 : 9 ) .
يرى البعض أن فى مسح داود ملكا على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) بواسطة رجال يهوذا كشفا عن نقطة ضعف اتسم بها سبط يهوذا ألا وهى ميله نحو الأنعزالية والأنفراد عن بقية الأسباط مما سبب متاعب كثيرة فيما بعد وانقسامات فى الشعب ، بل وانقسمت المملكة إلى أثنتين : مملكة إسرائيل ( 10 أسباط ) ومملكة يهوذا ( يهوذا وبنيامين ) إلى أيام السبى .
هذا ويلاحظ أن داود مسح ملكا ثلاث مرات :
( أ ) سرا فى بيت أبيه ( 1 صم 16 : 13 ) .
( ب ) مسحه على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) .
( ج ) مسحه على كل إسرائيل ( 2 صم 5 : 3 ) .
( 2 ) داود يمتدح أهل يابيش جلعاد
أول عمل قام به داود بعد مسحه ملكا على بيت يهوذا هو اهتمامه بمن قاموا بدفن شاول ويوناثان ، لقد عرف أنهم أهل يابيش جلعاد فأرسل إليهم يمتدحهم قائلا لهم :
" مباركون أنتم من الرب ...
والآن ليصنع الرب معكم احسانا وحقا ،
وأنا أيضا أفعل معكم هذا الخير ...
والآن فلتتشدد أيديكم وكونوا ذوى بأس ، لأنه قد مات سيدكم شاول وإياى مسح بيت يهوذا ملكا عليهم " 2 صم 2 : 5 – 7 .
هذا التصرف من جانب داود يستحق التقدير فقد قدم البركة ، والمكافأة ، وأستفاد من طاقات الآخرين لبنيان المملكة ، إنها صفات القائد الناجح .
( 3 ) أبنير يقيم إيشبوشت ملكا
أقام الله داود ملكا حيث مسحه بيت يهوذا ليقيم فى حبرون سبع سنوات ونصف ( 2 صم 2 : 11 ) بعدها مسح ملكا على جميع الأسباط . من الجانب الآخر انشغل أبنير رئيس جيش شاول فى استرجاع بعض المدن التى فقدت فى معركة جلبوع ؛ صار يجاهد لمدة خمس سنوات ونصف بعدها أقام ايشبوشت بن شاول ملكا على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) ، وعبر به إلى محنايم كعاصمة للمملكة . كان أبنير خائفا من داود لئلا يطرده من منصبه كرئيس جيش .
( 4 ) أبنير يثير حربا أهلية
بقى داود أمينا ومخلصا لشاول ويوناثان ، لم يفكر قط فى اغتصاب العرش رغم مسحه ملكا مرتين ، مكتفيا أن يعمل وسط سبطه يهوذا ، لكن أبنير عم شاول أراد أن يخضع يهوذا إيشبوشث ، فخرج ومعه رجال إيشبوشث من محنايم إلى جبعون ، واضطر يوآب وعبيد داود أن يخرجوا أيضا دون داود ، والتقى الطرفان على بركة جبعون كل على جانب مقابل الآخر ، يبدو أن رجال كل طرف من الطرفين لم يستريحوا لمقاتلة إخوتهم .... ولو ترك الأمر هكذا لرجع الطرفان كما قال يوآب فيما بعد لأبنير ( 2 صم 2 : 27 ) . لقد جلس الجميع على طرفى البركة ( 2 صم 2 : 13 ) ولم يتأهبوا للقتال ، أراد أبنير أن يلهب الجو فطلب أن يتقاتل بعض الغلمان ، قام 12 غلاما من كل طرف ، فأمسك كل واحد برأس صاحبه وضرب سيفه فى جنب صاحبه وسقط الأربعة وعشرين غلاما ، ودعى هذا الموضع " حلقث هصوريم " أى " صقل السيوف " .
أثار هذا المنظر الطرفين فقام الكل يتقاتلون ، وانكسر أبنير ورجاله أمام عبيد داود .
( 5 ) أبنير يقتل عسائيل
هزم أبنير ورجاله ، فهرب ، لكن عسائيل أراد أن يلحق به ويقتله ، وكان رئيسا لإحدى فرق الجيش ، خفيف الرجلين كالظبى لكنه لم يكن قويا فى الحرب كأخيه يوآب ولا كأبنير .
كلمة " عسائيل " معناها " الله يعمل " وهو ابن صروبة أخت داود ، أخو يوآب وابيشاى . ربما أخذه الحماس ليلحق بأبنير ليضع حدا فاصلا للحرب ، ويسرع بتسليم خاله داود الملك .
تطلع أبنير وراءه فشاهد عسائيل ، أراد أن يثنيه عن ملاحقته ، بدون جدوى ، فضربه أبنير بزج الرمح ضربة خفيفة كى لا يقتله ، أى ضربه بخلف الرمح ، ومع ذلك دخل الرمح فى بطنه وخرج من خلفه ، وسقط عسائيل ميتا .
إذ كان الجميع يحبونه هو وأخاه يوآب ، كان كل من يأتى إلى الموضع الذى سقط فيه يقف .
( 6 ) سعى يوآب وراء أبنير
سعى يوآب وأبيشاى وراء أبنير لينتقما لأخيهما عسائيل حتى الغروب عندما جاء أبنير إلى تل أمة الذى تجاه جيح .
اجتمع بنو بنيامين الين كانوا يطلبون نجاح إيشبوشث وقائده أبنير ، واستعدوا لمقاومة يوآب . فنادى أبنير يوآب ، وقال له : " هل إلى الأبد يأكل السيف ؟! ألم تعلم أنها تكون مرارة فى الأخير ؟! فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم ؟! " 2 صم 2 : 26 . هكذا شعر أبنير أن القتال لن يتوقف والخراب سيحل بالجميع لذا طلب من يوآب أن يرجع هو ورجاله عن مقاتلة إخوتهم . أجابه يوآب محملا إياه مسئولية ما حدث ...
أما قبول يوآب وقف الحرب بالرغم من قتل أخيه ، إنما لأنه يدرك ما فى قلب خاله داود الملك ، إنه لا يسعى ليملك بمقاتلة إخوته ، إنما ينتظر عمل الله الهادىء .
دفن القتلى فى أرض المعركة ، أما عسائيل فدفن فى بيت لحم فى مقبرة أبيه ( 2 صم 2 : 32 ) .
عبر أبنير الأردن إلى محنايم ، وذهب يوآب إلى حبرون حيث يملك داود .
+ + +
الأصحاح الثالث
أبنير ينضم إلى داود
( 1 ) حرب بين بيت شاول وبيت داود
إذ ملك ابنير نسيب شاول إيشبوشث على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) بقى داود صامتا ينتظر يد الله ومواعيده الأمينة والصادقة ، فإنه لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت حكمه ولا مقاومة الملك الجديد ، بدأ إيشبوشث حربه بتحريض وقيادة أبنير الذى كان يصر على أن يبقى الملك فى يد شاول بالرغم من ادراكه أن الله حلف لداود أن يهبه الملك ( 2 صم 3 : 10 ، 11 ) .
كانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود المصر على عدم مقاومة الملك أو الأساءة إلى بيت شاول . قيل : " وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود ، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف " 2 صم 3 : 1 . خلال هذه الفترة كان الله يعمل وسط شعبه ليجتذبهم تدريجيا نحو داود لا خلال القهر والألزام بل خلال حياته المقدسة الهادئة .
( 2 ) أبنير يقاوم إيشبوشث
كان داود يملك على القليل ( سبط واحد ) وإيشبوشث يملك على الكثير ( بقية الأسباط ) ، لكن داود حمل مجده فى داخله خلال إيمانه بالله العامل فيه ، أما إيشبوشث فارتكزت قوته على أبنير نسيبه ورئيس جيشه ، لذا كان الأول يزداد مجدا من يوم إلى يوم والثانى يزداد انهيارا من وقت إلى آخر .
دخل أبنير على سرية شاول فعاتبه إيشبوشث الضعيف الشخصية بعنف ، ليس دفاعا عن الحياة المقدسة وإنما لأنه حسب أنه بذلك يريد أن ينسب الملك إلى نفسه . لم يقبل أبنير هذا العتاب لأنه هو الذى أقامه ملكا . فى عنف وبخ الملك قائلا لـه : " ألعلى أنا رأس كلب ليهوذا ؟! أليوم أصنع معروفا مع بيت شاول أبيك مع إخوته ومع أصحابه ولم أسلمك ليد داود وتطالبنى بإثم امرأة ؟!
ربما أراد أبنير أن يستغل الفرصة لينحاز إلى داود عندما رأى أن يد الرب معه . إذ قال لإيشبوشث : " كما حلف الرب لداود كذلك أصنع له . لنقل المملكة من بيت شاول وإقامة كرسى داود على إسرائيل وعلى يهوذا من دان إلى بئر سبع " ( أى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ) .
كان أبنير معتدا بذاته ، يظن أنه يستطيع أن يتعامل مع داود مثلما يتعامل مع إيشبوشث ؛ يقيم ويعزل ملوكا ، لكنه لم يدرك أنه قبلما يتحقق مسح داود ملكا على كل الأسباط يموت ابنير ، إنه يمثل الذراع البشرى المتشامخ الذى يظن أن الأمور تجرى بيده بدون المعونة الإلهية .
لذا يقول داود النبى فى المزمور : " لا تتكلوا على الرؤساء ، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده ، تخرج روحه فيعود إلى ترابه .... طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه " مز 146 : 3 – 5 .
( 3 ) إقامة عهد بين أبنير وداود .
لقد صمت إيشبوشث أمام تهديدات أبنير ولم ينطق بكلمة لأنه نال الملك من يده لا من يد الله ، معتمدا على ذراع بشر ، أما أبنير فلم يكن محتاجا إلى وقت للتفكير فى الأمر ، إذ يبدو أن فكرة التخلى عن إيشبوشث قد سيطرت عليه تماما ، لهذا " أرسل أبنير من فوره رسلا إلى داود قائلا : لمن هى الأرض ؟! يقولون اقطع عهدك معى وهوذا يدى معك لرد جميع إسرائيل إليك " 2 صم 3 : 12 ، هكذا يتعهد أبنير – خلال رسله – أن يرد جميع الأسباط إلى داود على أن يقيله فى خدمته ويعفو عن كل ما فعله من عصيان .
قبل داود الملك هذا العرض مشترطا لإقامة العهد أن ترد إليه زوجته الأولى ، ميكال ابنة شاول التى أعطاها والدها لفلطئيل بن لايش ( 1 صم 25 : 44 ) .
لماذا وضع داود هذا الشرط ؟
يرى البعض أن داود طلبها ليس حبا فيها وإنما لأسباب سياسية ، وهو ابراز أنه أولا وقبل كل شىء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعا من الشرعية فى تولى الملك ، ورأى آخرون فى هذا التصرف ردا لكرامة داود الذى اغتصبت زوجته وسلمت لآخر .
هناك رأى آخر ، فهو يستطيع أن يرد ميكال بعد تولى العرش ، ولكنه فى هذه الحالة سيحسب عنيفا ومستغلا لسلطاته ، إنما أراد داود أن يبرز أنه أمين لزوجته ميكال التى أحبها ، هذه الأمانة فى نظره أولى من تسلمه الملك . إن لم يكن أمينا مع زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله .
بناء على طلب أبنير : قام إيشبوشث برد ميكال ( أخته ) إلى داود ، وكان رجلها يسير معها ويبكى وراءها إلى بحوريم .
( 4 ) يوآب يغدر بأبنير
كنا نتوقع من داود النبى والملك أن يتحرك فرحا ليستغل الفرصة ليجمع الأسباط تحت سلطته ، لكن ما حدث أنه وقف فى حب وثقة بالله يتأمل عمل الله معه ، فكان المتحرك هو أبنير ، إذ بادر بالوفاء بوعده ، متحدثا مع شيوخ إسرائيل عن إقامة داود ملكا كطلبهم السابق وتحقيقا لمشيئة الله . أخذ أبنير عشرين رجلا من شيوخ الأسباط ، وانطلقوا إلى داود الذى أقام لهم وليمة علامة الأتحاد وإقامة عهد معهم .
تأثر أبنير بلقاء داود مع العشرين شيخا لذا طلب من داود أن يسمح له بالذهاب إلى الأسباط لتدبير الأمور الخاصة بتجليسه رسميا ملكا ( 1 أى 11 : 1 – 3 ) .
عاد يوآب مع رجاله وسمع بما تم بين داود وأبنير فثارت ثائرته ، ربما لأنه كان يخشى أن يحتل ابنير مركزه ، لقد انتهر داود الملك متهما ابنير أنه جاسوس جاء ليخدع الملك حتى يخرج ويثير الأسباط لمحاربته ، أما داود فصمت ليس خوفا من يوآب كما صمت إيشبوشث أمام أبنير ، وإنما استخفافا بفكر يوآب ، وتصرفاته المتهورة فى مواقف كثيرة .
استدعى يوآب أبنير سرا ( دون علم داود الملك ) ، وإذ مال إليه اغتاله انتقاما لأخيه عسائيل ، ولأنه خشى أن يحتل مركزه كرئيس جيش داود .
لم يكن لائقا برجل حرب كيوآب أن يقتل إنسانا أئتمنه على نفسه وجاءه يتفاوض معه ، إنما كان يجب أن يصارحه ويبارزه إن أراد ... فقد أوصى موسى الشعب : " ملعون من يقتل قريبه فى الخفاء " تث 27 : 24 .
( 5 ) داود يحزن على أبنير
كم كان داود شهما ونبيلا عندما أعلن رسميا وشخصيا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب ، معلنا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به ( 2 صم 3 : 29 ) .
أعلن داود رأيه رسميا بسيره وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يمزقوا ثيابهم ويتمنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان ابنير ، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصى فقد بكى عليه وصام النهار كله . لقد تأثر به الشعب جدا وبكوا معه ، نسى داود أن ابنير عدوه الذى كان يثير الحرب بينه وبين إيشبوشث وتذكر أنه قائد عظيم كان يمكن الأنتفاع منه فى محاربة الوثنيين .
فى مرثاته قال : " هل كموت أحمق يموت أبنير ؟! يداك لم تكونا مربوطتين ورجلاك لم توضعا فى سلاسل نحاس . كالسقوط أمام بنى الإثم سقطت " 2 صم 3 : 33 ، 34 .
لم يعزل داود يوآب من عمله ربما لأنه لم يجد مثله كرجل حرب وربما لأنه رأى أن ما فعله يوآب كان يهدف إلى الدفاع عن مملكة داود حاسبا أبنير جاسوسا ومخادعا .
+ + +